فصل: حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمِنْهُمْ مَنِ الْتَمَسَ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِيَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ، فَوَجَدُوا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَنَعَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ، مُتَأَوِّلًا لِآيَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهَا أَنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَلَا عَلَيَّ هَذِهِ الْآيَةَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَآيَةَ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (2: 221) انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَظَاهِرُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَحَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مَعَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ تَأَوَّلَ آيَةَ الْبَقَرَةِ، فَهُوَ إِذَا صَحَّ اجْتِهَادٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابِيِّ يُعْمَلُ بِهِ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ، بَلْ مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ مُطْلَقًا، وَمَنْ قَالَ بِهِ اشْتَرَطَ عَدَمَ النَّصِّ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ تَرْجِيحًا بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُمْ وَالِدُهُ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيَّةَ، وَلَا يَتَزَوَّجُ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَةَ».
وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (60: 10) وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ اللَّوَاتِي أَسْلَمَ أَزْوَاجُهُنَّ وَبَقِينَ عَلَى شِرْكِهِنَّ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْجَاهِلِينَ بِأَخْلَاقِ الْبَشَرِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِلْظَةَ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الدِّينُ، وَتَعْلُو كَلِمَتُهُ، وَتَنْتَشِرُ دَعْوَتُهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ سُوءَ الْمُعَامَلَةِ هُوَ أَعْظَمُ الْمُنَفِّرَاتِ {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3: 159) وَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بِتِلْكَ السُّرْعَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ فِي دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ إِلَّا بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ أَهْلِهِ لِمَنْ يُعَاشِرُونَهُمْ، وَيَعِيشُونَ مَعَهُمْ، وَلَوْلَا تَرْكُ الْخَلَفِ لِسُنَّةِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَحَدٌ لَمْ يَدْخُلِ الْإِسْلَامَ بِاخْتِيَارِهِ، بَلْ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ.
نَقُولُ هَذَا تَمْهِيدًا لِبَيَانِ حِكْمَةِ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَا تَحَرُّجٍ مِنْ تَذْكِيَتِهِمْ، وَحِلِّ نِسَائِهِمْ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ غَرَضِ الشَّارِعِ بِذَلِكَ تَأَلُّفِهِمْ لِيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِمْ، فَقَدْ أَكْمَلَهُ اللهُ تَعَالَى بِحَسْبِ سُنَّتِهِ فِي التَّرَقِّي الْبَشَرِيِّ وَالتَّدْرِيجِيِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى كَمَالِهِ، وَهَذَا مِنْ مُنَاسَبَاتِ جَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الْآيَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ (رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ):
الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْعِنَادِ، فَقَالَ لَهُمْ: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2: 111) وَعَنَّفَ الْمُنَازِعِينَ إِلَى الشِّقَاقِ عَلَى مَا زَعْزَعُوا مِنْ أُصُولِ الْيَقِينِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَغْيٌ وَخُرُوجٌ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَلَمْ يَقِفْ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حَدِّ الْمَوْعِظَةِ بِالْكَلَامِ وَالنَّصِيحَةِ بِالْبَيَانِ، بَلْ شَرَعَ شَرِيعَةَ الْوِفَاقِ وَقَرَّرَهَا فِي الْعَمَلِ، فَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَوَّغَ مُؤَاكَلَتَهُمْ، وَأَوْصَى أَنْ تَكُونَ مُجَادَلَتُهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُحَاسَنَةَ هِيَ رَسُولُ الْمَحَبَّةِ وَعَقْدُ الْأُلْفَةِ، وَالْمُصَاهَرَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ التَّحَابِّ بَيْنَ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ، وَالِارْتِبَاطِ بَيْنَهُمَا بِرَوَابِطِ الِائْتِلَافِ، وَأَقَلُّ مَا فِيهَا مَحَبَّةُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ، وَهِيَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (30: 21) انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِيمَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ، هِيَ إِزَالَةُ الْجَفْوَةِ الَّتِي تَحْجُبُهُمْ عَنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ؛ بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِهِ لَهُمْ بِالْمُعَامَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ- فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مُظْهِرًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَسَالِكًا سَبِيلَهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً صَالِحَةً لِامْرَأَتِهِ وَلِأَهْلِهَا فِي الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَرَ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ فَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالتُّرْكِ يَتَزَوَّجُونَ مِنْ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ، وَلَكِنَّهُمْ يَسْتَدْبِرُونَ بِذَلِكَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ، فَيَرَى أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ دُونَ امْرَأَتِهِ وَيَجْعَلُهَا قُدْوَةً لَهُ، وَلَا يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَحُ لَهَا بِتَنْصِيرِ أَوْلَادِهِ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ، فَفِتْنَتُهُمْ بِالْكُفْرِ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَتِهِمْ بِالنِّسَاءِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(تَتِمَّةٌ وَاسْتِدْرَاكٌ فِي مَبَاحِثِ حِلِّ الطَّعَامِ وَحَرَامِهِ وَالتَّذْكِيَةِ وَالتَّسْمِيَةِ)
كَتَبْنَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُسْتَعِينِينَ عَلَى فَهْمِهَا بِبَيَانِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَرَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ شَأْنُنَا فِي فَهْمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، نَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ وَبِأَسَالِيبِ لُغَةِ الْعَرَبِ وَسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ. ثُمَّ رَاجَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا كَتَبْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ حِلِّ الطَّعَامِ وَحَرَامِهِ فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ، فَرَأَيْنَا مَا كَانَ مِنْهُ بِفَهْمِنَا وَاجْتِهَادِنَا مُوَافِقًا لِمَا هُنَا مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ لِحِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَنُقُولٍ مِنْ كُتُبِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُلَخِّصَ مِنْهُ مَا يَأْتِي إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْمُضِلِّينَ الْجَاهِلِينَ سُلْطَانٌ عَلَى الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ يُضِلُّونَهُ بِهِ، كَمَا فَعَلَ أَشْيَاعُهُمْ مِنْ نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ؛ إِذْ سُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْمُفْتِي عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (فِي التِّرِنْسِفَالِ) يَضْرِبُونَ رَأْسَ الثَّوْرِ بِالْبَلْطَةِ، ثُمَّ يَذْبَحُونَهُ وَلَا يُسَمُّونَ اللهَ، كَمَا يَذْبَحُونَ الشَّاةَ بِدُونِ تَسْمِيَةٍ، فَأَفْتَى بِحِلِّ ذَبِيحَتِهِمْ هَذِهِ، فَقَامَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ يُشَنِّعُ عَلَى هَذِهِ الْفَتْوَى فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ، وَيَعُدُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةَ مِنَ الْمَوْقُوذَةِ وَيَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا، فَكَتَبْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ بَيَانَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَجَاءَتْنَا رَسَائِلُ مِنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ مِصْرَ وَالْغَرْبِ، فَنَشَرْنَاهَا تَأْيِيدًا لِمَا كَتَبْنَاهُ فِي تَأْيِيدِ الْفَتْوَى، ثُمَّ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْأَزْهَرِ وَأَلَّفُوا رِسَالَةً أَيَّدُوا بِهَا الْفَتْوَى بِنُصُوصِ مَذَاهِبِهِمْ، وَطَبَعَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَمِيدِ حَمْرُوشُ (مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ وَقُضَاةِ الشَّرْعِ لِهَذَا الْعَهْدِ) وَهَاكَ مَا رَأَيْنَا زِيَادَتَهُ الْآنَ:

.حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ:

بَيَّنَّا حِكْمَةَ تَحْرِيمِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ ثَلَاثِ وُجُوهٍ، أَوْ ذَكَرْنَا لَهُ ثَلَاثَ حِكَمٍ:
(1) تَعْظِيمُ شَأْنِ الْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا لِيَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعْتَمِدًا عَلَى كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ، فَإِنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِزْهَاقِ رُوحِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ، وَلَهَا صُوَرٌ وَكَيْفِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ.
(2) أَنَّ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ يَغْلِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ لِمَرَضٍ أَوْ أَكْلِ نَبَاتٍ سَامٍّ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ لَحْمُهُ ضَارًّا، وَكَذَا إِذَا مَاتَ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ وَانْحِلَالِ الطَّبِيعَةِ.
(3) اسْتِقْذَارُ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ لَهُ وَاسْتِخْبَاثُهُ وَعَدُّ أَكْلِهِ مَهَانَةً تُنَافِي عِزَّةَ النَّفْسِ وَكَرَامَتَهَا، ثُمَّ قُلْنَا هُنَالِكَ مَا نَصُّهُ:
وَأَمَّا مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَخْ، فَيَظْهَرُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِهِ كُلُّ مَا ذُكِرَ إِلَّا حِكْمَةَ تَوَقِّي الضَّرَرِ فِي الْجِسْمِ، فَيَظْهَرُ فِيهِ بَدَلُهَا تَنْفِيرُ النَّاسِ عَنْ تَعْرِيضِ الْبَهِيمَةِ لِلْمَوْتِ بِإِحْدَى هَذِهِ الْمِيتَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الشَّرْعَ يَأْمُرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَيَنْهَى عَنْ تَعْذِيبِهِ، أَوْ تَعْرِيضِهِ لِلتَّعْذِيبِ، وَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَهَاوَنُ فِي ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِ كَيْلَا يَتَهَاوَنَ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الرُّعَاةَ يَغْضَبُونَ أَحْيَانًا عَلَى بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَيَقْتُلُونَهُ بِالضَّرْبِ، وَيُحَرِّشُونَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ فَيُغْرُونَ الْكَبْشَيْنِ بِالتَّنَاطُحِ حَتَّى يَهْلَكَا أَوْ يَكَادَا، وَمَنْ كَانَ يَرْعَى أَنْعَامَ غَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا أَكْثَرَ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا هَلَكَ بِتِلْكَ الْمِيتَاتِ حَلَالًا لَمَا بَعُدَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الرُّعَاةُ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ التُّحُوتِ تَعْرِيضَ الْبَهَائِمِ لَهَا لِيَأْكُلُوهَا بِعُذْرٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْحَذْفِ- وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْحَصَا- وَالْبُنْدُقِ- الطِّينِ الْمَشْوِيِّ- لِذَلِكَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. انْتَهَى.
ثُمَّ ذَكَرْنَا (فِي ص 822 م 6) حِكْمَةً أُخْرَى فِي ضِمْنِ مَقَالَةٍ وَعْظِيَّةٍ لِعَالِمٍ مَغْرِبِيٍّ أَيَّدَ بِهَا فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، قَالَ: وَهَلْ عَرَفَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ حِكْمَةَ الذَّبْحِ الْمُعْتَادِ، وَشُيُوعِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، مَعَ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الصَّيْدِ وَالدَّابَّةِ الشَّارِدَةِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَالْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ قَتْلٍ بِحَسْبِ الْأَصْلِ مُوَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ، وَلَكِنَّ اللهَ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِنَا وَبِالْحَيَوَانِ، جَعَلَ بَيْنَنَا قِسْمَةً عَادِلَةً وَمِنَّةً عَامَّةً، فَحَرَّمَ عَلَيْنَا مَا قَتَلَهُ الْحَيَوَانُ، وَمَا مَاتَ فِي الْخَلَاءِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنَّا، لِيَبْقَى ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْحَيَوَانِ يَأْكُلُهُ؛ لِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ أَنْ نَأْكُلَ مَا لَمْ نَقْصِدْهُ وَلَمْ نُفَكِّرْ فِيهِ، فَأَمَّا الْمُذَكَّى وَالصَّيْدُ وَالسَّمَكُ، وَالْجَرَادُ وَنَحْوُهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا لَا تُؤْخَذُ إِلَّا بِالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ. انْتَهَى.
أَقُولُ: إِنَّنِي لَمَّا رَأَيْتُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ خَطَرَتْ فِي بَالِي تَذَكَّرْتُ أَنْ أُرَاجِعَ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ؛ لَعَلِّي أَجِدُّ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا أَقْتَبِسُهُ فِي هَذَا الْمَقَالِ، فَرَأَيْتُهُ أَطَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مُرَاعِيًا فِيهَا الْمُعْتَمَدُ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ إِلَّا أَنَّهُمَا نَجِسَانِ، وَفِي الْخِنْزِيرِ إِلَّا أَنَّهُ مُسِخَ بِصُورَتِهِ قَوْمٌ، وَقَدْ أَعْجَبَنِي فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: فِي اخْتِيَارِ أَقْرَبِ طَرِيقٍ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ اتِّبَاعُ دَاعِيَةِ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ خَلَّةٌ يَرْضَى بِهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُقْطَعُ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ أَقُولُ: كَانُوا يُجِبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَيَقْطَعُونَ أَلِيَّاتِ الْغَنَمِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْذِيبٌ وَمُنَاقَضَةٌ لِمَا شَرَعَ اللهُ مِنَ الذَّبْحِ، فَنُهِيَ عَنْهُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ سَأَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ قَتْلِهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: أَنْ يَذْبَحَهُ فَيَأْكُلَهُ، وَلَا يَقْطَعَ رَأْسَهُ فَيَرْمِيَ بِهِ أَقُولُ: هاهنا شَيْئَانِ مُشْتَبِهَانِ لابد مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، أَحَدُهُمَا: الذَّبْحُ لِلْحَاجَةِ وَاتِّبَاعِ إِقَامَةِ مَصْلَحَةِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالثَّانِي: السَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِ نَوْعِ الْحَيَوَانِ، وَاتِّبَاعِ دَاعِيَةِ قَسْوَةِ الْقَلْبِ. انْتَهَى. وَهُوَ مُوَافِقٌ وَمُؤَيِّدٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.

.حِكْمَةُ إِبَاحَةِ قَتْلِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ:

ذَهَبَ بَعْضُ الْبَرَاهِمَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ إِلَى أَنَّ تَذْكِيَةَ الْحَيَوَانِ وَصَيْدَهُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ قَبِيحٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُعَذِّبَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ لِأَجْلِ شَهْوَتِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَبَاحَتْ أَكْلَ الْحَيَوَانِ كَالْمُوسَوِيَّةِ وَالْعِيسَوِيَّةِ وَالْمُحَمَّدِيَّةُ، وَمِمَّا يَطْعَنُ بِهِ النَّاسُ فِي أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ الْفَيْلَسُوفِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ اسْتِقْبَاحًا لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَعُدُّهُ تَوَحُّشًا، لَا أَنَّهُ كَانَ يَعَافُهُ بِطَبْعِهِ كَكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ يُشْعِرُ بِهَذَا مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَرِضَ فَوَصَفَ لَهُ الطَّبِيبُ فَرُّوجًا، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ مَطْبُوخًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَضْعَفُوكَ فَوَصَفُوكَ، هَلَّا وَصَفُوا شِبْلَ الْأَسَدِ؟.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ لَوْ لَمْ تُبِحْ لِلنَّاسِ أَكْلَ الْحَيَوَانِ لَكَانَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَرِدُ عَلَى نِظَامِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَنِهِ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ بَعْضًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَالْإِنْسَانُ أَجْدَرُ بِأَنْ يَأْكُلَ بَعْضَ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ اللهَ فَضَّلَهُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَسَخَّرَهَا لَهُ كَمَا سَخَّرَ لَهُ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْقُوَى؛ لِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْعَجَائِبِ وَاللَّطَائِفِ وَالْمَحَاسِنِ. وَامْتِنَاعُ النَّاسِ عَنْ أَكْلِ مَا يَأْكُلُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْأَنْعَامِ لَا يَعْصِمُهَا مِنَ الْمَوْتِ بِالْمَرَضِ أَوِ التَّرَدِّي، أَوْ فَرْسِ السِّبَاعِ لَهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ كُلُّ مِيتَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمِيتَاتِ أَهْوَنَ وَأَخَفَّ أَلَمًا مِنَ التَّذْكِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي كَتَبَ اللهُ فِيهَا الْإِحْسَانَ وَمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَنَحْنُ نَرَى الشَّاةَ إِذَا شَمَّتْ رَائِحَةَ الذِّئْبِ أَوْ سَمِعَتْ عُوَاءَهُ تَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الدَّجَاجِ مَعَ الثَّعْلَبِ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ الْمُفْتَرِسَةِ مَعَ السِّبَاعِ الْمُفْتَرِسَةِ، وَإِنَّمَا أَلَمُ الذَّبْحِ لَحْظَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَقُولُ عُلَمَاءُ الْحَيَاةِ: إِنَّ إِحْسَاسَ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ بِالْأَلَمِ أَضْعَفُ مِنْ إِحْسَاسِ الْإِنْسَانِ بِهِ، فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْظُمُ أَلَمُهُمْ مِنَ الْجُرْحِ، فَرُبَّمَا يُقْطَعُ عُضْوُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِعِلَّةٍ بِهِ وَلَا يَتَأَوَّهُ، وَقَدْ يُغْمَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا إِذَا خُدِّرُوا تَخْدِيرًا لَا يَجِدُونَ مَعَهُ أَلَمًا وَلَا شُعُورًا.

.مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ:

جَاءَ فِي ص (97) مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ «الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ» لِابْنِ عَابِدِينَ الشَّهِيرِ، صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ الشَّهِيرَةِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مَا نَصُّهُ:
سُئِلَ فِي ذَبِيحَةِ الْعَرَبِيِّ الْكِتَابِيِّ هَلْ تَحِلُّ مُطْلَقًا أَوْ لَا (الْجَوَابُ) تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنَ الذَّابِحِ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ حَقِيقَةً كَالْمُسْلِمِ، أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِكِتَابٍ مِنْ كُتِبِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ، فَصَارَ كَالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي الْكِتَابِيِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا يَهُودِيًّا، حَرْبِيًّا أَوْ عَرَبِيًّا تَغْلِبِيًّا؛ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَالْمُرَادُ بِطَعَامِهِمْ: مُذَكَّاهُمْ، قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ» وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الطَّعَامِ غَيْرِ الْمُذَكَّى يَحِلُّ مِنْ أَيِّ كَافِرٍ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِالْمُذَكَّى، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكِتَابِيِّ أَنَّهُ سَمَّى غَيْرَ اللهِ؛ كَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ، وَأَمَّا لَوْ سَمِعَ فَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} وَهُوَ كَالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْيَهُودِيِّ أَنْ يَكُونَ إِسْرَائِيلِيًّا، وَفِي النَّصْرَانِيِّ أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ؟ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ، وَبِهِ أَفْتَى «الْجَدُّ» فِي الْإِسْرَائِيلِيِّ، وَشَرَطَ فِي «الْمُسْتَصْفَى» لِحِلِّ مُنَاكَحَتِهِمْ عَدَمَ اعْتِقَادِ النَّصْرَانِيِّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي «الْمَبْسُوطِ» فَإِنَّهُ قَالَ: «وَيَجِبُ أَلَّا يَأْكُلُوا ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ، وَأَنَّ عُزَيْرًا إِلَهٌ، وَلَا يَتَزَوَّجُوا نِسَاءَهُمْ» لَكِنَّ فِي «مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ»: وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ النَّصْرَانِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قَالَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَوْ لَا، وَمُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْآيَةِ: الْجَوَازُ، كَمَا ذَكَرَهُ التِّمِرْتَاشِيُّ فِي فَتَاوَاهُ، وَالْأَوْلَى أَلَّا يَأْكُلَ ذَبِيحَتَهُمْ وَلَا يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا حَقَّقَهُ الْكَمَالُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَاللهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْأَنَامِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ فِي رَسَائِلِهِ: قَالَ الْإِمَامُ: وَمَنْ دَانَ دِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ، أُكِلَ ذَبِيحَتُهُ وَحَلَّ نِسَاؤُهُ، وَحَكَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِيهِمْ، أَوْ فِي أَحَدِهِمْ، فَكَتَبَ مِثْلَ مَا قُلْنَا، فَإِذَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ، فَلَا يَجُوزُ إِذَا جَمَعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بَيْنَهُمْ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَنِسَاؤُهُ، وَبَعْضَهُمْ يَحْرُمُ، إِلَّا بِخَبَرٍ مُلْزِمٍ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خَبَرًا، فَمَنْ جَمَعَتْهُ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ فَحُكْمُهُ وَاحِدٌ. انْتَهَى بِحُرُوفِهِ. انْتَهَى مَا فِي الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ بِحُرُوفِهِ، وَبِهَذِهِ الْفَتْوَى أَيَّدَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ الْفَتْوَى التِّرِنْسِفَالِيَّةِ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.