فصل: حُكْمُ مَا خَنَقَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.حُكْمُ مَا خَنَقَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

ذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ بَيْرَمٌ الْخَامِسُ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ (صَفْوَةُ الِاعْتِبَارِ) مَبْحَثًا طَوِيلًا فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ أُورُبَّةَ، وَنَقَلَ عَنْ عُلَمَاءِ مَذْهَبِهِ أَنَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ مُطْلَقًا، وَجَاءَ بِتَفْصِيلٍ فِي أَنْوَاعِ الْمَأْكُولِ فِي أُورُبَّةَ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ:
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخَنْقِ، فَإِنْ كَانَ لِمُجَرَّدِ شَكٍّ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ لِتَحَقُّقٍ فَلَمْ أَرَ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ مُصَرَّحًا بِهِ عِنْدَنَا، وَقِيَاسُهَا عَلَى تَحْقِيقِ تَسْمِيَةِ غَيْرِ اللهِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحِلَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعَيْنَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ فَالْقِيَاسُ عَلَيْهَا يُفِيدُ الْحِلِّيَّةَ، حَيْثُ خُصِّصُوا بِآيَةِ {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَآيَةِ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} (6: 121) وَآيَةِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَكَذَلِكَ تَكُونُ مُخَصِّصَةً لِآيَةِ الْمُنْخَنِقَةِ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ خَاصًّا بِفِعْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِبَاحَةِ عَامَّةً فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَذَلِكَ الثَّانِي، وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُ رِسَالَةً لِأَحَدِ أَفَاضِلِ الْمَالِكِيَّةِ نَصَّ فِيهَا عَلَى الْحِلِّ، وَجَلَبَ النُّصُوصَ مِنْ مَذْهَبِهِ بِمَا يَنْثَلِجُ بِهِ الصَّدْرُ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ عَمَلُ الْخَنْقِ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الذَّكَاةِ، كَمَا أَخْبَرَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ: التَّوَصُّلُ إِلَى قَتْلِ الْحَيَوَانِ بِأَسْهَلِ قِتْلَةٍ؛ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى أَكْلِهِ، بِدُونِ فَرْقٍ بَيْنَ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِ الْإِنْجِيلِ، عَلَى زَعْمِهِمْ- فَلَا مِرْيَةَ فِي الْحِلِّيَّةِ عَلَى هَاتِهِ الْمَذَاهِبِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَسُوغُ تَقْلِيدُ الْحَنَفِيِّ لِغَيْرِ مَذْهَبِهِ؟ قُلْتُ: أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُقَلِّدُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَقَلَّدَ الْحَنَفِيَّ عَنْ تَرْجِيحِ بُرْهَانٍ فَهَذَا رُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ تَرْجِيحُ دَلِيلِ الْحِلِّ ثَانِيًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ الْبَحْتِ، كَمَا هُوَ فِي أَهْلِ زَمَانِنَا، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَئِمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَالْعَامِّيُّ لَا مَذْهَبَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ مُفْتِيهِ، وَقَوْلُهُ: أَنَا حَنَفِيٌّ أَوْ مَالِكِيٌّ؛ كَقَوْلِ الْجَاهِلِ أَنَا نَحْوِيٌّ، لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهُ سِوَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ، فَبِأَيِّ الْعُلَمَاءِ اقْتَدَى فَهُوَ نَاجٍ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَرَاءَ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ، وَالْكَلَامُ مَبْسُوطٌ فِي ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ حَرَّرَ الْبَحْثَ أَبُو السُّعُودِ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ حَدِيثًا النَّوَوِيَّةِ، وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً عَبْدُ الرَّحِيمِ الْمَكِّيُّ، فَلْيُرَاجِعْهَا مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى التَّفْصِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَلِمَاذَا لَا يُجْعَلُ مُخَصَّصًا بِالْحِلِّيَّةِ بِهَذِهِ الْفَتْوَى، أَيْ آيَةِ طَعَامِهِمْ، وَإِذَا جَعَلْتَ آيَةَ تَحْرِيمِهِ مُحْكَمَةً غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، فَكَذَلِكَ تَكُونُ الْمُنْخَنِقَةُ، وَلِمَاذَا تَقِيسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا تَقِيسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِنْزِيرِ، وَأَيُّ مُرَجِّحٍ لِذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْمَأْكُولَاتِ مِنْهَا مَا حُرِّمَ لِعَيْنِهِ، وَمِنْهَا مَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ؛ فَالْخِنْزِيرُ وَمَا شَاكَلَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُحَرَّمَةٌ لِعَيْنِهَا؛ وَلِهَذَا تَبْقَى عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا وَحَالَاتِهَا، وَأَمَّا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ، أَوْ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ أَتَى فِيهِ لِعَارِضٍ، وَهُوَ ذَلِكَ الْفِعْلُ، ثُمَّ أَتَى نَصٌّ آخَرُ عَامٌّ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ حَلَالٌ، فَأُخْرِجَ مِنْهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ضَرُورَةً وَبِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَبَقِيَ الْمُحَرَّمُ لِغَيْرِهِ؛ وَهُوَ مَسْأَلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مَسْأَلَةُ التَّسْمِيَةِ، وَالثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْمُنْخَنِقَةِ، فَبَقِيَتَا فِي مَحَلِّ الشَّكِّ؛ لِتَجَاذُبِ كُلٍّ مِنْ نَصَّيِ التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ لَهُمَا، فَوَجَدْنَا إِحْدَاهُمَا- وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّسْمِيَةِ- وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِبَاحَةِ، وَبَقِيَتْ مَسْأَلَةُ الْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا أَهْلُ الْكِتَابِ طَعَامًا لَهُمْ مَسْكُوتًا عَنْهَا، فَكَانَ قِيَاسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ؛ لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِنْزِيرِ فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ فَلَا يَصِحُّ، إِذْ شَرْطُ الْقِيَاسِ: الْمُسَاوَاةُ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَجَالِ لِأَنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَكَلَامُ النَّاسِ فِيهِ كَثِيرٌ، وَاللهُ يُؤَيِّدُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. انْتَهَى.

.مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ:

جَاءَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ مِنَ (الْمُدَوَّنَةِ) مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: أَفَتَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصِبْيَانِهِمْ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ مَالِكٍ فِيهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إِذَا حَلَّ ذَبَائِحُ رِجَالِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَبَائِحِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ إِذَا أَطَاقُوا الذَّبْحَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَيُؤْكَلُ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَتَأَوَّلَ مَالِكٌ فِيهِ: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} (6: 145) وَكَانَ يَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّمَهُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا ذَبَحَتِ الْيَهُودُ مِنَ الْغَنَمِ فَأَصَابُوهُ فَاسِدًا عِنْدَهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَهُ لِأَجْلِ الرِّئَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا فِي دِينِهِمْ، أَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ مَرَّةً يُجِيزُهُ فِيمَا بَلَغَنِي. انْتَهَى. وَ(الْمُدَوَّنَةُ) عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَصْلُ الْمَذْهَبِ فَهِيَ كَالْأُمِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَجَاءَ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْفَرَسِ الْخَزْرَجَيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 599هـ مَا نَصُّهُ:
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا حَلَالٌ لَنَا، وَأَمَّا سَائِرُ أَطْعِمَتِهِمْ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَاتِ فِيهِ؛ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي أُحِلَّ لَنَا: ذَبَائِحُهُمْ، فَأَمَّا مَا خِيفَ مِنْهُمُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَيَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الطَّعَامَ يَتَنَاوَلُ ذَبَائِحَهُمْ بِاتِّفَاقٍ، فَهَلْ يُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَى عُمُومِهِ أَمْ لَا؟ فَالْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الطَّعَامِ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَا ذَبَحُوهُ، مِمَّا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ أَوْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ مَا أَحَلَّ اللهُ خَاصَّةً، وَأَمَّا مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ فَلَا يَجُوزُ لَنَا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الطَّعَامِ ذَبَائِحُهُمْ جَمِيعًا، إِلَّا مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، لَا مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ أَشْهَبُ، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللهَ يُجَوِّزُ لَنَا أَكْلَ مَا لَا يُجَوِّزُ لَهُمْ أَكْلَهُ، اخْتَلَفُوا: هَلْ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْمَنْعِ أَوِ الْكَرَاهَةِ؟ وَهَذَا الْخِلَافُ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي الْمَذَاهِبِ، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِيمَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَوْ سَمَّوْا عَلَيْهِ اسْمَ الْمَسِيحِ، هَلْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْإِبَاحَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُتَضَمِّنَةٌ تَحْلِيلَهُ، وَأَنَّ أَكْلَهُ جَائِزٌ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} عَلَى ذَلِكَ.
{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مَنْ هُمْ؟ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَجُوسِ وَالصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ، هَلْ هُمْ مِمَّنْ أُوتِيَ كِتَابًا أَمْ لَا؟ وَعَلَى هَذَا يُخْتَلَفُ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَفِي كِتَابِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ) فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ- أَيْضًا- مَا نَصُّهُ: هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ وَطَعَامَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ: مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللهُ، وَهُوَ الْحَلَالُ الْمُطْلَقُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ اللهُ تَعَالَى لِيَرْفَعَ بِهِ الشُّكُوكَ وَيُزِيلَ الِاعْتِرَاضَاتِ عَنِ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي تُوجِبُ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَتُحْرِجُ إِلَى تَطْوِيلِ الْقَوْلِ، وَلَقَدْ سُئِلْتُ عَنِ النَّصْرَانِيِّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا، هَلْ تُؤْكَلُ مَعَهُ أَوْ تُؤْخَذُ مِنْهُ طَعَامًا؟ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ، فَقُلْتُ: تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ ذَكَاةً عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَنَا، إِلَّا مَا كَذَّبَهُمُ اللهُ فِيهِ، وَلَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّهُمْ يُعْطُونَنَا نِسَاءَهُمْ أَزْوَاجًا، فَيَحِلُّ لَنَا وَطْؤُهُنَّ، فَكَيْفَ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَالْأَكْلُ دُونَ الْوَطْءِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. انْتَهَى. وَفِيمَا قَالَهُ الْقَاضِي نَوْعٌ مِنَ التَّقْيِيدِ وَالتَّشْدِيدِ، إِذِ اعْتَبَرَ فِي طَعَامِهِمْ مَا يَأْكُلُهُ أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ، وَهَذَا مَا اعْتَمَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ مُفْتِي مِصْرَ، فِي فَتْوَاهُ التِّرِنْسِفَالِيَّةِ.
وَقَدْ أَفْتَى الْمَهْدِيُّ الْوَزَّانِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ فَاسَ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ مُفْتِي مِصْرَ، وَلَمَّا عَلِمَ بِمُشَاغَبَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي فَتْوَى مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، كَتَبَ رِسَالَةً فِي تَأْيِيدِ الْفَتْوَى بِنُصُوصِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، نَشَرْنَاهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِلصَّنَمِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ مَعَ الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، وَقَيَّدُوهُ بِمَا لَمْ يَأْكُلُوهُ، وَإِلَّا كَانَ حَلَالًا لَنَا.
قَالَ الشَّيْخُ بَنَانِيُّ عَلَى قَوْلِ الْمُخْتَصَرِ: «وَذَبْحٌ لِصَنَمٍ» مَا نَصُّهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّنَمِ كُلُّ مَا عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِحَيْثُ يَشْمَلُ الصَّنَمَ وَالصَّلِيبَ وَغَيْرَهُمَا، وَأَنَّ هَذَا شَرْطٌ فِي أَكْلِ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ، كَمَا فِي التَّتَائِيِّ والزُّرْقَانِيِّ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ- رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَنَصُّهُ: كَرِهَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللهُ- مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ لِأَنَّهُ رَآهُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ إِذْ لَمْ يَرَ الْآيَةَ مُتَنَاوِلَةً لَهُ، وَإِنَّمَا رَآهَا مُضَاهِيَةً لَهُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُ إِنَّمَا مَعْنَاهَا فِيمَا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ مِمَّا لَا يَأْكُلُونَ، قَالَ: وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ. انْتَهَى.
وَقَالَ فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَشْهَبَ: وَسَأَلْتُهُ عَمَّا ذُبِحَ لِلْكَنَائِسِ، قَالَ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. ابْنُ رُشْدٍ: كَرِهَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْلَ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَوَجَّهَ قَوْلَ أَشْهَبَ أَنَّ مَا ذَبَحُوا لِكَنَائِسِهِمْ، لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا لَنَا؛ لِأَنَّ اللهَ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِآلِهَتِهِمْ، مِمَّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُونَهُ، فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْنَا بِدَلِيلِ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا. انْتَهَى.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَبْحَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا قَصَدُوا بِهِ التَّقَرُّبَ لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَهُ، فَهُوَ لَيْسَ طَعَامَهُمْ، وَلَمْ يَقْصِدُوا بِالذَّكَاةِ إِبَاحَتَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَأَمَّا مَا يَأْتِي مِنَ الْكَرَاهَةِ فِي ذَبْحِ الصَّلِيبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَا ذَبَحُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لَكِنْ سَمَّوْا عَلَيْهِ اسْمَ آلِهَتِهِمْ فَهَذَا يُؤْكَلُ بِكُرْهٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ هَذَا الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ بُنَانِيٍّ، وَسَلَّمَهُ الرُّهُونِيُّ بِسُكُوتِهِ عَنْهُ، فَهَذَا شَاهِدٌ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ جَوَازَ الْأَكْلِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَيْسَ كُلُّ مَا يَحْرُمُ فِي ذَكَاتِنَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ فِي ذَكَاتِهِمْ، كَمَتْرُوكِ التَّذْكِيَةِ عَمْدًا؛ فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ بِذَبِيحَتِنَا وَتُؤْكَلُ بِذَبِيحَتِهِمْ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. فإذًا الْمَدَارُ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ طَعَامِهِمْ لَا غَيْرَ، وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِمَّا كَتَبَهُ الْمُفْتِي الْوَزَّانِيُّ.
وَقَدْ أَطَالَ عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ فِي إِرْشَادِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِي الْفَتْوَى (التِّرِنْسِفَالِيَّةِ) وَالْقَوْلَ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفَصَّلُوهُ فِي بِضْعِ فُصُولٍ. الْفَصْلُ السَّابِعُ مِنْهَا فِي بَيَانِ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (أَيْ مِنْ حِلِّ مَا خَنَقَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقَصْدِ التَّذْكِيَةِ لِأَكْلِهِ) هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَاطِبَةً، وَالْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي رَدِّ الرُّهُونِيِّ بِرَأْيِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّاسِعُ فِي تَفْنِيدِ كَلَامِ الرُّهُونِيِّ وَبَيَانِ بُطْلَانِهِ، قَالُوا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّابِعِ مَا نَصُّهُ:
اعْلَمْ أَنَّهُ أَقَرَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْوَزَّانِيُّ وَصَاحِبُ الْمِعْيَارِ وَأَحْمَدُ بَابَا وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ كَالزَّيَّاتِيِّ، وَقَالَ: وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَإِنْ رَدَّهُ الرُّهُونِيُّ بِالْأَقْيِسَةِ، وَمَا تَوَهَّمَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ التَّنَاقُضِ بَيْنَ كَلَامَيِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَكَلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الذَّكَاةِ كَالْخَنْقِ وَحَطْمِ الرَّأْسِ: مَيْتَةٌ حَرَامٌ، وَقَوْلِهِ: أَفْتَيْتُ بِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا: تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكَاةً عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اللهَ أَبَاحَ طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ فَهُوَ حَلَالٌ لَنَا، إِلَّا مَا كَذَّبَهُمُ اللهُ فِيهِ، دَفَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَرَوْنَهُ مُذَكًّى عِنْدَهُمْ حِلٌّ لَنَا أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكَاتُهُ، عِنْدَنَا ذَكَاةً، وَمَا لَا يَرَوْنَهُ مُذَكًّى لَا يَحِلُّ، وَيُرْجَعُ إِلَى قَصْدِ تَذْكِيَتِهِ لِتَحْلِيلِهِ وَعَدَمِهِ، كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنَ التَّتَائِيِّ عَلَى الْمُخْتَصَرِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: أَوْ مَجُوسِيًّا تَنَصَّرَ وَذَبَحَ لِنَفْسِهِ... إِلَخْ وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْ عِبَارَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَذْهَبٌ لَهُ وَحْدَهُ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ جَمِيعًا، الْعَمَلُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ طَعَامِهِمْ فَهُوَ حِلٌّ لَنَا، سَوَاءٌ كَانَ يَحِلُّ لَنَا بِاعْتِبَارِ شَرِيعَتِنَا أَوْ لَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي حِلِّ طَعَامِهِمْ مَا هُوَ حَلَالٌ لَهُمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِشَرِيعَتِنَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ النُّصُوصُ وَالتَّعَالِيلُ الْآتِيَةُ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِلصَّلِيبِ أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِكَنَائِسِهِمْ.