فصل: وَاقِعَةٌ فِي التَّشْدِيدِ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.وَاقِعَةٌ فِي التَّشْدِيدِ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ:

قَدْ عَلِمَ الْقُرَّاءُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ هَبُّوا مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ لِمُعَارَضَةِ فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي حِلِّ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ أَطْلَعَنَا بَعْضُ تَلَامِيذِنَا الْقُوقَاسِيِّينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى كِتَابٍ لِبَعْضِ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ فِي الْقُوقَاسِ، يُشَنِّعُ فِيهِ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَعَلَى الْمَنَارِ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمَا بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا مِثْلُهُ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ حِلِّ طَعَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَحِلِّ نِسَائِهِمْ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ مِنْ زُهَاءِ قَرْنٍ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ تَلَافَاهَا عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ، وَقَدْ نَشَرْنَاهَا (فِي ص 786 مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ نَقْلًا عَنِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ تَارِيخِ الْجَبَرْتِيِّ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ 1236) قَالَ: وَفِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ أَنَّ الشَّيْخَ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيرَ بِبَاشَا الْمَالِكِيَّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ قَرَّرَ فِي دَرْسِ الْفِقْهِ أَنَّ ذَبِيحَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ، لَا يَجُوزُ أَكْلُهَا، وَمَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُغَيِّرُوا وَيُبَدِّلُوا فِي كُتُبِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ فُقَهَاءُ الثَّغْرِ ذَلِكَ أَنْكَرُوهُ وَاسْتَغْرَبُوهُ، ثُمَّ تَكَلَّمُوا مَعَ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِ وَعَارَضُوهُ، فَقَالَ: أَنَا لَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ بِفَهْمِي وَعِلْمِي، وَإِنَّمَا تَلَقَّيْتُ ذَلِكَ عَنِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْمَلِيلِيِّ الْمَغْرِبِيِّ، وَهُوَ رَجُلٌ عَالِمٌ مُتَوَرِّعٌ وَمَوْثُوقٌ بِعِلْمِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى شَيْخِهِ الْمَذْكُورِ بِمِصْرَ يُعْلِمُهُ بِالْوَاقِعِ، فَأَلَّفَ رِسَالَةً فِي خُصُوصِ ذَلِكَ وَأَطْنَبَ فِيهَا، فَذَكَرَ أَقْوَالَ الْمَشَايِخِ وَالْخِلَافَاتِ فِي الْمَذَاهِبِ، وَاعْتَمَدَ قَوْلَ الْإِمَامِ الطَّرْطُوشِيِّ فِي الْمَنْعِ وَعَدَمِ الْحِلِّ، وَحَشَا الرِّسَالَةَ بِالْحَطِّ عَلَى عُلَمَاءِ الْوَقْتِ وَحُكَّامِهِ، وَهِيَ نَحْوُ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ كُرَّاسَةً- كَذَا- وَأَرْسَلَهَا إِلَى الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَهَا عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ، فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَالْإِنْكَارُ، خُصُوصًا وَأَهْلُ الْوَقْتِ أَكْثَرُهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْمِلَّةِ، وَانْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى الْبَاشَا، فَكَتَبَ مَرْسُومًا إِلَى كَتُخْدَا بِيكْ بِمِصْرَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَجْمَعَ مَشَايِخَ الْوَقْتِ لِتَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا بِالرِّسَالَةِ الْمُصَنَّفَةِ، فَأَحْضَرَ كَتُخْدَا بِيكِ الْمَشَايِخَ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ، فَلَطَّفَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْعَرُوسِيُّ الْعِبَارَةَ، وَقَالَ: الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَلِيلِيُّ رَجُلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَلَقَّى عَنْ مَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِهِمْ، لَا يُنْكَرُ عِلْمُهُ وَفَضْلُهُ، وَهُوَ مُنْعَزِلٌ عَنْ خِلْطَةِ النَّاسِ، إِلَّا إِنَّهُ حَادُّ الْمِزَاجِ، وَبِعَقْلِهِ بَعْضُ خَلَلٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ نَجْتَمِعَ بِهِ وَنَتَذَاكَرَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِكُمْ، وَنُنْهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَيْكُمْ.
فَاجْتَمَعُوا فِي ثَانِي يَوْمٍ وَأَرْسَلُوا إِلَى الشَّيْخِ عَلِيٍّ يَدْعُونَهُ لِلْمُنَاظَرَةِ، فَأَبَى عَنِ الْحُضُورِ وَأَرْسَلَ الْجَوَابَ مَعَ شَخْصَيْنِ مِنْ مُجَاوِرِي الْمَغَارِبَةِ، يَقُولَانِ: إِنَّهُ لَا يَحْضُرُ مَعَ الْغَوْغَاءِ، بَلْ يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ خَاصٍّ يَتَنَاظَرُ فِيهِ مَعَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَمِيرِ بِحَضْرَةِ الشَّيْخِ حَسَنٍ الْقُوَيْسِنِيِّ وَالشَّيْخِ حَسَنٍ الْعَطَّارِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْأَمِيرِ يُنَاقِشُهُ وَيَشُنُّ عَلَيْهِ الْغَارَةَ، فَلَمَّا قَالَا ذَلِكَ الْقَوْلَ تَغَيَّرَ ابْنُ الْأَمِيرِ وَأَرْعَدَ وَأَبْرَقَ، وَتَشَاتَمَ بَعْضُ مَنْ بِالْمَجْلِسِ مَعَ الرُّسُلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرُوا بِحَبْسِهِمَا فِي بَيْتِ الْأَغَا، وَأَمَرُوا الْأَغَا بِالذَّهَابِ إِلَى بَيْتِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ وَإِحْضَارِهِ بِالْمَجْلِسِ وَلَوْ قَهْرًا عَنْهُ، فَرَكِبَ الْأَغَا وَذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَذْكُورِ فَوَجَدَهُ قَدْ تَغَيَّبَ، فَأَخْرَجَ زَوْجَتَهُ وَمَنْ مَعَهَا مِنَ الْبَيْتِ وَسَمَّرَ الْبَيْتَ، فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِ بَعْضِ الْجِيرَانِ.
ثُمَّ كَتَبُوا عَرَضًا مُحَضَّرًا وَذَكَرُوا فِيهِ بِأَنَّ الشَّيْخَ عَلِيًّا عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَأَبَى عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُنَاظَرَةَ مَعَهُمْ فِي تَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ وَهَرَبَ وَاخْتَفَى؛ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ مَا اخْتَفَى وَلَا هَرَبَ، وَالرَّأْيُ لِحَضْرَةِ الْبَاشَا فِيهِ إِذَا ظَهَرَ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ بَاشَا السَّكَنْدَرِيِّ- كَذَا- وَتَمَّمُوا الْعَرْضَ وَأَمْضَوْهُ بِالْخُتُومِ الْكَثِيرَةِ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى الْبَاشَا، وَبَعْدَ أَيَّامٍ أَطْلَقُوا الشَّخْصَيْنِ مِنْ حَبْسِ الْأَغَا وَرَفَعُوا الْخَتْمَ عَنْ بَيْتِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ، وَرَجَعَ أَهْلُهُ إِلَيْهِ، وَحَضَرَ الْبَاشَا إِلَى مِصْرَ فِي أَوَائِلِ الشَّهْرِ وَرَسَمَ بِنَفْيِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ بَاشَا إِلَى بَنِي غَازِي، وَلَمْ يَظْهَرِ الشَّيْخُ مِنِ اخْتِفَائِهِ. انْتَهَى.

.اسْتِدْرَاكٌ فِي حِكْمَةِ الذَّبْحِ وَتَحْرِيمِ الدَّمِ:

قَالَ لَنَا أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ بَعْدَ قِرَاءَةِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الدَّمِ فِي الْمَنَارِ: إِنَّ تَجْرِبَةَ حَقْنِ الْإِنْسَانِ بِدَمِ الْحَيَوَانِ لَمْ تَنْجَحْ، فَهُوَ ضَارٌّ، وَإِنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ الْكَبِيرِ أَوْ نَحْرَهُ أَنْفَعُ؛ لِأَنَّهُ يَنْهَرُ الدَّمَ الضَّارَّ، وَإِنَّ الْمَوَادَّ الْمَيِّتَةَ فِي الدَّمِ لَيْسَتْ عَفِنَةً، بَلْ سَامَّةً. انْتَهَى. قُلْتُ: مُرَادِي بِعَفِنَةٍ: الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، لَا الطِّبِّيِّ أَيْ فَاسِدَةٌ ضَارَّةٌ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ...} الآية.
سبحانه يبدأ الآية بتكرار الأمر السابق: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}. وأعادها حتى يؤكد على أن الإنسان لا يصح أن ينظر إلى الأمر الطيب إلا من زاوية أنه محلل من الله.
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللات، وأسلوب التعامل مع الصيد. نأتي هنا لوقفة، فسبحانه يقول: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا؟ إن بعضهم يأكل الخنزير. لا، بل الحلال من طعام أهل الكتاب هو الطعام الذي يكون من جنس ما حلل الله لكم، ولا يستقيم أن يستنكف الإنسان من أنه طعام أهل كتاب؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من الإنسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين، ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم لله، يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من الاتصال لأنهم ارتبطوا جميعا بالسماء، ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الأرض بالسماء.
إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب لا، ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل في الإسلام فهو حلال. ولا يصح أن تمنع واحدًا من أهل الكتاب من طعامك؛ لأن الله يريد أن ينشئ شيئا من الألفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالإله وإن اختلفوا في تصوره.
وضرب لنا سبحانه المثل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أول مجيء الدعوة الإسلامية، واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار، ولا يؤمن بالإله وهو معسكر فارس؛ ومعسكرًا يؤمن بالإله وهو معسكر الروم؛ كانت هناك قوتان في العالم: قوة شرقية وقوة غربية. وعندما يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق الله، فلابد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين معه مع الذين آمنوا بإله وبنمهج ورسالة، ولا يكون قلبه مع الملاحدة الذين يعبدون غير الله.
ولنر العظمة الإيمانية في الرسول عليه الصلاة والسلام. نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون به كرسول أولى عنده ممن يكفرون بالله. ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة أولا لفارس. وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم؛ لأنهم أقرب إلى معسكر الإيمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بالله، وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث، ولذلك يضربها الحق مثلا في القرآن ليعطينا عدة لقطات، وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين في جانب من عنده رائحة الإيمان، فيقول سبحانه: {الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 1-5]
وتبدأ هذه الآيات بخبر عن هزيمة الروم، ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين. ويوم نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر الله. وتنظر القوة الإسلامية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا جامعا مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمتين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري، هذه القوة الإسلامية تتعاطف مع الروم وتحزن- القوة الإسلامية- لأن الفرس قد غَلَبت. فيأتي الحق بالخبر اليقين وهو سَتَغْلِبُ الروم.
وبالله من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظيمتين؟ إنه حكم لا يستغرق يوما، حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر، إنه حكم يستغرق بضع سنين. فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين؟ لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجازف بهذا الحكم، وهو لا يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها، لكن الأمر يأتي كخبر موثق من الله: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 3-4]
وهذا كلام موثق، لأنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبدًا. وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه الآية، قال لقد أقمت رهانًا بأن الروم ستنتصر بعد ثلاث سنين، وطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمد مدة الرهان لأن الله قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلت مائة قلوص (ناقة) إلى تسع سنين. كأن هذا الأمر قد لقي الوثوق الكامل من المؤمنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر.
لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مع الذين يؤمنون بكتاب وبرسول. ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب حتى تكون هناك صلة بيننا وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}.
وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} [الممتحنة: 8-9]
فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فلا نساوي بين ملحد مشرك ومؤمن بصلة السماء بالأرض وإن كفر برسول الله. وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل الإنساني. فالذي يحل للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلالا في منهج الإسلام. ويجب أن ينتبه المسلم إلى أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه الامتناع عن كل ما هو محرم في ديننا ولياكل من طعامهم ما هو حلال لدينا.
فلا يشرب المسلم خمرًا، ولا يأكل المؤمن لحم الخنزير.
والطعام كما نعلم وسيلة لاستبقاء الحياة. وها هوذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل؛ فقد أحل الله لنا أن نتزوج من بناتهم {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ}.
والمحصنة لها معنيان: وهي إما أن تكون الحرة في مقابل الأمة، وإما أن تكون المتزوجة؛ لأن الإحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلاطا غير شريف. وكانت الحرة قديما لا تفعل الفعل القبيح. وكان البغاء مقصورا على الإماء؛ لأن الأمة لا أب لها ولا أخ ولا عائل، وهي مُهْدَرة الكرامة. ولذلك نجد أن هندًا زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلت: يا رسول الله أَوَ تزني الحرة؟! كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية؛ لأن الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها.
والمحصنة أيضًا هي المتزوجة. ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل الكتاب، والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن. وبعض العلماء يقول: عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر، لأن الدين الواحد يعطي الأمان العهدي، أما الزواج من كتابية فيجب أن يحدد الإنسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك. فالإيتاء هو أن يسمي الإنسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود. ويستطيع أن يجعل الإنسان المهر كله مؤخرًا. والشرط أن يكون الرجل محصنًا أي متعففًا.
ويحدد الحق: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} أي صدائق لهم دون زواج، والسفح هو الصب. والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل، والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج، والخدن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على الأنثى. وإياك أن تفكر في أمر إقامة علاقة زواج متعة، بل لابد أن يكون الإقبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي لا الزواج الاستمتاعي.