فصل: من فوائد أبي حيان في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



السادسة والعشرون قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فاطهروا} وقد مضى في «النساء» معنى الجنب.
و{اطَّهَّرُوا} أمر بالإغتسال بالماء؛ ولذلك رأى عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصَّلاة حتى يجد الماء.
وقال الجمهور من الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقوله: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء} والملامسة هنا الجماع؛ وقد صح عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم.
وحديث عِمران بن حُصَين نص في ذلك، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا معتزلًا لم يصلّ في القوم فقال: «يا فلان ما منعك أن تصلّي في القوم» فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء.
قال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك». أخرجه البخاريّ.
السابعة والعشرون قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط} تقدّم في «النساء» مستوفى، ونزيد هنا مسألة أُصولية أَغفلناها هناك، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة؛ فإن الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في «النساء» فهو عامّ، غير أن جل علمائنا خصصوا ذلك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدّود، أو خرج المعتاد على وجه السَّلَس والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضًا.
وإنما صاروا إلى اللفظ؛ لأن اللفظ مهما تقرّر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال، سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الإطلاق، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيدًا عن الذهن، فصار غير مدلول له، وصار الحال فيه كالحال في الدابة؛ فإنها إذا أُطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الأربع، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهرًا.
والمخالف يقول: لا يلزم من سبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد؛ فإنّ تناول اللفظ لهما واحد وضعا، وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصدًا؛ والأوّل أصح، وتتمته في كتب الأُصول.
الثامنة والعشرون قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء} روى عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: القُبلة من اللمس، وكل ما دون الجماع لَمْسٌ؛ وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال: لأنه قد ذكر في أوّل الآية ما يجب على من جامع في قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فاطهروا}.
وقال عبد الله بن عباس: اللمس والمس والغشيان الجماع، ولكنه عزّ وجلّ يكنى.
وقال مجاهد في قوله عزّ وجلّ: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا} [الفرقان: 72] قال: إذا ذكروا النكاح كنَوَا عنه؛ وقد مضى في «النساء» القول في هذا الباب مستوفى والحمد لله.
التاسعة والعشرون قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} قد تقدّم في «النساء» أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر بأن يُسجن أو يُربط، وهو الذي يُقال فيه: إنه إن لم يجد ماء ولا ترابًا وخشي خروج الوقت؛ اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال: الأوّل قال ابن خُوَيْزِمَنْدَادَ: الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يُصلّي ولا شيء عليه؛ قال: ورواه المدنيون عن مالك؛ قال: وهو الصحيح من المذهب.
وقال ابن القاسم: يصلّي ويعيد؛ وهو قول الشافعي.
وقال أشهب: يصلّي ولا يعيد.
وقال أَصْبَغ: لا يُصلّي ولا يقضي، وبه قال أبو حنيفة.
قال أبو عمر بن عبد البر: ما أعرف كيف أقدم ابن خُوَيْزِمَنْدَاد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين.
وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله: وليسوا على ماء الحديثَ ولم يذكر أنهم صلوا؛ وهذا لا حجة فيه.
وقد ذكر هشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة؛ وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء.
قال أبو ثور: وهو القياس.
قلت: وقد احتج المُزَنيّ فيما ذكره الكيَا الطَّبَري بما ذكر في قصة القِلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القِلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم، والتيمم متى لم يكن مشروعًا فقد صلوا بلا طهارة أصلًا.
ومنه قال المُزَني: ولا إعادة؛ وهو نص في جواز الصَّلاة مع عدم الطهارة مطلقًا عند تعذر الوصول إليها؛ قال أبو عمر: ولا ينبغي حمله على المغمى عليه؛ لأن المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله.
وقال ابن القاسم وسائر العلماء: الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى.
وعن الشافعي روايتان؛ المشهور عنه يصلّي كما هو ويعيد؛ قال المُزَنيّ: إذا كان محبوسًا لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد؛ وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوريّ والطَّبَري.
وقال زُفر بن الهُذَيل: المحبوس في الحضر لا يصلّي وإن وجد ترابًا نظيفًا.
وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدّم.
وقال أبو عمر: من قال يصلّي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصَّلاة بغير طَهور؛ قالوا: وقوله عليه السَّلام: «لا يقبل الله صلاة بغير طَهور» لمن قدر على طَهور؛ فأمّا من لم يقدر فليس كذلك؛ لأن الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلّي كما قدر في الوقت ثم يعيد، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعًا.
وذهب الذين قالوا لا يصلّي لظاهر هذا الحديث؛ وهو قول مالك وابن نافع وأَصْبَغ قالوا: من عدم الماء والصعيد لم يصلِّ ولم يقضِ إن خرج وقت الصَّلاة؛ لأن عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شيء في الذمة فلا يقضي؛ قاله غير أبي عمر، وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب.
الموفية ثلاثين قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} قد مضى في «النساء» اختلافهم في الصعيد، وحديث عِمران بن حُصَين نص على ما يقوله مالك، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السَّلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك، فلما قال: «عليك بالصعيد» أحاله على وجه الأرض.
والله أعلم.
{فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} تقدّم في «النساء» الكلام فيه فتأمله هناك.
الحادية والثلاثون وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب: قال صلى الله عليه وسلم: «الطُّهور شَطْر الإيمان» أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعريّ، وقد تقدّم في «البقرة» الكلام فيه؛ قال ابن العربي: والوضوء أصل في الدّين، وطهارة المسلمين، وخصوصًا لهذه الأُمة في العالمين.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال: «هذا وُضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووُضوء أبي إبراهيم» وذلك لا يصح؛ قال غيره: ليس هذا بمعارض لقوله عليه السَّلام: «لكم سِيما ليست لغيركم» فإنهم كانوا يتوضئون، وإنما الذي خص به هذه الأُمّة الغُرَّة والتَّحجيل لا بالوضوء، وهما تفضل من الله تعالى اختص بهما هذه الأُمة شرفًا لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الأُمم، كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء؛ والله أعلم.
قال أبو عمر: وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضئون فيكتسبون بذلك الغرّة والتَّحجيل ولا يتوضأ أتباعهم، كما جاء عن موسى عليه السَّلام قال: «يا رب أجد أُمّة كلهم كالأنبياء فاجعلها أُمّتي» فقال له: «تلك أُمة محمد» في حديث فيه طول.
وقد رَوى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلًا يحدّث أنه رأى رؤيًا في المنام أن الناس قد جُمعوا للحساب؛ ثم دعي الأنبياء مع كل نبيّ أُمته، وأنه رأى لكل نبيّ نُورين يمشي بينهما، ولمن اتبعه من أُمته نورًا واحدًا يمشي به، حتى دُعي بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا شعر رأسه ووجهه نُور كله يراه كل من نظر إليه، وإذا لمن اتبعه من أُمته نُوران كنُور الأنبياء؛ فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا: من حدّثك بهذا الحديث وما علمك به؟ فأخبره أنها رؤيا؛ فأنشده كعب، الله الذي لا إله إلاَّ هو لقد رأيتَ ما تقول في منامك؟ فقال: نعم والله لقد رأيت ذلك؛ فقال كعب: والذي نفسي بيده أو قال والذي بعث محمدًا بالحق إنّ هذه لصفة أحمد وأُمته، وصفة الأنبياء في كتاب الله، لكأن ما تقوله من التوراة.
أسنده في كتاب «التمهيد».
قال أبو عمر: وقد قيل إن سائر الأُمم كانوا يتوضئون والله أعلم؛ وهذا لا أعرفه من وجه صحيح.
وخرّج مسلم عن أبي هُرَيرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر قَطْر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كلُّ خطيئةٍ كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قَطْر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كلُّ خطيئةٍ كان مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قَطْر الماء حتى يخرج نقِيًّا من الذنوب» حديث مالك عن عبد الله الصُّنَابِحي أكمل، والصواب أبو عبد الله لا عبد الله، وهو مما وهِم فيه مالك، واسمه عبد الرحمن بن عُسَيْلة تابعيّ شامي كبير لإدراكه أوّل خلافة أبي بكر؛ قال أبو عبد الله الصُّنَابِحي: قدمت مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجُحْفة إذا براكب قلنا له ما الخبر؟ قال: دفنَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام.
وهذه الأحاديث وما كان في معناها من حديث عمرو بن عَبَسَة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعًا عبادة لدحض الآثام؛ وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية؛ لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدّرجات عند الله تعالى.
الثانية والثلاثون قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} أي من ضيق في الدّين؛ دليله قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
و{مِن} صلة أي ليجعل عليكم حرجًا.
{ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هُريرة والصُّنَابِحِي.
وقيل: من الحدث والجنابة.
وقيل: لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة.
وقرأ سعيد بن المسيّب {لِيُطْهِركم} والمعنى واحد، كما يُقال: نجَّاه وأنجاه.
{وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر.
وقيل: بتِبْيَان الشرائع.
وقيل: بغفران الذنوب؛ وفي الخبر: «تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار» {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}.
نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم، وكان الوضوء متعذرًا عندهم، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق، وفيها كان هبوب الريح وقول عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة وحديث الافك.
وقال علقمة بن الفغو وهو من الصحابة: إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملًا إلا على وضوء، ولا يكلم أحدًا ولا يرد سلامًا على غير ذلك، فأعلمه الله أنّ الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال.