فصل: من فوائد الشوكاني في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مَا يُرِيدُ الله} بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة والغسل من الجنابة، أو بالأمر بالتيمم {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ} أي ضيق في الامتثال، والجعل يحتمل أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو {مِنْ حَرَجٍ} و{مِنْ} زائدة، و{عَلَيْكُمْ} حينئذٍ متعلق بالجعل وجوز أن يتعلق بحرج وإن كان مصدرًا متأخرًا، ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير، فيكون {عَلَيْكُمْ} هو المفعول الثاني {ولكن يُرِيدُ} أي بذلك {لّيُطَهّرَكُمْ} أي لينظفكم، فالطهارة لغوية، أو ليذهب عنكم دنس الذنوب، فإن الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا، فقد أخرج مالك ومسلم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيًا من الذنوب» فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة، لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف، وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعًا من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاة المحدث أو تفسد الصلاة بحمله، وأما تنجس الماء فيما شاع عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وروي رجوعه عنه فلانتقال المانعية والآثام إليه حكمًا، وقيل: المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله تعالى.
وجوز أن يكون المراد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء، والمراد بالتطهر رفع الحدث والمانع الحكمي، وأما ما نقل عن بعض الشافعية كإمام الحرمين من أن القول بأن التراب مطهر قول ركيك، فمراده به: منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه مخالف للحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» والإرادة صفة ذات، وقد شاع تفسيرها، ومفعولها في الموضعين محذوف كما أشير إليه، واللام للعلة، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين، وقيل: هي مزيدة والمعنى ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم ولكن يريد أن يطهركم وضعف بأن ألا تقدر بعد المزيدة، وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة، فقد قال الرضي: الظاهر أن تقدر أن بعد اللام الزائدة التي بعد فعل الأمر والإرادة، وكذا في «المغني» لابن هشام وغيره، ووقوع هذه اللام بعد الأمر والإرادة في القرآن.
وكلام العرب شائع مقيس، وهو من مسائل «الكتاب» لسيبويه قال فيه: سألته أي الخليل عن معنى أريد لأن يفعل فقال: إنما تريد أن تقول: أريد لهذا كما قال تعالى: {وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} [الزمر: 12] انتهى، واختلف فيه النحاة فقال السيرافي: فيه وجهان: أحدهما: ما اختاره البصريون أن مفعوله مقدر أي أريد ما أريد لأن تفعل، فاللام تعليلية غير زائدة، الثاني: أنها زائدة لتأكيد المفعول، وقال أبو علي في «التعليق» عن المبرد: إن الفعل دال على المصدر فهو مقدر أي أردت وإرادتي لكذا فحذف إرادتي واللام زائدة وهو تكلف بعيد، والمذاهب ثلاثة: أقربها الأول، وأسهلها الثاني وهو من بليغ الكلام القديم كقوله:
أريد لأنسي ذكرها فكأنما ** تمثل لي ليلى بكل سبيل

البلاغة فيه مما يعرفه الذوق السليم قاله الشهاب {وَلَّيْتُم} بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم {نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في الدين، أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بالعزائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه.
ومن لطائف الآية الكريمة كما قال بعض المحققين أنها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل إثنان: مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة، وزاد البعض مثنيات أخر، فإن غير المحدود وجه ورأس، والمحدود يد ورجل، والنهاية كعب ومرفق، والشكر قولي وفعلي. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ...} الآية.
قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} إذا أردتم القيام تعبيرًا بالمسبب عن السبب كما في قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} [النحل: 98].
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة، فقالت طائفة: هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهرًا أو محدثًا، فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وهو مرويّ عن عليّ وعكرمة.
وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة.
وقالت طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف، فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم.
وقالت طائفة: الأمر للندب طلبًا للفضل.
وقال آخرون: إن الوضوء لكل صلاة كان فرضًا عليهم بهذه الآية.
ثم نسخ في فتح مكة.
وقال جماعة: هذا الأمر خاص بمن كان محدثًا.
وقال آخرون: المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، فيعمّ الخطاب كل قائم من نوم.
وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة.
فلما كان يوم الفتح، توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، إنك فعلت شيئًا لم تكن تفعله، فقال: «عمدًا فعلته يا عمر»، وهو مرويّ من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى.
وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت: فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث، فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق.
قوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء، وله طول وعرض، فحده في الطول: من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، وفي العرض، من الأذن إلى الأذن، وقد ورد الدليل بتخليل اللحية.
واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه.
وقد اختلف أهل العلم أيضًا: هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء؟ والخلاف في ذلك معروف، والمرجع اللغة العربية، فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل، كان معتبرًا وإلا فلا.
قال في شمس العلوم: غسل الشيء غسلًا إذا أجرى عليه الماء ودلكه انتهى.
وأما المضمضة والإستنشاق، فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلها بالسنة الصحيحة، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف.
وقد أوضحنا ما هو الحق في مؤلفاتنا.
قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} «إلى» للغاية، وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف.
وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا.
وقيل: إنها هنا بمعنى مع وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقًا، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل: وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن عقيل عن جدّه عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه.
ولكن القاسم هذا متروك، وجدّه ضعيف.
قوله: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} قيل: الباء زائدة، والمعنى: امسحوا رءوسكم، وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس.
وقيل: هي للتبعيض، وذلك يقتضي أنه يجزىء مسح بعضه.
واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} ولا يجزىء مسح بعض الوجه اتفاقًا.
وقيل إنها للإلصاق، أي ألصقوا أيديكم برءوسكم، وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا، فكان هذا دليلًا على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة، ولا شك أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلًا بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لابد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو: اضرب زيدًا أو اطعنه أو ارجمه، فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن أو الرجم على عضو من أعضائه، ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها: إنه لا يكون ضاربًا إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال، فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس.
فإن قلت: يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين.
قلت: ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه، والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس، فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض.
قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} قرأ نافع بنصب الأرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجرّ.
وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين، لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هنا ذهب جمهور العلماء.
وقراءة الجرّ تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين، لأنها معطوفة على الرأس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وهو مرويّ عن ابن عباس.
قال ابن العربي: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت من ردّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الجرّ قال القرطبي: قد روى عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، قال: وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح.
وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح.
قال: وقال قتادة: افترض الله مسحتين وغسلتين.
قال: وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين، وقواه النحاس، ولكنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط، وثبت عنه أنه قال: «ويل للأعقاب من النار»، وهو في الصحيحين وغيرهما، فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزىء مسحهما، لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطىء ما أخطأ، فلو كان مجزئًا لما قال «ويل للأعقاب من النار»، وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره: أن رجلًا توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له: «ارجع فأحسن وضوءك» وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة.