فصل: الْفَوَائِدُ الذَّاتِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الْفَوَائِدُ الذَّاتِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ:

أَمَّا فَوَائِدُهُمَا الذَّاتِيَّةُ فَثَلَاثٌ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى:
مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ كَوْنِ غَسْلِ الْبَدَنِ كُلِّهِ وَغَسْلِ أَطْرَافِهِ، يُفِيدُ صَاحِبَهُ نَشَاطًا وَهِمَّةً، وَيُزِيلُ مَا يَعْرِضُ لِجَسَدِهِ مِنَ الْفُتُورِ وَالِاسْتِرْخَاءِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْتَهِي بِمِثْلِ تَأْثِيرِهِ، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأَنْ يُقِيمَ الصَّلَاةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَيُعْطِيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْخُشُوعِ وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْسُرُ هَذَا فِي حَالِ الْفُتُورِ وَالْكَسَلِ، وَالِاسْتِرْخَاءِ وَالْمَلَلِ، أَوِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا فَنَقُولُ: مِنَ الْمَعْرُوفِ عَقْلًا وَتَجْرِبَةً أَنَّ الطَّهَارَةَ دَوَاءٌ لِهَذِهِ الْعَوَارِضِ؛ فَهِيَ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ تُفِيدُ الْمَقْرُورَ حَرَارَةً، وَالْمَحْرُورَ ابْتِرَادًا، وَتُزِيلُ الْفُتُورَ الَّذِي يَعْقُبُ خُرُوجَ الْفَضَلَاتِ مِنَ الْبَدَنِ؛ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ اللَّذَيْنِ يَضُرُّ احْتِبَاسُهُمَا؛ كَاحْتِبَاسِ الرِّيحِ فِي الْبَطْنِ، فَالْحَاقِنُ مِنَ الْبَوْلِ، وَالْحَاقِبُ مِنَ الْغَائِطِ، وَالْحَازِقُ مِنَ الرِّيحِ؛ كَالْمَرِيضِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ تُكْرَهُ صَلَاتُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، فَمَتَى خَرَجَتْ هَذِهِ الْفَضَلَاتُ الضَّارُّ احْتِبَاسُهَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ كَأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ حِمْلًا ثَقِيلًا وَأَلْقَاهُ، وَيَشْعُرُ عَقِبَ ذَلِكَ بِفُتُورٍ وَاسْتِرْخَاءٍ، فَإِذَا تَوَضَّأَ زَالَ ذَلِكَ، وَنَشَطَ وَانْتَعَشَ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ أَوْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ أَوْ مَسَّ جَسَدَهَا بِغَيْرِ حَائِلٍ يَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ جَسَدِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَحُدُوثُ اللَّذَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَبُّهٍ، أَوْ تَهَيُّجٍ فِي الْعَصَبِ، يَعْقُبُهُ فُتُورٌ مَا بِمُقْتَضَى سُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ، وَالْوُضُوءُ يُزِيلُ هَذَا الْفُتُورَ الَّذِي يَصْرِفُ النَّفْسَ بِاللَّذَّةِ الْجَسَدِيَّةِ عَنِ اللَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ؛ وَلِهَذَا اشْتَرَطَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ مَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ بِلَذَّةٍ، وَاكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ اللَّذَّةِ.
أَمَّا إِذَا بَلَغَ الْإِنْسَانُ مِنْ هَذِهِ اللَّذَّةِ الْجَسَدِيَّةِ غَايَتَهَا بِالْوِقَاعِ أَوِ الْإِنْزَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْتَهَى تَهَيُّجِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي يَعْقُبُهُ- بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ- أَشَدُّ الْفُتُورِ وَالِاسْتِرْخَاءِ وَالْكَسَلِ، وَضَعْفُ الِاسْتِعْدَادِ لِلَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَلَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا غَسْلُ الْبَدَنِ كُلِّهِ؛ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْغُسْلُ عَقِبَ ذَلِكَ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْإِنْزَالِ اللَّذَّةَ، وَيَحْصُلُ نَحْوُ هَذَا الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبَيْنِ آخَرَيْنِ، وَهُمَا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ؛ فَشُرِعَ لَهَا الْغُسْلُ عَقِبَهُمَا كَمَا شُرِعَ لَهَا الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ كَالرَّجُلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ كُلُّهُ هُوَ مَا فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ، وَخَصَّ مِنْهَا لَحْمَ الْإِبِلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيبُونَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ يُسْتَثْقَلُ عَلَى الْمَعِدَةِ، فَيَضْعُفُ النَّشَاطُ عَقِبَ أَكْلِهِ، ثُمَّ خَفَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَاكْتَفَى بِالْحَدَثِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْأَكْلِ عَنِ الْمَبْدَأِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ، وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ؛ كَالْإِغْمَاءِ، وَالسُّكْرِ، وَتَنَاوُلِ بَعْضِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ، لَا يَنْشَطُ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ إِلَّا إِذَا أَمَسَّ الْمَاءَ بَدَنَهُ بِوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ، وَإِنَنِي أَرَى هَذَا الدُّخَانَ- التَّبْغَ وَالتِّنْبَاكَ- الَّذِي فُتِنَ بِهِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الشَّارِعِ لَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُحَرِّمْهُ تَحْرِيمًا. وَيَقْرُبُ مِنَ الْإِغْمَاءِ وَنَحْوِهِ النَّوْمُ. وَمَهْمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ؛ هَلْ هُوَ لِذَاتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً لِشَيْءٍ آخَرَ؟ وَهَلْ يَنْقُضُ مُطْلَقًا، أَوْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَثْرَةُ، أَوْ عَدَمُ تَمَكُّنِ الْمِقْعَدَةِ مِنَ الْأَرْضِ؟ فَالْجَمَاهِيرُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَقِبَ النَّوْمِ الْمُعْتَادِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ تَحْصُلُ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ حَتَّى مَا يُزِيلُ الْوَسَخَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاءِ كَالْكُحُولِّ، فَلَا تَحْصُلُ عِبَادَةُ الْغُسْلِ بِغَيْرِهِ لِإِنْعَاشِهِ وَكَوْنِهِ أَصْلَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا، وَهَذَا الَّذِي تُعَبِّرُ عَنْهُ الصُّوفِيَّةُ بِتَقْوِيَةِ الرُّوحَانِيَّةِ لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الْآيَةَ، وَلَا يُنَافِي رُوحَانِيَّةَ الْمَائِيَّةِ الْمَادَّةُ الْعَطِرَةُ الَّتِي تُقْطَرُ مِنَ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ، بَلْ تَزِيدُ الْمُتَطَهِّرَ بِهِ طَهَارَةً وَطِيبًا وَرُوحَانِيَّةً، وَمَادَّةُ الْمَاءِ مَعْرُوفَةٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ فَوَائِدِ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ:
مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهَا رُكْنَ الصِّحَّةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوَسَخَ وَالْقَذَارَةَ مَجْلَبَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوَاءِ الْكَثِيرَةِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الطِّبِّ؛ وَلِذَلِكَ نَرَى الْأَطِبَّاءَ وَرِجَالَ الْحُكُومَاتِ الْحَضَرِيَّةِ، يُشَدِّدُونَ فِي أَيَّامِ الْأَوْبِئَةِ وَالْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ- بِحَسَبَ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ- فِي الْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ، وَجَدِيرٌ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا أَصْلَحَ النَّاسِ أَجْسَادًا، وَأَقَلَّهُمْ أَدْوَاءً وَأَمْرَاضًا؛ لِأَنَّ دِينَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي نَظَافَةِ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْكِنَةِ؛ فَإِزَالَةُ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ الَّتِي تُوَلِّدُ الْأَمْرَاضَ مِنْ فُرُوضِ دِينِهِمْ، وَزَادَ عَلَيْهَا إِيجَابَ تَعَهُّدِ أَطْرَافِهِمْ بِالْغَسْلِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا؛ إِذْ نَاطَهُ الشَّارِعُ بِأَسْبَابٍ تَقَعُ كُلَّ يَوْمٍ، وَتَعَاهَدَ أَبْدَانَهُمْ كُلَّهَا بِالْغُسْلِ كُلَّ عِدَّةِ أَيَّامٍ مَرَّةً، فَإِذَا هُمْ أَدَّوْا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، تَنْتَفِي أَسْبَابُ تَوَلُّدِ جَرَاثِيمِ الْأَمْرَاضِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَأْكِيدَ سُنَّةِ السِّوَاكِ، وَعَرَفَ مَا يُقَاسِيهِ الْأُلُوفُ وَالْمَلَايِينُ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَمْرَاضِ الْأَسْنَانِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَكْبَرُ عِبْرَةٍ، وَمِنْ دَقَائِقِ مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ فِي الْوُضُوءِ لِقَوَانِينِ الصِّحَّةِ- غَيْرُ تَقْدِيمِ السِّوَاكِ عَلَيْهِ- تَأْكِيدُ الْبَدْءِ بِغَسْلِ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ وُضُوءٍ، فَهُوَ غَيْرُ الْأَمْرِ بِغَسْلِهِمَا لِمَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكَفَّيْنِ اللَّتَيْنِ تُزَاوَلُ بِهِمَا الْأَعْمَالُ يَعْلُقُ بِهِمَا مِنَ الْأَوْسَاخِ الضَّارَّةِ وَغَيْرِ الضَّارَّةِ مَا لَا يَعْلُقُ بِسِوَاهُمَا، فَإِذَا لَمْ يَبْدَأْ بِغَسْلِهِمَا يَتَحَلَّلُ مَا يَعْلُقُ بِهِمَا فَيَقَعُ فِي الْمَاءِ الَّذِي بِهِ يَتَمَضْمَضُ الْمُتَوَضِّئُ وَيَسْتَنْشِقُ، وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَعَيْنَيْهِ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ مَعَ كَوْنِهِ يُنَافِي النَّظَافَةَ الْمَطْلُوبَةَ، وَمِنْ حِكْمَةِ تَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ عَلَى غَسْلِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ اخْتِبَارُ طَعْمِ الْمَاءِ وَرِيحِهِ، فَقَدْ يَجِدُ فِيهِ تَغَيُّرًا يَقْتَضِي تَرْكَ الْوُضُوءِ بِهِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ فَوَائِدِ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ:
تَكْرِيمُ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ يَعِيشُ مَعَهُمْ، كَمَا يُكْرِمُهَا وَيُزَيِّنُهَا لِأَجْلِ غَشَيَانِ بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى لِلْعِبَادَةِ، بِهِدَايَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (7: 31) وَمَنْ كَانَ نَظِيفَ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ كَانَ أَهْلًا لِحُضُورِ كُلِّ اجْتِمَاعٍ، وَلِلِقَاءِ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَشُرَفَائِهِمْ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِكُلِّ كَرَامَةٍ يُكْرَمُ بِهَا النَّاسُ، وَأَمَّا مَنْ يَعْتَادُ الْوَسَخَ وَالْقَذَارَةَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْتَقَرًا عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ، لَا يَعُدُّونَهُ أَهْلًا لِأَنْ يَلْقَاهُمْ وَيَحْضُرَ مَجَالِسَهُمْ، وَيَشْعُرُ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِالضَّعَةِ وَالْهَوَانِ. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي طَبَائِعِ النُّفُوسِ وَأَخْلَاقِ الْبَشَرِ رَأَى بَيْنَ طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَطَهَارَةِ الْبَاطِنِ، أَوْ طَهَارَةِ الْجَسَدِ وَاللِّبَاسِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ وَكَرَامَتِهَا، ارْتِبَاطًا وَتَلَازُمًا.
وَالطَّهَارَةُ فِي الْآيَةِ تَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ عَوْنًا لِلْآخَرِ، كَمَا أَنَّ التَّنَطُّعَ وَالْإِسْرَافَ فِي أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَشْغَلُ عَنِ الْأُخْرَى. وَهَذَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ عِنَايَةِ بَعْضِ الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ بِنَظَافَةِ الظَّاهِرِ، وَعَدَمِ عِنَايَةِ الْمُوَسْوَسِينَ الْمُتَنَطِّعِينَ فِي نَظَافَةِ الظَّاهِرِ بِنَظَافَةِ الْبَاطِنِ، وَالْإِسْلَامُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا، يَأْمُرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُمَا، وَإِنِ اشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ حَتَّى هَوَّنُوا أَمْرَ نَظَافَةِ الظَّاهِرِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ، مَعَ ذِكْرِهِمْ لِأَدِلَّتِهَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (2: 143) وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَلَهُ تَتِمَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَسَدٍ وَنَفْسٍ، وَكَمَالُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِنَظَافَةِ بَدَنِهِ، وَتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ؛ فَالطَّهُورُ الْحِسِّيُّ هُوَ الشَّطْرُ الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِالْجَسَدِ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ هُوَ الشَّطْرُ الثَّانِي، وَبِكِلْتَيْهِمَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِالْأَعْمَالِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالطِّيبِ، وَلِبْسِ الثِّيَابِ النَّظِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدِ الْأُسْبُوعِ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، فَيُطْلَبُ فِيهِ مَا يُطْلَبُ فِي عِيدَيِ السَّنَةِ، وَوَرَدَ فِي أَسْبَابِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ فِيهِ خَاصَّةً أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَتْرُكُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قُبَيْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَتُشَمُّ رَائِحَةُ الْعَرَقِ مِنْهُمْ، وَلَا تَكُونُ أَبْدَانُهُمْ نَظِيفَةً، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ، فَإِذَا عَرِقُوا عَلَتْ رَائِحَتُهُ حَتَّى شَمَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً وَهُوَ يَخْطُبُ، فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْغُسْلِ وَالطِّيبِ وَالثِّيَابِ النَّظِيفَةِ لِأَجْلِ هَذَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»؛ أَيْ بَالِغٍ مُكَلَّفٍ. وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ وَعَطَاءٍ وَكَعْبٍ وَالْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَالْوُجُوبُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَعَارَضَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ حَدِيثَ الْوُجُوبِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّأْكِيدَ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ تَوَضَّأَ فَقَطْ، وَقَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِلْيَوْمِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلَاتِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِهِ أَقْوَى مِنْ أَدِلَّةِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ الْمَرْأَةِ وَمَسِّ الْفَرْجِ وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ.
شُبَهَاتُ الْمَلَاحِدَةِ عَلَى جَعْلِ الطَّهَارَةِ عِبَادَةً: تِلْكَ فَوَائِدُ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ لَهَا الَّتِي شُعِرَتْ لِأَجْلِهَا، وَأَمَّا فَوَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ، وَجَعْلُهَا عِبَادَةً وَدِينًا، فَإِنَّنَا قَبْلَ بَيَانِهَا نُنَبِّهُ أَذْهَانَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى جَهَالَةِ بَعْضِ الْمُعَطِّلِينَ، الَّذِينَ يَنْتَقِدُونَ جَعْلَ الطَّهَارَةِ مِنَ الدِّينِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِحَقَائِقِ الْفَلْسَفَةِ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا السَّفَهَ وَالتَّقْلِيدَ فِي الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا عُذْرٍ: عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْعُمْيَانُ الْمَنْكُوسُونَ وَالْأَغْبِيَاءُ الْمَرْكِسُونَ: إِنَّ الطَّهَارَةَ وَالْآدَابَ يَجِبُ أَنْ تُؤْتَى لِمَنْفَعَتِهَا وَفَائِدَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا؛ لَا لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا وَيُثِيبُ عَلَى فِعْلِهَا وَيُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الدِّينَ يَحُولُ دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي ارْتَقَوْا إِلَيْهَا، وَيُفْسِدُ نَفْسَ الْإِنْسَانِ بِتَخْوِيفِهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَحْجُبُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَاجِبِ وَالْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ- أَيْ حِجَابٌ- وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ هُمْ وَأَمْثَالُهُمْ، مِمَّنْ لَا دِينَ لَهُمْ، أَنْظَفُ ثِيَابًا وَأَبْدَانًا مِنْ جُمْهُورِ الْمُتَدَيِّنِينَ، حَتَّى الْمُتَنَطِّعِينَ مِنْهُمْ فِي الطَّهَارَةِ وَالْمُوَسْوِسِينَ، وَمَنْ يَعُدُّهُمُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ. وَنَقُولُ فِي كَشْفِ شُبْهَتِهِمْ وَإِظْهَارِ جَهَالَتِهِمْ: أَوَّلًا: إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ الذي لَا يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ دِينٌ سَمَاوِيٌّ سِوَاهُ ثَابِتُ الْأَصْلِ، سَامِقُ الْفَرْعِ، لَمْ يُشَرِّعْ لِلنَّاسِ شَيْئًا إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ دَفْعٌ لِضَرَرٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ، أَوْ جَلْبٌ لِنَفْعٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ، وَهُوَ يَهْدِي النَّاسَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ مَعَ مَعْرِفَةِ حِكَمِهَا الْكَاشِفَةِ لَهُمْ عَنْ فَوَائِدِهَا وَمَنَافِعِهَا {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (2: 151) فَمَا يَتَبَجَّحُونَ بِهِ مِنْ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ، مَعَ مُرَاعَاةِ مَنَافِعِهَا وَفَوَائِدِهَا، هُوَ مِمَّا هَدَى إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ الذي عَظَّمَ أَمْرَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَحَثَّ عَلَى طَلَبِ الْحِكْمَةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ.
وَثَانِيًا: إِنَّ أَمْرَ الْأُمَمِ بِالْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ الَّتِي تُفِيدُهَا فِي مَصَالِحِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمَنَافِعِ أَفْرَادِهَا الشَّخْصِيَّةِ، وَنَهْيَهَا عَنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّ الْأَفْرَادَ وَالْجُمْهُورَ لَا يُقْبَلَانِ وَيُمْتَثَلَانِ بِمُجَرَّدِ تَعْلِيلِهِمَا بِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ كَمَا يَزْعُمُونَ؛ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إِقْنَاعَكَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا بِضَرَرِ كُلِّ مَا تَرَاهُ ضَارًّا وَنَفْعِ كُلِّ مَا تَرَاهُ نَافِعًا مُتَعَذِّرٌ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَمَاءِ إِرْجَاعُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ عَنْ عَمَلٍ ضَارٍّ، وَلَا حَمْلُهَا عَلَى عَمَلٍ نَافِعٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى نَفْعِ النَّافِعِ وَضَرَرِ الضَّارِّ، وَلَا تَرَى أُمَّةً وَلَا قَبِيلَةً مِنَ الْبَشَرِ مُتَّفِقَةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِسَبَبِ دَعْوَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ تَقَالِيدَ أَوْصَلَهُمْ إِلَيْهَا اخْتِبَارُهُمُ الْمُوَافِقُ لِطَبِيعَةِ مَعَاشِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا تَكُونُ هَذِهِ التَّقَالِيدُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ قَوْمٍ مُخْتَلَفًا فِيهَا عِنْدَ آخَرِينَ، أَوْ مُتَّفَقًا عَلَى ضَرَرِ مَا يَرَاهُ أُولَئِكَ نَافِعًا، وَنَفْعِ مَا يَرَوْنَهُ ضَارًّا.
ثَانِي الْأَمْرِ: أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْنَاعِ وَالِاقْتِنَاعِ بِضَرَرِ الضَّارِّ وَنَفْعِ النَّافِعِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا التَّرْكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَارِضُهُ هَوَى النَّفْسِ وَلَذَّتُهَا فَيُرَجِّحُ الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ الْهَوَى عَلَى الْمَنْفَعَةِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ لِأُمَّتِهِمْ لَا لِأَشْخَاصِهِمْ، وَإِنَّنَا نَرَى هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِضِينَ الْمَسَاكِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا ضَارَّةٌ، وَقَدْ أَفْقَرَ الْقِمَارُ بُيُوتَ أَمْثَلِهِمْ وَأَشْهَرِهِمْ، وَأَذَلَّ مَنْ أَذَلَّ مِنْهُمْ بِالدَّيْنِ وَالْحَجْزِ عَلَى مَا يَمْلِكُ، وَبَيْعِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ أَمَاتَ بَعْضَهُمْ غَمًّا وَكَمَدًا، وَنَرَاهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَفْتُونِينَ بِهِ لَا يَتْرُكُونَهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ أَرْقَاهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا وَأَدَبًا وَفَلْسَفَةً فِي اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمُ الَّتِي ثَبَتَ لَهُمْ ضَرَرُهَا بِالِاخْتِبَارِ وَالْعِيَانِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ بُرْهَانٌ؛ فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَهْذِيبُ الْأُمَّةِ بِالْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ عَلَى تَعَذُّرِهِ، وَمَا عَرَفُوا مِنْ أَثَرِهِ؟! وَأَمَّا مَا يَعْنُونَ بِهِ مِنَ النَّظَافَةِ وَبَعْضِ الْآدَابِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْتُونَهُ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْفَلْسَفَةِ وَالْعِلْمِ بِنَفْعِهِ، بَلْ قَلَّدُوا فِيهِ قَوْمًا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِأَسْبَابٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ، وَتَجَارِبَ وَاخْتِبَارَاتٍ عِدَّةَ قُرُونٍ. حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَرْقَى الْأُمَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ أَخْلَاقًا وَأَدَبًا وَعِلْمًا وَاسْتِقْلَالًا- وَهُوَ مِسْتَرْ مِتْشِل أَنَس الَّذِي كَانَ وَكِيلَ نِظَارَةِ الْمَالِيَّةِ بِمِصْرَ- أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي أُورُبَّا مَنْ لَا يَغْتَسِلُ فِي سَنَتِهِ أَوْ فِي عُمْرِهِ وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ الشَّعْبَ الْإِنْكِلِيزِيَّ هُوَ أَشَدُّ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ عِنَايَةً بِالنَّظَافَةِ، وَالْقُدْوَةُ لَهَا فِيهَا، كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ فِي الْبَوَاخِرِ الَّتِي يُسَافِرُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأُورُوبِّيِّينَ الْمُخْتَلِفِي الْأَجْنَاسِ، وَأَنَّ الْإِنْكِلِيزَ قَدْ تَعَلَّمُوا الِاسْتِحْمَامَ وَكَثْرَةَ الْغُسْلِ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ.