فصل: ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَوْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ يَفْعَلُ الْمُتَوَضِّئُ أَيُّهُمَا شَاءَ، وَيَكُونُ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ.
أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ.
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَا هُمَا جَمِيعًا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى خِلَافِهِ؛ وَلَا جَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ وَلَا دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَلَوْ جَازَ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ مَعَ عَدَمِ لَفْظِ التَّخْيِيرِ فِي الْآيَةِ لَجَازَ إثْبَاتُ الْجَمْعِ مَعَ عَدَمِ لَفْظِ الْجَمْعِ، فَبَطَلَ التَّخْيِيرُ بِمَا وَصَفْنَا.
وَإِذَا انْتَفَى التَّخْيِيرُ وَالْجَمْعُ لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَاحْتَجْنَا إلَى طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُمَا؛ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إذَا غَسَلَ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ وَأَتَى بِالْمُرَادِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَلُومٍ عَلَى تَرْكِ الْمَسْحِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْغَسْلُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّفْظَ لَمَّا وَقَفَ الْمَوْقِفَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ احْتِمَالِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا، صَارَ فِي حُكْمِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ، فَمَهْمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْبَيَانِ عَنْ الرَّسُولِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَقَدْ وَرَدَ الْبَيَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَسْلِ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَأَمَّا وُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ فَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُتَوَاتِرِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ».
وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِيهِ، فَصَارَ فِعْلُهُ ذَلِكَ وَارِدًا مَوْرِدَ الْبَيَانِ، وَفِعْلُهُ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْآيَةِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ فَمَا رَوَى جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ».
«وَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً مَرَّةً، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ».
فَقَوْلُهُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» وَعِيدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ؛ فَهَذَا يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الرِّجْلِ بِالطَّهَارَةِ وَيُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يُجِيزُ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْبَعْضِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» وَقَوْلُهُ بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ: «هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ» يُوجِبُ اسْتِيعَابَهَا بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ اسْمٌ لِلْغَسْلِ يَقْتَضِي إجْرَاءَ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَالْمَسْحُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ وَفِي الْخَبَرِ الْآخَرِ إخْبَارٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ الصَّلَاةَ إلَّا بِغَسْلِهِمَا.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمَسْحُ جَائِزًا لَمَا أَخْلَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيَانِهِ؛ إذْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ فِي الْمَسْحِ كَهُوَ فِي الْغَسْلِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ فِي وَزْنِ غَسْلِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ الْمَسْحُ حَسَبَ وُرُودِهِ فِي الْغَسْلِ ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْحَ غَيْرُ مُرَادٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا الْغَسْلُ وَفِي الْأُخْرَى الْمَسْحُ لِاحْتِمَالِهِمَا لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَلَوْ وَرَدَتْ آيَتَانِ إحْدَاهُمَا تُوجِبُ الْغَسْلَ وَالْأُخْرَى الْمَسْحَ لَمَا جَازَ تَرْكُ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ؛ لِأَنَّ فِي الْغَسْلِ زِيَادَةَ فِعْلٍ، وَقَدْ اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ، فَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرِهِمَا فَائِدَةً وَهُوَ الْغَسْلُ لِأَنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْمَسْحِ وَالْمَسْحُ لَا يَنْتَظِمُ الْغَسْلَ.
وَأَيْضًا لَمَّا حَدَّدَ الرِّجْلَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} كَمَا قَالَ: {وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} دَلَّ عَلَى است يُعَابِ الْجَمِيعِ، كَمَا دَلَّ ذِكْرُ الْأَيْدِي عَلَى الْمَرَافِقِ عَلَى اسْتِيعَابِهِمَا بِالْغَسْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَنَعْلَيْهِ».
قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ بِهِ عَلَى مُوجِبِ الْآيَةِ مِنْ الْغَسْلِ عَلَى مَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي مِثْلِهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ وَقَالَ: (الْمُرَادُ الْغَسْلُ) فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ الْمَسْحِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ دُونَ الْغَسْلِ لَمَا قَالَ: إنَّ مُرَادَ اللَّهِ الْغَسْلُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ، قَالَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ» وَهُوَ حَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ: «أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي الرَّحْبَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْ الْعَصْرُ دَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ» وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوءِ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ.
وَأَيْضًا لَمَّا احْتَمَلَتْ الْآيَةُ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ، اسْتَعْمَلْنَاهَا عَلَى الْوُجُوبِ فِي الْحَالَيْنِ: الْغَسْلُ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ، وَالْمَسْحُ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا سَقَطَ فَرْضُ الرِّجْلِ فِي حَالِ التَّيَمُّمِ كَمَا سَقَطَ الرَّأْسُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَمْسُوحَةٌ غَيْرُ مَغْسُولَةٍ.
قِيلَ لَهُ: فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْغَسْلُ مُرَادًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ فَقَدْ فَعَلَ الْمَفْرُوضَ؛ وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَيْضًا فِي نَقْلِ الْغَسْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ كُلِّهِ يَسْقُطُ فِي الْجَنَابَةِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَقَامَ التَّيَمُّمُ فِي هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ مَقَامَ غَسْلِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ التَّيَمُّمُ فِيهَا.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْكَعْبَيْنِ مَا هُمَا، فَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: (هُمَا النَّاتِئَانِ بَيْنَ مَفْصِلِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ).
وَحَكَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: (أَنَّهُ مَفْصِلُ الْقَدَمِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ عَقْدُ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ).
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ، وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ رَجُلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ لَقَالَ: إلَى الْكِعَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ قَلْبٌ وَاحِدٌ أَضَافَهُمَا إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَلَمَّا أَضَافَهُمَا إلَى الْأَرْجُلِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَامِعِ بْنِ شِدَادٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارَبِي قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ حَمْرَاءُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ وَقَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وَكَعْبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، فَقُلْت: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ، قُلْت: فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالُوا: هَذَا عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي جَانِبِ الْقَدَمِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ وَرَاءِ الْمَاشِي لَا يَضْرِبُ ظَهْرَ الْقَدَمِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْن شِيرَوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الْقَاسِمِ الْجَدَلِيِّ قَالَ: سَمِعْت النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ أَوْ وُجُوهِكُمْ» قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْت الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَ مَا وَصَفْنَا؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:

قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: (يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا).
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ: (أَنَّهُ لَا وَقْتَ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، إذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ يَمْسَحُ مَا بَدَا لَهُ)، قَالَ مَالِكٌ: (وَالْمُقِيمُ وَالْمُسَافِرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ)، وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ؛ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: (أَنَّ الْمُسَافِرَ يَمْسَحُ وَلَا يَمْسَحُ الْمُقِيمُ)، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَعَّفَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ يُوجِبُ الْعِلْمَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا وَرَدَتْ كَوُرُودِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الِاسْتِفَاضَةِ.
وَمَا دَفَعَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ حَيْثُ نَعْلَمُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلَمْ يَشُكَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَسَحَ، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي وَقْتِ مَسْحِهِ أَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَرَوَى الْمَسْحَ مُوَقَّتًا لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَصَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ وَخُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ، وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَثَوْبَانُ وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ».
قَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا مُعْجَبِينَ بِحَدِيثِ جَرِيرِ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ.
وَلَمَّا كَانَ وُرُودُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِفَاضَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِ نَاقِلِيهَا وَامْتِنَاعِ التَّوَاطُؤِ وَالسَّهْوِ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ حُكْمِ الْآيَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْآيَةِ احْتِمَالًا لِلْمَسْحِ، فَاسْتَعْمَلْنَاهُ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَاسْتَعْمَلْنَا الْغَسْلَ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ أَوْ بَعْدَهَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَسَحَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَالْآيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَيْهِ غَيْرُ نَاسِخَةٍ لَهُ لِاحْتِمَالِهَا مَا يُوجِبُ مُوَافَقَتَهُ مِنْ الْمَسْحِ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا احْتِمَالٌ لِمُوَافَقَةِ الْخَبَرِ لَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِهِ فَيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ خَاصًّا فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ دُونَ حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةً لِلْمَسْحِ فَإِنَّمَا جَازَ الْمَسْحُ لِمُوَافَقَةِ مَا احْتَمَلَتْهُ الْآيَةُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا نَسْخُ الْآيَةِ بِمِثْلِهِ لِتَوَاتُرِهِ وَشُيُوعِهِ.
وَمِنْ حَيْثُ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَبَتَ التَّوْقِيتُ فِيهِ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ بِمِثْلِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْحِ مُطْلَقًا ثَبَتَ التَّوْقِيتُ أَيْضًا، فَإِنْ بَطَلَ التَّوْقِيتُ بَطَلَ الْمَسْحُ وَإِنْ ثَبَتَ الْمَسْحُ ثَبَتَ التَّوْقِيتُ.
فَإِنْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ جُمُعَةً: (أَصَبْت السُّنَّةَ)، وَبِمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ كَثِيرٍ بْنِ شِنْظِيرٍ عَنْ الْحَسَنِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُوَقِّتُونَ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ أَنْكَرَ عَلَى سَعْدٍ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ: (يَا بُنَيَّ عَمُّك أَفْقَهُ مِنْك، لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ) وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ التَّوْقِيتُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُقْبَةَ حِينَ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ جُمُعَةً: (أَصَبْت السُّنَّةَ) يَعْنِي: أَنَّك أَصَبْت السُّنَّةَ فِي الْمَسْحِ، وَقَوْلُهُ: (إنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً) إنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: (مَسَحْت شَهْرًا عَلَى الْخُفَّيْنِ) وَهُوَ يَعْنِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مَسَحَ جُمُعَةً دَائِمًا لَا يَفْتُرُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَسْحَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْمَسْحِ، كَذَلِكَ إنَّمَا أَرَادَ الْوَقْتَ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْمَسْحُ.