فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



التخريج الثاني: أنه معطوفٌ على {برؤوسكم} لفظًا ومعنى، ثم نُسِخ ذلك بوجوبِ الغسل، أو هو حكمٌ باقٍ، وبه قال جماعة، أو يُحمل مسحُ الأرجلِ على بعضِ الأهوال وهو لُبْسُ الخفِّ، ويُعزى للشافعي. التخريج الثالث: انها جُرَّت مَنْبَهَةً على عدم الإِسراف باستعمال الماء لأنها مَظَنَّةٌ لصبِّ الماءِ كثيرًا، فَعَطَفَتْ على الممسوح، والمرادُ غَسْلُها لِما تقدم، وإليه ذَهَب الزمخشري. قال: وقيل: {إلى الكعبين} فجيء بالغاية إماطة لظنَّ ظانَّ يَحْسَبُها ممسوحة، لأنَّ المسح لم تُضْرب له غايةٌ في الشريعة وكأنه لم ترتضِ هذا القول الدافعَ لهذا الوهمِ وهو كما قال. التخريج الرابع: أنها مجرورةٌ بحرفِ جرٍ مقدرٍ دَلَّ عليه المعنى، ويتعلَّق هذا الحرفُ بفعلٍ محذوفٍ أيضًا يليق بالمحل، فيُدَّعى حذفُ جملةٍ فعلية وحَذْفُ حرفِ جر، قالوا: وتقديرُه: «وافعَلُوا بأرجلِكم غسلًا».
قال أبو البقاء: وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ الجرِ جائزٌ كقوله:
مشائيمُ ليسوا مُصْلِحينَ عشيرةً ** ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها

وقال الآخر:
بدا ليَ أنِّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى ** ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائِيا

فجُرَّ بتقديرِ الباء، وليس بموضعِ ضرورةٍ، وقد أَفْرَدْتُ لهذه المسألةِ كتابًا قوله: «وإبقاء الجر» ليس على إطلاقهِ، وإنما يَطَّرد منه مواضعُ نصَّ عليها أهلُ اللسانِ ليس هذا منها، وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النحاة يسمى «العطف على التوهُّم» يعني كأنه توهَّم وجودَ الباء زائدةً في خبر «ليس» لأنها يكثُر زيادتُها، ونَظَّروا ذلك بقوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] بجزم {أَكُنْ} عطفًا على {فأصَّدَّق} على توهُّم سقوط الفاء من {فأصَّدَّق} نَصَّ عليه سيبويه وغيرُه، فظهرَ فساد هذا التخريج.
وأمَّا قراءةُ الرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي: وأرجلُكم مغسولةٌ أو ممسوحة على ما تقدم في حكمها. والكلام في قوله: {إلى الكعبين} كالكلام في {إلى المرفقين}. والكعبان فيهما قولان مشهوران، أشهرهما: أنهما العَظْمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، في كل رِجْلٍ كعبان. والثاني: أنه العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شِراك النعل، ومرادُ الآية هو الأول. والكعبة: كلُّ بيتٍ مربع، وسيأتي بيانُه في موضعِه.
قوله: «منه» في محلِّ نصبٍ متعلِّقًا ب «امسحوا» و«مِنْ» فيها وجهان أظهرهما: أنها للتبعيض. والثاني: انها لا بتداء الغايةِ، ولهذا لا يُشْترط عند هؤلاء أن يتعلق باليد غبارٌ. وقوله: {ليجعلَ} الكلامُ في هذه اللامِ كالكلامِ عليها في قوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]، إلا أنَّ مَنْ جَعَلَ مفعولَ الإِرادة محذوفًا وعَلَّقَ به اللامَ مِنْ {ليجعلَ} زاد «مِنْ» في الإِيجاب في قوله: {من حرج}، وساغَ ذلك لأنه في حَيِّز النفي وإن لم يكن النفيُ واقعًا على فعل الحرج. و{من حرج} مفعول {ليجعل} والجعلُ يحتمل أنه بمعنى الإِيجاد والخَلْق فيتعدى لواحد وهو {من حرج} و{مِنْ} مزيدةٌ فيه، كما تقدم، ويتعلق عليكم حينئذ بالجعل ويجوز أن يتعلق ب {حرج} فإن قيل: هو مصدرٌ، والمصدرُ لا يتقدَّم معمولُه عليه. قيل: ذلك في المصدر المؤول بحرفٍ مصدري وفعل لأنه بمعنى الموصول، وهذا ليس مؤولًا بحرف مصدري، ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيكون {عليكم} هو المفعولَ الثاني.
قوله: {عَلَيْكُم} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلق ب {يتم}. والثاني: أنه متعلقٌ ب {نعمته} والثالث: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من {نعمته} ذكر هذين الوجهين الأخيرين أبو البقاء وهذه الآيةُ بخلاف التي قبلَها في قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] حيث امتنع تعلُّقُ الجارِّ بالنعمةِ لتقدُّم معمول المصدر عليه كما تقدَّم بيانه. قال الزمخشري: وقرئ فَأَطْهِروا أي: أَطْهروا أبدانَكم، وكذلك: {ليُطْهِركم} يعين أنه قُرِئ: {أَطِهِروا} أمرًا من أَطْهَر رباعيًا كَأَكْرم، ونسب الناسُ القراءة الثانية- أعني قوله: {لِيُطهِرَكم} لسعيد بن المسيب. اهـ.

.تفسير الآية رقم (7):

قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان في هذه المأمورات والمنهيات خروج عن المألوفات، وكانت الصلاة أوثق عرى الدين، وكان قد عبر عنها بالإيمان الذي هو أصل الدين وأساس الأعمال، عطف عليها قوله تذكيرًا بما يوجب القبول والانقياد: {واذكروا} أي ذكر اتعاظ وتأمل واعتبار.
ولما كان المقصود من الإنعام غايته قال: {نعمة الله} أي الملك الأعلى {عليكم} أي في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، وفي غير ذلك من جميع النعم، وإنما لم تجمع لئلا يظن أن المقصود تعداد النعم، لا الندب إلى الشكر بتأمل أن هذا الجنس لا يقدر عليه غيره سبحانه وعظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يستحقه بجعل فعله سبحانه فعله صلى الله عليه وسلم فقال: {وميثاقه} أي عقده الوثيق {الذي واثقكم به} أي بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره {إذ} أي حين {قلتم سمعنا وأطعنا} وفي ذلك تحذير من مثل ما أراد بهم شاس بن قيس، وتذكير بما أوجب له صلى الله عليه وسلم عليهم من الشكر بهدايته لهم إلى الإسلام المثمر لالتزام تلك العهود ليلة العقبة الموجبه للوفاء الموعود عليه الجنة، والتفات إلى قوله أول السورة {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] وحديث إسباغ الوضوء على المكاره مبيّن لحسن هذه التناسب.
ولما كان أمر الوفاء بالعهد صعبًا، لا يقوم به إلا من صدقت عريقته وصلحت سريرته، وإنما يحمل عليه مخافة الله قال: {واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين ما يغضب الملك الأعظم. الذي يفعل ما يشاء.
من نقض العهد وقاية من حسن القيام، لتكونوا في أعلى درجات وعيه، ثم علل ذلك مرغبًا مرهبًا بقوله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي أحوالها من سرائرها وإن كان صاحبها لم يعلمها لكونها لم تبرز إلى الوجود، وعلانيتها وإن صاحبها قد نسيها. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما ذكر هذا التكليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد، وذلك من وجهين: الأول: كثرة نعمة الله عليهم، وهو المراد من قوله: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} ومعلوم أن كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وفيه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

إنما قال: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} ولم يقل نعم الله عليكم، لأنه ليس المقصود منه التأمل في إعداد نعم الله، بل المقصود منه التأمل في جنس نعم الله لأن هذا الجنس جنس لا يقدر غير الله عليه، فمن الذي يقدر على إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله، فقوله تعالى: {واذكروا نِعْمَتَ الله} المراد التأمل في هذا النوع من حيث أنه ممتاز عن نعمة غيره، وذلك الامتياز هو أنه لا يقدر عليه غيره، ومعلوم أن النعمة متى كانت على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {واذكروا نِعْمَتَ الله} مشعر بسبق النسيان، فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات، إلاّ أن الجواب عنه أنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد، فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سببًا لوقوعها في محل النسيان، ولهذا المعنى قال المحققون: إنه تعالى إنما كان باطنًا لكونه ظاهرًا، وهو المراد من قولهم: سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره.
السبب الثاني: من الأسباب التي توجب عليهم كونهم منقادين لتكاليف الله تعالى هو الميثاق الذي واثقهم به، والمواثقة المعاهدة التي قد أحكمت بالعقد على نفسه، وهذه الآية مشابهة لقوله في أول السورة {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1].
وللمفسرين في تفسير هذا الميثاق وجوه:
الأول: أن المراد هو المواثيق التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه، مثل مبايعته مع الأنصار في أول الأمر ومبايعته عامة المؤمنين تحت الشجرة وغيرهما، ثم إنه تعالى أضاف الميثاق الصادر عن الرسول إلى نفسه كما قال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وقال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] ثم إنه تعالى أكد ذلك بأن ذكرهم أنهم التزموا ذلك وقبلوا تلك التكاليف وقالوا سمعنا وأطعنا، ثم حذرهم من نقض تلك العهود والمواثيق فقال: {واتقوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعني لا تنقضوا تلك العهود ولا تعزموا بقلوبكم على نقضها، فإنه إن خطر ذلك ببالكم فالله يعلم بذلك وكفى به مجازيًا.
والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل حين قالوا آمنا بالتوراة وبكل ما فيها، فلما كان من جملة ما في التوراة البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم لزمهم الإقرار بمحمد عليه الصلاة والسلام، والثالث: قال مجاهد والكلبي ومقاتل: هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى منهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم.
فإن قيل: على هذا القول أن بني آدم لا يذكرون هذا العهد والميثاق فكيف يؤمرون بحفظه؟
قلنا: لما أخبر الله تعالى بأنه كان ذلك حاصلًا حصل القطع بحصوله، وحينئذ يحسن أن يأمرهم بالوفاء بذلك العهد.
الرابع: قال السُّدي: المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع، وهو اختيار أكثر المتكلمين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ}.
قيل: هو الميثاق الذي في قوله عزّ وجلّ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ} [الأعراف: 172]؛ قاله مجاهد وغيره.
ونحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الصَّادق به، فيجوز أن نؤمر بالوفاء به.
وقيل: هو خطاب لليهود بحفظ ما أخذ عليهم في التوراة؛ والذي عليه الجمهور من المفسرين كابن عباس والسُّدّي هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المَنْشَط والمَكْرَه إذ قالوا: سمعنا وأطعنا، كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة، وأضافه تعالى إلى نفسه كما قال: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العَقَبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه، وكان أوّل من بايعه البَرَاء بن مَعْرور، وكان له في تلك الليلة المقام المحمود في التوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشدّ لعقد أمره، وهو القائل: والذي بعثك بالحق لنَمنعنَّك مما نمنع منه أُزُرَنا، فبايِعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلْقة ورِثناها كابرًا عن كابر.
الخبر المشهور في سيرة ابن إسحاق.
ويأتي ذكر بيعة الرّضوان في موضعها.
وقد اتصل هذا بقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} فوفوا بما قالوا؛ جزاهم الله تعالى عن نبيهم وعن الإسلام خيرًا، ورضي الله عنهم وأرضاهم.
{واتقوا الله} أي في مخالفته إنه عالم بكل شيء. اهـ.