فصل: فصل في الْقِيَامُ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَدْلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في الْقِيَامُ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَدْلِ:

قال الجصاص:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} وَمَعْنَاهُ: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بِالْحَقِّ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُكُمْ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجْتِنَابِهِ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِالْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} يَعْنِي بِالْعَدْلِ؛ قَدْ قِيلَ فِي الشَّهَادَةِ إنَّهَا الشَّهَادَاتُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ؛ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَقِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّاسِ بِمَعَاصِيهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فَكَانَ مَعْنَاهُ: أَنْ كُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ الَّذِينَ حَكَمَ اللَّهُ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الشَّهَادَةَ لِأَمْرِ اللَّهِ بِأَنَّهُ الْحَقُّ.
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُرَادَةً لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا} رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ حِينَ ذَهَبَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعِينَهُمْ فِي دِيَةٍ، فَهَمُّوا أَنْ يَقْتُلُوهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: «نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ لَمَّا صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} فَحَمَلَهُ الْحَسَنُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي غَيْرِهِمْ وَأَنْ لَا تَكُونَ تَكْرَارًا.
وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْعَدْلِ عَلَى الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَحُكِمَ بِأَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَظُلْمَهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَدْلِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ لَا يُتَجَاوَزَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَ، وَأَنْ يَقْتَصِرَ بِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ مِنْ الْقِتَالِ وَالْأَسْرِ وَالِاسْتِرْقَاقِ دُونَ الْمُثْلَةِ بِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ وَقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ قَصْدًا لِإِيصَالِ الْغَمِّ وَالْأَلَمِ إلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَيْبَرَ خَارِصًا، فَجَمَعُوا لَهُ شَيْئًا مِنْ حُلِيِّهِمْ وَأَرَادُوا دَفْعَهُ إلَيْهِ لِيُخَفِّفَ فِي الْخَرْصِ: إنَّ هَذَا سُحْتٌ وَإِنَّكُمْ لَأَبْغَضُ إلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَمَا يَمْنَعُنِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَدْلَ نَفْسَهُ هُوَ التَّقْوَى، فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ هُوَ أَقْرَبُ إلَى نَفْسِهِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ: هُوَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ تَكُونُوا مُتَّقِينَ بِاجْتِنَابِ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ، فَيَكُونُ الْعَدْلُ فِيمَا ذُكِرَ دَاعِيًا إلَى الْعَدْلِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَاجْتِنَابِ جَمِيعِ الْمَعَاصِي؛ وَيَحْتَمِلُ: هُوَ أَقْرَبُ لِاتِّقَاءِ النَّارِ.
وَقَوْلُهُ: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فَقَوْلُهُ: «هُوَ» رَاجِعٌ إلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، كَأَنَّهُ قَالَ: الْعَدْلُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ كَذَبَ كَانَ شَرًّا لَهُ؛ يَعْنِي كَانَ الْكَذِبُ شَرًّا لَهُ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
تَقَدَّمَ أَكْثَرُ مَعْنَاهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِنَظِيرَتِهَا، وَنَحْنُ نُعِيدُ ذِكْرَ مَا تَجَدَّدَ هَاهُنَا مِنْهَا، وَنُعِيدُ مَا تَحْسُنُ إعَادَتُهُ فِيهَا فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، ذَهَبَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ فَوَعَدُوهُ ثُمَّ هَمُّوا بِغَدْرِهِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلَّا يُحَمِّلَهُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْحَالَةِ الْمُبْغِضَةِ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْحَقِّ فِيهَا قَضَاءً أَوْ شَهَادَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}: أَوْ {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قِيَامُهُ لِلَّهِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ يَكُونُ بِالْعَدْلِ، وَمَنْ كَانَ قِيَامُهُ بِالْعَدْلِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ؛ لِارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ارْتِبَاطَ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ وَالْعَدْلُ مُرْتَبِطٌ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}: يُرِيدُ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ الْحَقِّ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُفُوذِ حُكْمِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَنُفُوذُ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ أَبْغَضَهُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْرِهِ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْبُغْضُ وَرَدَ مُطْلَقًا فَلِمَ خَصَّصْتُمُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي اللَّهِ تَعَالَى؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْبُغْضَ فِي غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا بِقَوْلِ الْحَقِّ عَلَى عَدُوِّهِ مَعَ عَدَاوَةٍ لَا تَحِلُّ، فَيَكُونُ تَقْرِيرًا لِلْوَصْفِ، وَفِيهِ أَمْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ}.
لا يُعَوِّقنَّكم حصولُ نصيبٍ لكم في شيء عن الوفاء لنا، والقيام بما يتوجَّب عليكم من حقنا.
ويقال من لم يقسط عند مواعد رغائبه، ولم يمحُ عنه نواجم شهواته ومطالبه لم يقم لله بحق ولم يفِ لواجباته بشرط.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
أي لا تحملكم ضغائن صدوركم على الحلول بجنبات الحيف فإنَّ مرتعَ الظلمِ وبيءٌ، ومواضع الزيغ مهلكة.
ثم صرَّح بالأمر بالعدل فقال: {اعدلوا} ولا تكون حقيقة العدل إلا بالعدول عن كل حظٍ ونصيب.
والعدلُ أقربُ إلى التقوى، والجَوْزُ أقربُ من الرَّدَى، ويُوقِعُ عن قريبٍ في عظيم البلوى. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا}.
تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء، إلا أنّ هناك بدىء بالقسط، وهنا أخر.
وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة.
ويلزم مَن كان قائمًا لله أن يكون شاهدًا بالقسط، ومن كان قائمًا بالقسط أن يكون قائمًا لله، إلا أنَّ التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدىء فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن، فبدىء فيها بالقيام لله تعالى أولًا لأنه أردع للمؤمنين، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيه بما هو آكد وهو القسط، وفي معرض العداوة والشنآن بدىء فيها بالقيام لله، فناسب كل معرض بما جيء به إليه.
وأيضًا فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا} وقوله: {فلا جناح عليهما أن يصالحا} فناسب ذكر تقديم القسط، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها، وهو خلاف الأصل.
{اعدلوا هو أقرب للتقوى} أي: العدل نهاهم أولًا أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانيًا تأكيدًا، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: هو أقرب للتقوى، أي: أدخل في مناسبتها، أو أقرب لكونه لطفًا فيها.
وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين.
{واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم، ولكنها تختص بما لطف إدراكه، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}.
إنّ الحق- كما علمنا- حين ينادي المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} إنه سبحانه لم يقتحم على الناس تصرفاتهم الاختيارية لمنهجه، بل يلزم ويأمر من آمن به ويوجب عليه؛ فيوضح: يا من آمنت بي إلها حكيما قادرا خذ منهجي. ولكن الحق يقول: {يا أيها الناس} حين يريد أن يلفت كل الخلق إلى الاعتقاد بوجوده، أما من يؤمن به فهو يدخل في دائرة قوله الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} وهذا النداء يقتضي بأن يسمع المؤمن التكليف ممن آمن بوجوده.
ونعلم أننا جميعا عبيد الله، لكن لسنا جميعا عباد الله. وهناك فرق بين «عبيد» و«عباد». فالعبيد هم المرغمون على القهر في أي لون من ألوان حياتهم، ولا يستطيعون أن يدخلوا اختيارهم فيه. قد نجد متمردًا يقول: «أنا لا أؤمن بإله» ولكن هل يستطيع أن يتمرد على ما يقضيه الله فيما يجريه الله عليه قهرا؟ فإذا مرض وادعى أنه غير مريض فما الذي يحدث له؟ أيجرؤ واحد من هؤلاء المتمردين على ألا يموت؟!! لا أحد يقدر على ذلك.
إذن فكل عبد مقهور لله، وكلنا عبيد الله يستدعينا وقتما يريد ويجري علينا ما يريد بما فوق الاختيارات. أما «العباد» فهم الذين يأتون إلى ما فيه اختيار لهم ويقولون لله: لقد نزعنا من أنفسنا صفة الاختيار هذه ورضينا بما تقوله لنا «افعل كذا» و«لا تفعل كذا». إذن فالعبيد مقهورون بما يجريه عليهم الحق بما يريد، والعباد هم الذين يرضون ويكون اختيارهم وفق ما يحبه الله ويرضاه؛ إنهم أسلموا الوجه لله. فهم مقهورون بالاختيار، أمّا العبيد فمقهورون بالإجبار.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ}. و«قوام» صفة مبالغة والأصل فيها قائم، فإن أكثر القيام نطلق عليه «قوام». ومثال ذلك رجل لا يحترف النجارة وجاء بقطعة من الخشب وأراد أن يسد بها ثقبا في باب بيته؛ هذا الرجل يقال له: «ناجر» ولا يقال له: «نجار»، ذلك أن تخصصه في الحياة ليس في النجارة. وكذلك الهاوي الذي يخرج بالسنارة إلى البحر؛ واصطاد سمكتين؛ يقال له: «صائد» لكنه ليس صيادًا؛ لأن الصيد ليس حرفته.
إن الحق يطلب من كل مؤمن ألا يكون قائما لله فقط، ولكن يطلب من كل مؤمن أن يكون قواما؛ أي مبالغ في القيام بأمر الله. والقيام يقابله القعود. وبعد القعود الاضطجاع وهو وضع الجنب على الأرض ثم الاستلقاء، وبعد ذلك ينام الإنسان. ونحن أمام أكثر من مرحلة: قائم وقاعد ومستلق، ونائم.