فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فاعف عَنْهُمْ واصفح} أي إذا تابوا أو بذلوا الجزية كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر واختاره الطبري، فضمير عنهم راجع إلى ما رجع إليه نظائره، وعن أبي مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم يخونوك، وعلى القولين فالآية محكمة، وقيل: الضمير عائد على ما اختاره الطبري، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29] الآية.
وروي ذلك عن قتادة، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء} [الأنفال: 58]. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} فيه وجهان:
الأول: قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنًا فقد أحبك الله.
والثاني: أن المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيون بقوله: {إِلاَّ قَلِيلًا مّنْهُمُ} وهم الذين نقضوا عهد الله، والقول الأول أولى لأن صرف قوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} على القول الأول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه هو المأمور في هذه الآية بالعفو والصفح، وعلى القول الثاني إلى غير الرسول، ولا شك أن الأول أولى. اهـ.

.قال سيد قطب:

في نهاية الدرس الماضي، ذكر الله المسلمين بميثاقهم الذي واثقهم به؛ وذكرهم نعمته التي أنعم بها عليهم في هذا الميثاق. ذلك كي يؤدوا من جانبهم ما استحفظوا عليه؛ ويتقوا أن ينقضوا ميثاقهم معه.
فالآن يستغرق هذا الدرس كله في استعراض مواقف أهل الكتاب من مواثيقهم؛ واستعراض ما حل بهم من العقاب نتيجة نقضهم لهذه المواثيق؛ لتكون هذه- من جانب- تذكرة للجماعة المسلمة ماثلة من بطون التاريخ، ومن واقع أهل الكتاب قبلهم، وليكشف الله- من جانب- عن سنته التي لا تتخلف ولا تحابي أحدًا. ومن الجانب الثالث ليكشف عن حقيقة أهل الكتاب وحقيقة موقفهم؛ وذلك لإبطال كيدهم في الصف المسلم؛ وإحباط مناوراتهم ومؤامراتهم؛ التي يلبسونها ثوب التمسك بدينهم؛ وهم في الحقيقة قد نقضوا هذا الدين من قبل؛ ونقضوا ما عاهدوا الله عليه..
ويحتوى هذا الدرس على استعراض ميثاق الله مع قوم موسى، عند إنقاذهم من الذل في مصر؛ ثم نقضهم لهذا الميثاق؛ وما حاق بهم نتيجة نقضهم له؛ وما أصابهم من اللعنة والطرد من مجال الهدى والنعمة.. وعلى استعراض ميثاق الله مع الذين قالوا: إنا نصارى. ونتيجة نقضهم له من إغراء العداوة بين فرقهم المختلفة إلى يوم القيامة. ثم على استعراض موقف اليهود أمام الأرض المقدسة التي أعطاهم الله ميثاقه أن يدخلوها، فنكصوا على أعقابهم وجبنوا عن تكاليف ميثاق الله معهم. وقالوا لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}.
ويتخلل هذا الاستعراض للمواثيق ومواقف أهل الكتاب منها، كشف لما وقع في عقائد اليهود والنصارى من انحراف نتيجة نقضهم لهذه المواثيق؛ التي عاهدهم الله فيها على توحيده والإسلام له؛ في مقابل ما أعطاهم من النعم، وما ضمن لهم من التمكين؛ فأبوا ذلك كله على أنفسهم؛ فباءوا باللعنة والفرقة والتشريد..
كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى.. الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة؛ وجاءهم به الرسول الأخير. ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد، ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم، فنسوا ولبس عليهم الأمر.. فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير. فسقطت الحجة، وقام الدليل.
ومن خلال هذه الدعوة، تتبين وحدة دين الله- في أساسه- ووحده ميثاق الله مع جميع عباده: أن يؤمنوا به، ويوحدوه، ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم، وينصروهم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وينفقوا في سبيل الله من رزق الله.. فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة، ويقرر العبادة الصحيحة، ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح..
فالآن نأخذ في استعراض هذه الحقائق كما وردت في السياق القرآني الكريم:
{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلًا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}.
{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون}.
لقد كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ميثاقًا بين طرفين؛ متضمنًا شرطًا وجزاء. والنص القرآني يثبت نص الميثاق وشرطه وجزاءه، بعد ذكر عقد الميثاق وملابسات عقده.. لقد كان عقدًا مع نقباء بني إسرائيل الاثني عشر، الذين يمثلون فروع بيت يعقوب- وهو إسرائيل- وهم ذرية الأسباط- أحفاد يعقوب- وعدتهم اثنا عشر سبطًا.. وكان هذا نصه:
{وقال الله إني معكم. لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار. فمن كفر بعد ذلك منكم. فقد ضل سواء السبيل}.
{إني معكم}.. وهو وعد عظيم. فمن كان الله معه، فلا شيء إذن ضده. ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود- في الحقيقة- له ولا أثر. ومن كان الله معه فلن يضل طريقه، فإن معية الله سبحانه تهديه كما أنها تكفيه. ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى، فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده.. وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن، وقد وصل، وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم.
ولكن الله سبحانه لم يجعل معيته لهم جزافًا ولا محاباة؛ ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده.. إنما هو عقد.. فيه شرط وجزاء.
شرطه: إقامة الصلاة.. لا مجرد أداء الصلاة.. إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب؛ وعنصرًا تهذيبيًا وتربويًا وفق المنهج الرباني القويم؛ وناهيًا عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر!
وإيتاء الزكاة.. اعترافًا بنعمة الله في الرزق؛ وملكيته ابتداء للمال؛ وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه- وهو المالك والناس في المال وكلاء- وتحقيقًا للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن؛ وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سببًا في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته؛ كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب، وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه.
كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة؛ ويحول دونه منهج الله في توزيع المال؛ وفي دورة الاقتصاد..
والإيمان برسل الله.. كلهم دون تفرقة بينهم. فكلهم جاء من عند الله؛ وكلهم جاء بدين الله. وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعًا، وكفر بالله الذي بعث بهم جميعًا..
وليس هو مجرد الإيمان السلبي، إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه.. فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به، وليقيمه في الأرض، وليحققه في حياة الناس. فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي، ولا مجرد شعائر تعبدية. إنما هو منهج واقعي للحياة. ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة. والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة، وتعزير، وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه.. وإلا فما وفى المؤمن بالميثاق.
وبعد الزكاة إنفاق عام.. يقول عنه الله سبحانه إنه قرض لله.. والله هو المالك، وهو الواهب.. ولكنه- فضلًا منه ومنة- يسمي ما ينفقه الموهوب له- متى أنفقه لله- قرضًا لله..
ذلك كان الشرط. فأما الجزاء فكان:
تكفير السيئات.. والإنسان الذي لا يني يخطىء، ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة.. تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة، وتدارك لضعفه وعجزه وتقصيره..
وجنة تجري من تحتها الأنهار.. وهي فضل خالص من الله، لا يبلغه الإنسان بعمله، إنما يبلغه بفضل من الله، حين يبذل الجهد، فيما يملك وفيما يطيق..
وكان هنالك شرط جزائي في الميثاق:
{فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل}.
فلا هدى له بعد ذلك، ولا أوبة له من الضلال. بعد إذ تبين له الهدى، وتحدد معه العقد، ووضح له الطريق، وتأكد له الجزاء..
ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل.. عمن وراءهم. وقد ارتضوه جميعًا؛ فصار ميثاقًا مع كل فرد فيهم، وميثاقًا مع الأمة المؤلفة منهم.. فماذا كان من بني إسرائيل!
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله.. قتلوا أنبياءهم بغير حق، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام- وهو آخر أنبيائهم- وحرفوا كتابهم- التوراة- ونسوا شرائعها فلم ينفذوها، ووقفوا من خاتم الأنبياء- عليه الصلاة والسلام- موقفًا لئيمًا ماكرًا عنيدًا، وخانوه وخانوا مواثيقهم معه. فباءوا بالطرد من هدى الله، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى..
{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما ذكروا به...}.
وصدق الله. فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم.
لعنة تبدو على سيماهم، إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية. وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة، وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية، ومهما حاولوا- مكرًا- إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة، والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة، فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة.. وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه. تحريف كتابهم أولًا عن صورته التي أنزلها الله على موسى عليه السلام إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم.
{ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلًا منهم...}.
وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة. فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة. بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة- ثم في الجزيرة كلها- وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ. على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم، ورفع عنهم الاضطهاد، وعاملهم بالحسنى، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه. ولكنهم كانوا دائمًا- كما كانوا على عهد الرسول- عقارب وحيات وثعالب وذئابًا تضمر المكر والخيانة، ولا تني تمكر وتغدر. إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد، وتآمروا مع كل عدو لهم، حتى تحين الفرصة، فينقضوا عليهم، قساة جفاة لا يرحمونهم، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة. أكثرهم كذلك.. كما وصفهم الله سبحانه في كتابه، وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم.