فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، تعبير طريف:
{ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلًا منهم}.
الفعلة الخائنة، والنية الخائنة، والكلمة الخائنة، والنظرة الخائنة.. يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة.. {خائنة}.. لتبقى الخيانة وحدها مجردة، تملأ الجو، وتلقي ظلالها وحدها على القوم.. فهذا هو جوهر جبلتهم، وهذا هو جوهر موقفهم، مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الجماعة المسلمة..
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق. وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله، ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها؛ وتسمع توجيهاته؛ وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام.
ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها؛ وحين اتخذت القرآن مهجورًا- وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة، وتعاويذ ورقى وأدعية!- أصابها ما أصابها.
ولقد كان الله سبحانه يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه، حين نقضوا ميثاقهم مع الله، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد، ناقض للعقد.. فلما غفلت عن هذا التحذير، وسارت في طريق غير الطريق، نزع الله منها قيادة البشرية؛ وتركها هكذا ذيلًا في القافلة! حتى تثوب إلى ربها؛ وحتى تستمسك بعهدها، وحتى توفي بعقدها. فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس.. وإلا بقيت هكذا ذيلًا للقافلة.. وعد الله لا يخلف الله وعده..
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية:
{فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}.
والعفو عن قبائحهم إحسان، والصفح عن خيانتهم إحسان..
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجليهم عن المدينة. ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها. وقد كان. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}.
وقال فيما بعد: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}.
فى الأولى {عن مواضعه} وفى الثانية {من بعد مواضعه} فيسأل عن موجب ذلك.
والجواب عن ذلك والله أعلم أن الفرق بين الموضعين أن الآية الأولى تضمنت إخبار الله سبحانه لنبيه عليه السلام مرتكب من تقدم من كفار بنى إسرائيل حين أخذ عليهم الميثاق فيما عرفه سبحانه في قوله: {ولقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وأخذنا منهم اثنى عشر نقيبا} الى قوله: {فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} فأخذ عليهم الميثاق وأخبرهم أنه تعالى معهم مواليهم بالتأييد وتكفير السيئات إن هم وفوا بما أخذ عليهم في قوله: {لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلى وعزرتموهم...} الآية فنقضوا العهد وقتلوا الأنبياء وحرفوا كلام الله فجعل الله قلوبهم قاسية ولعنهم على لسان داوود وعيسى بن مريم فهذا كله تعريف بمرتكب سلف المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإخبار بحالهم من تحريفهم وتبديلهم.
وأما الآية الثانية فتعريف له عليه السلام بأحوال معاصريه منهم وكل هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم لئلا يحزنه قولهم ويشق عليه ارتكابهم وليعلم أن ذلك من بعدهم جار على ما قدر عليهم في الأزل قد تبع في ذلك الخلف السلف فقال سبحانه: {يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم وإذا جاؤوكم قالوا آمنا} فلما كان هذا الاخبار بحال خلفهم والأول إخبار بحال سلفهم ناسب حال الأولين ذكر ما تناولوه بأنفسهم وباشروه بالتحريف والتبديل فقيل: {يحرفون الكلم عن مواضعه} فهم المزيون لما خوطبوا به عما أريد به لم يتقدمهم في ذلك غيرهم وأما المعاصرون فقد حرفوا أيضا بعد الاستقرار، ألا ترى إنكارهم صفته عليه السلام بعد مشاهدته ورؤيته وهذا مما اختص به الخلف دون السلف إذ لم يباشر أمره عليه السلام هؤلاء بعد أن كان سلفهم يعترفون بذلك فقد حرف هؤلاء بعد الاعتراف والثبوت زائدا إلى ما ارتكبه سلفهم فالمقلدون لأسلافهم في التحريف والتبديل قائلون بما قالوه فناسب الإخبار عن مرتكبهم ذكر البعدية إذ قد تقدمهم غيرهم لما ذكر فالسلف منهم مبتدع مخترع والخلف محرف أيضا ومقلد متبع فالبعدية لمن بعد والحالية المحكية لمن قبل على ما يناسب والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ}.
جعل جزاءَ العصيان الخذلانَ للزيادة في العصيان.
قوله جلّ ذكره: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}.
وتحريفُهم الكلم عن مواضعه نوعُ عصيان منهم، وإنما حرَّفوا لقساوة قلوبهم. وقسوة القلب عقوبة لهم مِنْ قِبَل الله تعالى على ما نقضوه من العهود، ونقض العهد أعظمُ وِزْرٍ يلم به العبد، والعقوبة عليه أشد عقوبة يُعَاقَبُ بها العبد، وقسوة القلب عدم التوجع مما يُمتَحَنَ به من الصدِّ، وعن قريبٍ يُمتَحَن بمحنة الرد بعد الصدِّ، وذلك غاية الفراق، ونهاية البعد.
ويقال قسوة القلب أولها فَقْدُ الصفوة ثم استيلاء الشهوة ثم جريان الهفوة ثم استحكام القسوة، فإن لم يتفق إقلاع من هذه الجملة فهو تمام الشقوة.
ومن تحريف الكلم- على بيان الإشارة- حَمْلُ الكلم على وجوه من التأويل مما تسوِّل لصاحبِه نَفْسُه، ولا تشهد له دلائلُ العلم ولا أصله.
قوله جلّ ذكره: {وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}.
أوَّلُ آفاتِهِم نسيانُهم، وما عصوا ربهم إلا بعد ما نسوا، فالنسيان أول العصيان، والنسيانُ حاصلٌ من الخذلان.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ}.
الخيانة أمرها شديد وهي من الكبار أبعد، وعليهم أشد وأصعب. ومن تعوَّد اتباع الشهوات، وأُشْرِبَ في قلبه حُبَّ الخيانة فلا يزال يعيش بذلك الخُلُق إلى آخر عمره، اللهم إلا أن يجودَ الحقُّ سبحانه عليه بجميل اللطف.
قوله جلّ ذكره: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}.
قد يكون موجب العفو حقارة قدر المعفو عنه إذ ليس كل أحدٍ أهلًا للعقاب. وللصفح على العفو مزية وهي أن في العفو رفع الجناح، وفي الصفح إخراج ذكر الإثارة من القلب، فمن تجاوز عن الجاني، ولم يلاحظه- بعد التجاوز- بعين الاستحقار والازدراء فهو صاحب الصفح.
والإحسان تعميمٌ- للجمهور- بإسداء الفضل. اهـ.

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {فبما نقضهم} في الكلام محذوف، تقديره: فنقضوا، فبنقضهم لعنّاهم، وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس.
والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن، ومقاتل.
والثالث: الإِبعاد من الرحمة، قاله عطاء، والزجاج.
قوله تعالى: {وجعلنا قلوبهم قاسية} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: {قاسية} بالألف، يقال: قست، فهي قاسية، وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضّل، عن عاصم: {قسيّةً} بغير ألف مع تشديد الياء، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل شاهد وشهيد، وعالم وعليم.
و«القسوة»: خلاف اللّين والرّقة.
وقد ذكرنا هذا في «البقرة».
وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال:
أحدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس.
والثاني: تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل.
والثالث: تفسيره على غير ما أُنزل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {عن مواضعه} مبيّن في سورة «النساء».
قوله تعالى: {ونسوا حظًّا مما ذكّروا به} النسيان هاهنا.
الترك عن عمد.
والحظ: النصيب.
قال مجاهد: نسوا كتاب الله الذي أُنزل عليهم.
وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم.
وفي معنى {ذكّروا به} قولان:
أحدهما: أمروا.
والثاني: أوصوا.
قوله تعالى: {ولا تزال تطلع على خائِنة منهم} وقرأ الأعمش {على خيانة منهم} قال ابن قتيبة: الخائِنة: الخيانة.
ويجوز أن تكون صفة للخائِن، كما يقال: رجلٌ طاغية، وراوية للحديث.
قال ابن عباس: وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخروج كعب بن الأشرف إِلى أهل مكة للتحريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِلا قليلًا منهم} لم ينقضوا العهد، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن.
قوله تعالى: {فاعف عنهم واصفح} واختلفوا في نسخها على قولين.
أحدهما: أنها منسوخة، قاله الجمهور.
واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها آية السّيف.
والثاني قوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله...} [التوبة: 29].
والثالث: قوله: {وإِما تخافنَّ من قوم خيانة} [الأنفال: 58].
والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأظهره الله عليهم، ثم أنزل الله هذه الآية، ولم تنسخ.
قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم في غدرةٍ فعلوها، ما لم ينصبوا حربًا، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإِقرار بالصّغار، فلا يتوجّه النسخ. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} الباء سببية، و«ما» مزيدةٌ لتأكيد الكلام وتمكينِه في النفس، أي بسبب نقضِهم ميثاقَهم المؤكَّدَ لا بشيءٍ آخرَ استقلالًا أو انضمامًا {لعناهم} طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا، أو مسخناهم قِرَدَةً وخنازيرَ، أو أذللناهم بضرب الجزيةِ عليهم. وتخصيصُ البيان بما ذُكر مع أن حقَّه أن يبيَّنَ بعد بيانِ تحققِ نفسِ اللعنِ والنقضِ، بأن يقال مثلًا: فنقَضوا ميثاقَهم فلعنّاهم ضرورةَ تقدّمِ هيئةِ الشيءِ البسيطةِ على هيئتِه المُركّبة للإيذانِ بأن تحققَهما أمرٌ جليٌّ غنيٌّ عن البيان، وإنما المحتاجُ إلى ذلك ما بينهما من السببية والمُسبَّبية {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} بحيث لا تتأثرُ من الآيات والنذُر، وقيل: أملينا لهم ولم نعاجِلْهم بالعقوبة حتى قَسَتْ، أو خذلناهم ومنعناهم الألطافَ حتى صارت كذلك وقرئ {قَسِيّة}، وهي إما مبالغةُ قاسية، وإما بمعنى رديئة، من قولهم: دِرْهمٌ قِسيٌّ، أي رديء، إذا كان مغشوشًا له يَبْسٌ وخشونة، وقرئ بكسر القاف إتباعًا لها بالسين {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} استئنافٌ لبيان مرتبةِ قساوةِ قلوبهم فإنه لا مرتبةَ أعظمُ مما يصحح الاجتراءَ على تغيير كلامِ الله عز وجل والافتراءَ عليه، وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدُّد والاستمرار، وقيل: حالٌ من مفعول لعناهم {وَنَسُواْ حَظَّا} أي تركوا نصيبًا وافرًا {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} من التوراة ومن اتّباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وقيل: حرفوا التوراةَ وزلَّتْ أشياءُ منها عن حفظهم، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: «قد ينسى المرءُ بعضَ العلم بالمعصية» وتلا هذه الآية {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} أي خيانةٍ على أنها مصدرٌ كلاغيةٍ وكاذبةٍ أو فَعْلةٍ خائنة، أي ذاتِ خيانة، أو طائفةٍ خائنة، أو شخصٍ خائنةٍ، على أن التاء للمبالغة، أو نفسٍ خائنةٍ، و{منهم} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لها، خلا أن «مِنْ» على الوجهين الأولين ابتدائيةٌ، أي على خيانةٍ أو على فعلةٍ خائنةٍ كائنةٍ منهم صادرةٍ عنهم، وعلى الوجوه الباقيةِ تبعيضية، والمعنى أن الغدرَ والخيانة عادةٌ مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يترُكونها ويكتُمونها فلا تزال ترى ذلك منهم.
{إِلاَّ قَلِيلًا مّنْهُمُ} استثناء من الضمير المجرور في {منهم} على الوجوه كلِّها، وقيل: مِنْ خائنة على الوجوه الثلاثةِ الأخيرة، والمرادُ بهم الذين آمنوا منهم كعبد اللَّه بنِ سَلام وأضرابِه، وقيل: من خائنة على الوجه الثاني، فالمرادُ بالقليل الفعلُ القليل، ومِنْ ابتدائيةٌ كما مر، أي إلا فعلًا قليلًا كائنًا منهم {فاعف عَنْهُمْ واصفح} أي إن تابوا وآمنوا أو عاهدُوا والتزموا الجزية، وقيل: مطلقٌ نُسخ بآيةِ السيف {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} تعليلٌ للأمر وحثٌّ على الامتثال به، وتنبيهٌ على أن العفوَ على الإطلاقِ من باب الإحسان. اهـ.