فصل: إطلاقات لفظ الألوهية والربوبية في الكتاب المقدس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.إطلاقات لفظ الألوهية والربوبية في الكتاب المقدس:

ثم لو صح الإطلاق والترجمة، فإنه ليس من دلالة لهذه الألفاظ على ألوهية المسيح، فإطلاق كلمة الرب والإله معهود على المخلوقات في الكتاب المقدس.
فمما ورد في كتب أهل الكتاب إطلاق لفظة «الرب» و«الإله» على الملائكة، فقد جاء في سفر القضاة، وهو يحكي عن ظهور ملاك الرب لمنوح وزوجه: «ولم يعد ملاك الرب يتراءى لمنوح وامرأته، حينئذ عرف منوح أنه ملاك الرب، فقال منوح لامرأته: نموت موتًا، لأننا قد رأينا الله» (القضاة 13/ 21-22) ومراده ملاك الله.
وظهر ملاك الله لسارة وبشرها بإسحاق«وقال لها ملاك الرب... فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: أنت إيل رئي». (التكوين 16/ 11-13) فأطلقت على الملاك اسم الرب.
ومثله تسمية الملاك الذي صحب بني إسرائيل في رحلة الخروج بالرب «وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلًا في عمود نار ليضيء لهم... فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم. وانتقل عمود السحاب من أمامهم، ووقف وراءهم» (الخروج 13/ 21- 14/ 19)، فسمي الملاك ربًا.
ومما جاء في التوراة إطلاق هذه الألفاظ على الأنبياء فقد قال الله لموسى عن هارون: «وهو يكون لك فمًا، وأنت تكون له إلهًا» (انظر الخروج 4/ 16).
ومنها قول الله لموسى: «فقال الرب لموسى: انظر. أنا جعلتك إلهًا لفرعون. وهارون أخوك يكون نبيّك» (الخروج 7/ 1) أي: مسلطًا عليه.
وقد عهد تسمية الأنبياء «الله» مجازًا أي رسل الله فقد «كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي. لأن النبي اليوم كان يدعى سابقًا الرائي» (صموئيل(1)9/ 9).
وأطلقت لفظة «الله» وأريد منها القضاة، لأنهم يحكمون بشرع الله، ففي سفر الخروج «إن قال العبد... يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب...» (الخروج20/ 5-6).
وفي السفر الذي يليه فيه «وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم هل لم يمد يده إلى ملك صاحبه... فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه» (الخروج 22/ 8-9).
وفي سفر التثنية «يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة» (التثنية 19/ 17).
ومثله «الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جورًا وترفعون وجوه الأشرار» (المزمور 82/ 1)، ومقصده أشراف بني إسرائيل وقضاتهم.
بل يمتد هذا الإطلاق ليشمل كل بني إسرائيل كما في قول داود في مزاميره: «أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون» (المزمور 82/ 6)، وهذا الذي استشهد به عيسى عندما قال: «أليس مكتوبًا في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدسه الآب، وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله» (يوحنا 10/ 34).
وتستمر الكتب في إطلاق هذه الألفاظ حتى على الشياطين، والآلهة الباطلة للأمم، فقد سمى بولس الشيطان إلهًا، كما سمى البطن إلهًا، وأراد المعنى المجازي فقال عن الشيطان: «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (كورنثوس(2)4/ 5)، وقال عن الذين يتبعون شهواتهم ونزواتهم: «الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم...» (فيلبي 3/ 19) ومثله ما جاء في المزامير «لأني أنا قد عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة.» (المزمور 135/ 5)، وألوهية البطن وسواها ألوهية مجازية غير حقيقية.
وهذه لغة الكتاب المقدس في التعبير، والتي يخطئ من يصر على فهم ألفاظها حرفيًا كما يخطئ أولئك الذين يفرقون بين المتشابهات، وفي كتاب «مرشد الطالبين»: «وأما اصطلاح الكتاب المقدس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة خاصة العهد العتيق... واصطلاح العهد الجديد أيضًا هو استعاري جدًا، وخاصة مسامرات مخلصنا، وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحًا حرفيًا...».
كما أن المسيح وهو يسمع بمثل هذه الاستعارات والآلهة المجازية أوضح بأن هناك إلهًا حقيقيًا واحداَ، هو الله، فقال: «الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يوحنا 17/ 3)، وهي ما تعني بوضوح: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله. وهو ما يعتقده المسلمون فيه عليه الصلاة والسلام.
ومثل تلك الاستعارات ورد في القرآن كما في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن {اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه} (يوسف: 42)، فمقصوده الملك.

.بنوة المسيح لله:

وتتحدث نصوص إنجيلية عن المسيح وتذكر أنه ابن الله، ويراها النصارى أدلة صريحة على ألوهية المسيح، فهل يصح هذا الاستدلال؟

.هل سمى المسيح نفسه ابن الله؟

أول ما يلفت المحققون النظر إليه أنه لم يرد عن المسيح- في الأناجيل- تسميته لنفسه بابن الله سوى مرة واحدة في يوحنا 10/ 37، وفيما سوى ذلك فإن الأناجيل تذكر أن معاصريه وتلاميذه كانوا يقولون بأنه ابن الله.
لكن المحققين يشككون في صدور هذه الكلمات من المسيح أو تلاميذه، يقول سنجر في كتابه «قاموس الإنجيل»: ليس من المتيقن أن عيسى نفسه قد استخدم ذلك التعبير.
ويقول شارل جنيبر: «المسيح لم يدع قط أنه المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه بأنه ابن الله، فهذه لغة استخدموها المسيحيون فيما بعد في التعبير عن عيسى».
قال العالم كولمن بخصوص هذا اللقب: «إن الحواريين الذين تحدث عنهم أعمال الرسل تأسَوا بمعلمهم الذي تحفظ على استخدام هذا اللقب ولم يرغب به فاستنوا بسنته».
ويرى جنيبر أن المفهوم الخاطئ وصل إلى الإنجيل عبر الفهم غير الدقيق من المتنصرين الوثنيين فيقول: «مفهوم «ابن الله» نبع من عالم الفكر اليوناني».
ويرى البعض أن بولس هو أول من استعمل الكلمة، وكانت حسب لغة المسيح «عبد الله» وترجمتها اليونانية servant، فأبدلها بالكلمة اليونانية pais بمعنى طفل أو خادم تقربًا إلى المتنصرين الجدد من الوثنيين.

.المسيح هو أيضًا ابن الإنسان:

ثم هذه النصوص التي تصف المسيح أنه ابن الله معارضة بثلاث وثمانين نصًا من النصوص التي أطلقت على المسيح لقب «ابن الإنسان» فلئن كانت تلك التي أسمته ابن الله دالة على ألوهيته فإن هذه مؤكدة لبشريته، صارفة تلك الأخرى إلى المعنى المجازي.
ومنها قول متى «قال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار.وأما ابن الإنسان فليس له، أين يسند رأسه». (متى 8/ 20)، وأيضًا قوله: «ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه» (مرقس 14/ 21)، وقد جاء في التوراة: «ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم». (العدد 23/ 9) فالمسيح ليس الله.

.أبناء كثر لله، فهل هم آلهة؟

ولفظ البنوة الذي أطلق على المسيح أطلق على كثيرين غيره، ولم يقتضِ ذلك ألوهيتهم.
منهم آدم الذي قيل فيه: «آدم ابن الله» (لوقا 3/ 38).
وسليمان فقد جاء في سفر الأيام «هو يبني لي بيتًا... أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا» (الأيام (1)17/ 12-13).
ومثله قوله لداود «أنت ابني، أنا اليوم ولدتك» (المزمور 2/ 7).
كما سميت الملائكة أبناء الله «مثلَ الملائكةِ وهم أبناء الله» (لوقا 20/ 36).
وسمت النصوص أيضًا آخرين أبناء الله، أو ذكرت أن الله أبوهم، ومع ذلك لا يقول النصارى بألوهيتهم. فالحواريون أبناء الله، كما قال المسيح عنهم: «قولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 20/ 17).
وقال للتلاميذ أيضًا: «فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل» (متى 5/ 48).
وعلمهم المسيح أن يقولوا: «فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك..» (متى 6/ 9)، وقوله: «أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه» (متى 6/ 11)، فكان يوحنا يقول: «انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله.» (يوحنا(1) 3/ 1).
بل واليهود كما في قول المسيح لليهود: «أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله» (يوحنا 8/ 41).
كما يطلق هذا الإطلاق على الشرفاء والأقوياء من غير أن يفهم منه النصارى ولا غيرهم الألوهية الحقيقية «أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا... إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم» (التكوين 6/ 2).
ومن الممكن أن يعم كل شعب إسرائيل يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعدّ ويكون عوضًا عن أن يقال لهم: لستم شعبي، يقال لهم: «أبناء الله الحي» (هوشع 1/ 10).
ونحوه: «لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني» (هوشع 11/ 1).
ومن ذلك أيضًا ما جاء في سفر الخروج عن جميع شعب «فتقول لفرعون هكذا: يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. فقلت لك: أطلق ابني ليعبدني فأبيت» (الخروج 4/ 22) وخاطبهم داود قائلًا: «قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجدًا وعزًّا» (المزمور 29/ 1).
ومثله قوله: «لأنه من في السماء يعادل الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله» (المزمور 89/ 6).
وفي سفر أيوب: «كان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب» (أيوب 1/ 6).
وقال الإنجيل عنهم: «طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون» (متى 5/ 9).
وعليه فلا يمكن النصارى أن يجعلوا من النصوص المختصة بالمسيح أدلة على ألوهيته ثم يمنعوا إطلاق حقيقة اللفظ على آدم وسليمان و... وتخصيصهم المسيح بالمعنى الحقيقي يحتاج إلى مرجح لا يملكونه.

.معنى البنوة الصحيح:

والمعنى المقصود للبنوة في كل ما قيل عن المسيح وغيره إنما هو معنى مجازي بمعنى حبيب الله أو مطيع الله.
لذلك قال مرقس وهو يحكي عبارة قائد المائة الذي شاهد المصلوب وهو يموت فقال: «حقًا كان هذا الإنسان ابن الله» (مرقس 15/ 39).
ولما حكى لوقا القصة نفسها أبدل العبارة بمرادفها فقال: «بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا» (لوقا 23/ 47).
ومثل هذا الاستخدام وقع من يوحنا حين تحدث عن أولاد الله فقال: «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا: أولاد الله. أي المؤمنين باسمه» (يوحنا 1/ 12).
ومثله يقول: «الذي يسمع كلام الله من الله» (يوحنا 8/ 47).
ومثل هذه الإطلاق المجازي للبنوة معهود في الكتب المقدسة التي تحدثت عن أبناء الشيطان، وأبناء الدهر «الدنيا»... (انظر يوحنا 8/ 44، لوقا 16/ 8).
وأما المعنى الحقيقي للبنوة فقد نطقت به الشياطين، فانتهرها المسيح، ففي إنجيل لوقا «كانت شياطين أيضًا تخرج من كثيرين وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح». (لوقا 4/ 41).