فصل: بكورية المسيح بين الأبناء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بكورية المسيح بين الأبناء:

لكن النصارى يرون تميزًا مستحقًا للمسيح في بنوته عن سائر الأبناء، فهم لا ينازعون في صحة الإطلاق المجازي عندما ترد لفظ البنوة بحق سائر المخلوقات.
لكن النزاع إنما يكمن في تلك الأوصاف التي أطلقت على المسيح ويثبتها النصارى على الحقيقة محتجين بأمور، منها: أنه قد جاء وصف المسيح بأنه الابن البكر أو الوحيد لله (انظر عبرانيين1/ 6، يوحنا3/ 18) أو أنه سمي ابن الله العلي (انظر لوقا 1/ 32، 76)، أو أنه ابن ليس مولودًا من هذا العالم كسائر الأبناء، بل هو مولود من السماء، أو من فوق (انظر يوحنا 1/ 18).
ولكن ذلك كله تثبت النصوص أمثاله لأبناء آخرين.
فالبكورية وصف بها إسرائيل: «إسرائيل ابني البكر» (الخروج 4/ 22-23).
وكذا افرايم «لأني صرت لإسرائيل أبًا، وإفرايم هو بكري» (إرميا 21/ 9).
وكذا داود «هو يدعوني: أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أيضًا أجعله بكرًا، فوق ملوك الأرض عليًا». (المزمور 89/ 26-27).
ولئن قيل في المسيح أنه ابن الله العلي، فكذلك سائر بني إسرائيل «و بنو العلي كلكم» (مزمور 82/ 6).
وكذا تلاميذ المسيح فهم أيضًا بنو العلي «أحبوا أعداءكم... فيكون أجركم عظيمًا، وتكونوا بني العلي» (لوقا 6/ 35).

.النزول من السماء:

وتذكر الأناجيل بأن المسيح قد أتى من فوق أو من السماء و«الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع» (يوحنا 3/ 31)، ويرون صورة ألوهيته مشرقة في قوله«أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم» (يوحنا 8/ 23)، فدل ذلك- وفق رأي النصارى- على أنه كائن إلهي فريد.
لكن المقصود من المجيء السماوي هو إتيان المواهب والشريعة، وهو أمر يستوي به مع سائر الأنبياء، ومنهم يوحنا المعمدان فقد سأل المسيح اليهود: «معمودية يوحنا من أين كانت من السماء؟ أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، فيقولوا لنا:فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، نخاف من الشعب...» (متى 21/ 25-26).
وأما النازلون على الحقيقة من السماء فهم كثر، ولا تعتبر النصارى أيا منهم آلهة، منهم الملائكة، «لأن ملاك الرب نزل من السماء» (متى 28/ 2).
وكذا صعد أخنوخ إلى السماء «وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد، لأن الله أخذه» (التكوين 5/ 24)، ومن المعلوم أن «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يوحنا 3/ 13)، فأخنوخ مثله، ولا يقولون بألوهيته.
وكذا إيليا صعد إلى السماء «ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء.» (ملوك (2) 2/ 11).
وتذكر الأناجيل أن التلاميذ، هم أيضًا مولودين من فوق أو من الله، أي مؤمنين به، ففي يوحنا: «و أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه» (يوحنا 1/ 12) فالمقصود بالولاد، الولاد الروحي، بحيث يتغير قلب الإنسان الخاطئ تغيرًا عظيمًا كاملًا مستمرًا، كأنه ولد ثانية، ويحدث ذلك عند توبته وإيمانه.
والمؤمنون بالمسيح مولودون من فوق بما أعطاهم الله من الإيمان، فهم كسائر المؤمنين كما قال المسيح: «الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (يوحنا 3/ 3).
وكذا قال: «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله» (يوحنا (1) 5/ 1).
وقال: «كل من يصنع البر مولود منه» (يوحنا (1)2/ 29).
وقول المسيح: «أما أنا فلست من هذا العالم» ليس دليلًا على الألوهية بحال، فمراده اختلافه عن سائر البشر باستعلائه عن العالم المادي بل هو من فوق ذلك الحطام الذي يلهث وراءه سائر الناس.
وقد قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضًا بعد أن لمس فيهم حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، فقال: «لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، لكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم» (يوحنا 15/ 19).
وفي موضع آخر قال عنهم: «أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم» (17/ 14-15)، فقال في حق تلاميذه ما قاله في حق نفسه من كونهم جميعًا ليسوا من هذا العالم، فلو كان هذا على ظاهره، وكان مستلزمًا الألوهية، للزم أن يكون التلاميذ كلهم آلهة، لكن تعبيره في ذلك كله نوع من المجاز، كما يقال: فلان ليس من هذا العالم، يعني هو لا يعيش للدنيا ولا يهتم بها، بل همُّهُ دومًا رضا الله والدار الآخرة.

.الحلول الإلهي في المسيح:

ويرى النصارى أن بعض النصوص تفيد حلولًا إلهيًا في عيسى، ومنها «لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه» (يوحنا 10/ 38)، وفي موضع آخر «الذي رآني فقد رأى الآب...الآب الحال في» (يوحنا 14/ 9-10)، وقوله: «أنا والآب واحد» (يوحنا 10/ 30).
فهذه النصوص أفادت- حسب قول النصارى- أن المسيح هو الله، أو أن حلولًا إلهيًا حقيقيًا لله فيه.

.حلول الله المجازي على مخلوقاته:

وقد تتبع المحققون هذه النصوص فأبطلوا استدلال النصارى بها، فأما ما جاءت من ألفاظ دلت على أن المسيح قد حل فيه الله- على ما فهمه النصارى- فإن فهمهم لها مغلوط.
ذلك أن المراد بالحلول حلول مجازي كما جاء في حق غيره بلا خلاف، ونقول مثله في مسألة الحلول في المسيح.
وهو ما أشارت إليه نصوص أخرى منها ما جاء في رسالة يوحنا «من اعترف بأن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه، وهو في الله، ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه» (يوحنا(1)4/ 15-16).
ومثله فإن الله يحل مجازًا في كل من يحفظ الوصايا ولا يعني ألوهيتهم، ففي رسالة يوحنا: «ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه، وهو فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا» (يوحنا(1) 3/ 24) فليس المقصود تقمص الذات الإلهية لهؤلاء الصالحين، بل حلول هداية الله وتأييده عليه.
وكذا الذين يحبون بعضهم لله، «إن أحب بعضنا بعضًا فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكملت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه، وهو فينا». (يوحنا (1)4/ 12-13).
وكما في قوله عن التلاميذ: «أنا فيهم، وأنت في» (يوحنا 14/ 19)، ومثله يقول بولس عن المؤمنين: «فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا» (كورنثوس (2) 6/ 16-17) فالحلول في كل ذلك مجازي.
فقد أفادت هذه النصوص حلولًا إلهيًا في كل المؤمنين، وهذا الحلول هو حلول مجازي بلا خلاف، أي حلول هدايته وتوفيقه، ومثله الحلول في المسيح.
كما تذكر التوراة حلول الله- وحاشاه- في بعض مخلوقاته على الحقيقة، ولا تقول النصارى بألوهية هذه الأشياء، ومن ذلك ما جاء في سفر الخروج «المكان الذي صنعته يا رب لسكنك» (الخروج 15/ 17)، فقد حل وسكن في جبل الهيكل، ولا يعبد أحد ذلك الجبل.
وفي المزامير: «لماذا أيتها الجبال المسمنة ترصدون الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد» (المزمور 68/ 16).
أنا والآب واحد:
قول المسيح: «أنا والآب واحد» أهم ما يتعلق فيه أولئك الذين يقولون بألوهية المسيح، وقد فهموا منه وحدة حقيقية جهر بها المسيح أمام اليهود وفهموا منه أنه يعني الألوهية.
ولفهم النص نعود فنقرأ السياق من أوله، فنرى بأن المسيح كان يتمشى في رواق سليمان في عيد التجديد، فأحاط به اليهود وقالوا: «إلى متى تعلق أنفسنا. إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرًا.
أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم: خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي، أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد»
(يوحنا10/ 24-30).
فالنص من أوله يتحدث عن قضية معنوية مجازية، فخراف المسيح أي تلاميذه يتبعونه، فيعطيهم الحياة الأبدية، أي الجنة، ولن يستطيع أحد أن يخطفها منه «أي يبعدها عن طريقه وهدايته» لأنها هبة الله التي أعطاه إياها، ولا يستطيع أحد أن يسلبها من الله الذي هو أعظم من الكل، فالله والمسيح يريدان لها الخير، فالوحدة وحدة الهدف لا الجوهر، وقد نبه المسيح لهذا حين قال بأن إرادة الله أعظم من إرادته.
لكن اليهود في رواق سليمان كان فهمهم لكلام المسيح سقيمًا- أشبه ما يكون بفهم النصارى له-، لذا «تناول اليهود أيضًا حجارة ليرجموه،... لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا».
فعرف المسيح خطأ فهمهم لكلامه، واستغرب منهم كيف فهموا هذا الفهم وهم يهود يعرفون لغة الكتب المقدسة في التعبير المجازي فأجابهم: «أليس مكتوبًا في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة» ومقصده ما جاء في مزامير داود: «أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم» (المزمور82/ 6).
فكيف تستغربون بعد ذلك مثل هذه الاستعارات وهي معهودة في كتابكم الذي جعل بني إسرائيل آلهة بالمعنى المجازي للكلمة؟! فالمسيح أولى بهذه الوحدة من سائر بني إسرائيل«إن قال: آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله.. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله. إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي..» (يوحنا10/ 37)، وهكذا صحح المسيح لليهود ثم للنصارى الفهم السيئ والحرفي لوحدته مع الآب.
وهذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة معهود في النصوص خاصة عند يوحنا، فهو يقول على لسان المسيح: «ليكون الجميع واحدًا كما أنت أيها الآب في، وأنا فيك، ليكونوا «أي التلاميذ» هم أيضًا واحدًا فينا.. ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد... أنا فيهم وأنت في» (يوحنا 17/ 20-23)، فالحلول في المسيح والتلاميذ حلول معنوي فحسب، وإلا لزم تأليه التلاميذ، فكما المسيح والآب واحد، فإن التلاميذ والمسيح والآب أيضًا واحد، أي وحدة الهدف والطريق، لا وحدة الذوات، فإن أحدًا لا يقول باتحاد التلاميذ ببعضهم أو باتحاد المسيح فيهم.
وفي موضع آخر ذكر نفس المعنى فقال عن التلاميذ: «أيها الأب القدوس، احفظهم في اسمك الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن» (يوحنا 17/ 11).
ومثله «تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم في، وأنا فيكم» (يوحنا 14/ 20).
ومثله قوله: «إله وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل، وفي كلكم» (أفسس 4/ 6).
ومثله يقول بولس: «فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا». (كورنثوس (2) 6/ 16-17).
ومثله قول المسيح لتلاميذه: «أنا الكرمة، وأنتم الأغصان، الذي يثبت في، وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير» (يوحنا 15/ 5)، أي: يحبني ويطيعني ويؤمن بي فهذا يأتي بثمر كثير.
والمعنى الصحيح لقوله: «لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه» (يوحنا 10/ 38) أن الله يكون في المسيح أي بمحبته وقداسته وإرشاده وتسديده، لا بذاته المقدسة التي لا تحل في الهياكل «العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي» (أعمال 7/ 48).
وقد تكرر هذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة في نصوص كثيرة منها قول بولس «أنا غرست، وأبلوس سقى،... الغارس والساقي هما واحد، فإننا نحن عاملان مع الله» (كورنثوس(1)3/ 6-9).
ومثله جاء في التوراة في وصف الزوجين «يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا» (التكوين 2/ 24)، وغير ذلك من أمثلة وحدة المشيئة والهدف.