فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

لعل هذه الآية من أحفل الآيات بذكر شئون المعايش التي تنتظم بها أمور العباد، وتضمن لمتبعها حسن المعاد، وقد شدد اللّه سبحانه فيها على حسن المعاملة التي هي جماع أمر الدين وعموده، وبالغ في التوصية بحفظ المال الحلال، وإحاطته بما يصونه من الهلاك، ولذلك اشتملت على ضروب من التوكيدات نوجزها فيما يلي، تاركين للقارئ الرجوع إلى المظان المعروفة.
1- أمر بالكتابة بقوله: {فاكتبوه} حذرا من الاستهداف للخطأ أو النسيان.
2- وذكر {بدين} مع أنه مفهوم من قوله: {تداينتم} للتأكيد وليرجع إليه الضمير بقوله: {فليكتبوه} إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، وفي ذلك إخلال بحسن النظم، وليدلّ على العموم، أي: أيّ دين قليلا كان أم كثيرا.
3- وذكر {إلى أجل مسمى} على سبيل التأكيد، وليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما بالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام.
ولو قال إلى الحصاد مثلا لم يجز لعدم التسمية.
4- وأناط الكتابة بكاتب بالعدل متّسم به.
5- ونهى عن أن يأبى من يطلب إليه الكتابة ما كلّف به.
6- وكرر الأمر بالكتابة بصيغة أخرى تشددا في الكتابة فقال: {فليكتب}.
7- وأمر الذي عليه أن يملي على الكاتب بالعدل، لئلا تبقى له حجة.
8- وتحوّط للأمر بأن أمره باتقاء اللّه بقوله: {وليتق اللّه ربه}.
9- وعقب على الاتقاء بما يحتمه من عدم البخس، واستعمل هذه اللفظة التي هي في الأصل اللغوي للعين العوراء، يقال: بخست عينه، أي عورت. ولا يخفى ما في هذا من التصوير المجسد الحاكي.
10- واحتاط بما قد يطرأ على الأناسيّ من السأم والملالة، وما يترتب عليهما من تفريط، فتعم حينئذ الفوضى، ويطرأ الخلل، لأنهم لم يستوفوا كتابة ما شهدوا عليه، سواء أكان كبيرا أم صغيرا.
11- وبعد أن أوصى بما أوصى، نبّه إلى أن ذلك هو السبيل الأقوم، والطريق الأعدل، صرح باسمه تعالى فقال: {عند اللّه} تبيانا للمصير المعلوم، وتحذيرا من تفريط المفرط وافتئات المفتئت.
12- وختم الآية بذكر اللّه ثلاث مرات متعاقبة، لإدخال الروع في القلوب، وإحداث المهابة في النفوس، وترسيخ الحكم في الأذهان، والإشعار بأنه تعالى مطلع على السرائر، لا تغرب عنه همسات القلوب، وخلجات الضمائر.

.الفوائد:

مثّل الزمخشري لقوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} بقولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه. فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى. وتساءل التفتازاني في حواشيه على الكشاف فقال: ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرّر إحداهما: ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر، إذ ليست المذكورة هي المناسبة إلا أن يجعل إحداهما: الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز تقدم المفعول على الفاعل في موضع الإلباس. نعم يصح أن يقول: {فتذكر الأخرى} فلابد للعدول من نكتة. ولم يتعرض التفتازاني للنكتة، وترك قارئه في حيرة من أمره. على أن الدماميني ذكر في شرح المغني أن المقصود هو كون التذكير من إحداهما للأخرى كيفما قدّر لا يستقيم إلا كذلك، ألا ترى أنه لو قيل: أن تضلّ إحداهما فتذكرها الأخرى، وجب أن يكون ضمير المفعول عائدا على الضالة، فيتعيّن لها، وذلك مخل بالمعنى المقصود، لأن الضالة الآن في الشهادة قد تكون هي الذاكرة لها في زمان آخر، فالمذكرة حينئذ هي الضالة، فإذا قيل: فتذكرها الأخرى لم يفد ذلك لتعيّن عود الضمير إلى الضالة. وإذا قيل: فتذكر إحداهما الأخرى، كان مبهما في واحدة منهما. فلو ضلت إحداهما فذكّرتها الأخرى فذكرت كان داخلا، ثم لو انعكس الأمر والشهادة بعينها في وقت آخر اندرج أيضا تحته لوقوع قوله: {فتذكر إحداهما الأخرى} غير معيّن، فظهر الوجه الذي لأجله عدل عن فتذكرها إلى {فتذكر إحداهما الأخرى}. وفي النفس من هذا التقرير ما لا يحتمله هذا الكتاب.

.[سورة البقرة: آية 283]:

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}.

.الإعراب:

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ} الواو استئنافية وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وعلى سفر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم {وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا} الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وكاتبا مفعول به والجملة حالية ويجوز لك أن تجعل الواو عاطفة فتكون الجملة معطوفة على فعل الشرط فهي في محل جزم {فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} الفاء رابطة لجواب الشرط ورهان مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت، ومقبوضة صفة والخبر محذوف تقديره تستوثقون بها، ولك أن تعربها خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: فالمعتمد عليه رهان، لأن السفر مظنة لإعواز الكتب.
وتفاصيل المسألة مبسوطة في كتب الفقه والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الفاء عاطفة وإن شرطية وأمن فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعضكم فاعل وبعضا مفعول به {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ} الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويؤد فعل مضارع مجزوم باللام وعلامة جزمه حذف حرف العلة والجملة في محل جزم فعل الشرط والذي اسم موصول فاعل واؤتمن فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والجملة صلة وأمانته مفعول به ليؤد {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} تقدم إعرابه بحروفه {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ} الواو عاطفة ولا ناهية وتكتموا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والشهادة مفعول به {وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكتمها فعل الشرط والهاء مفعوله والفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها، وآثم خبرها وقلبه فاعل آثم لأنه اسم فاعل. ويصح في مثل هذا التركيب أن يكون الضمير في فإنه للشأن وآثم خبر مقدم وقلبه.

.البلاغة:

1- الاستعارة التصريحية التبعية في قوله تعالى: {على سفر} فقد شبه تمكنهم من السفرديع:
ولقد وقفت على ديارهم ** وطلولها بيد البلى نهب

وبكيت حتى ضجّ من لغب ** نضوي ولج بعذلي الركب

وتلفتت عيني فمذ خفيت ** عني الطلول تلفت القلب

وصرح دعبل الخزاعي بجناية القلب والطرف بقوله:
أين الشباب وأية سلكا ** لا أين يطلب ضلّ بل هلكا

لا تأخذا بظلامتي أحدا ** قلبي وطرفي في دمي اشتركا

لا تعجبي يا سلم من رجل ** ضحك المشيب برأسه فبكى

.[سورة البقرة: الآيات 284- 286]:

{لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)}.

.اللغة:

الوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه.
الطاقة: المجهود والقدرة. وهي مصدر جاء على حذف الزوائد، والأصل الإطاقة.
الإصر: العب، وأصره حبسه، وبابه ضرب. والمراد به التكاليف الشاقة التي ينوء بها الجسم، وتعيا عنها النفس.

.الإعراب:

{لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} كلام مستأنف لا محل له من الإعراب مسوق للاستدلال على قوله: {واللّه بما تعلمون عليم} وغلب غير العقلاء على غيرهم من العقلاء باستعمال ما لأنهم أكثر.
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول، وما في الأرض عطف على {ما في السموات} {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ} الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان التكليف. والمؤاخذة تكون بالخواطر التي لا ندحة للمرء عنها. وقد نظم بعضهم مراتب القصد بقوله:
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ** وخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه همّ فعزم كلها رفعت ** سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

وتفصيل ذلك مبسوط في المطوّلات فليرجع إليها من يشاء.
وإن شرطية وتبدوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والجملة لا محل لها وما اسم موصول مفعول به وفي أنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول {أَوْ تُخْفُوهُ} عطف على تبدوا والهاء مفعول به {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} جواب الشرط مجزوم والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجار والمجرور متعلقان بيحاسبكم، واللّه فاعل والجملة لا محل لها {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ} الفاء استئنافية ويغفر فعل مضارع مرفوع، أي فهو يغفر، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة ويغفر فعل مضارع مجزوم بالعطف على يغفر، وكلتا القراءتين من السبع، وقرئ أيضا بالنصب على إضمار أن فينسبك من ذلك مصدر مرفوع معطوف على متوهم، أي تكن محاسبة فغفران. ويتخرّج على ذلك بيت النابغة الذبيانيّ:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش ** أجب الظهر ليس له سنام

يروى بجزم نأخذ ورفعه ونصبه، على أن سيبويه استضعف النصب لأن القارئ الزعفراني ليس من السبعة، ولأنه موجب. ونص عبارة سيبويه وقد يجوز النصب في الواجب في ضرورة الشعر وهو ضعيف في الكلام. ولمن جار ومجرور متعلقان بيغفر وجملة يشاء صلة {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} عطف على ما تقدم {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ} الواو استئنافية واللّه مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير، وقدير خبر اللّه {آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} جملة مستأنفة مسوقة للإخبار بأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم آمن بكل ما فرض اللّه على العباد، من الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد، وما ورد ذكره في السورة من قصص الأنبياء. وآمن الرسول فعل وفاعل وبما جار ومجرور متعلقان بآمن وجملة أنزل لا محل لها لأنها صلة الموصول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإليه جار ومجرور متعلقان بأنزل ومن ربه جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا، ولك أن تعلقهما بمحذوف حال أي حالة كونه نازلا من ربه لأنه يضمن السعادة للمجتمع البشري {وَالْمُؤْمِنُونَ} يجوز أن تكون الواو عاطفة والمؤمنون عطف على الرسول، فيكون الوقف هنا. ويشهد لهذا الإعراب ما قرأه علي بن أبي طالب: {وآمن المؤمنون} فأظهر الفعل، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والمؤمنون مبتدأ أول {كُلٌّ آمَنَ} كل مبتدأ ثان وجملة آمن خبره والجملة الاسمية خبر المبتدأ الأول وهو المؤمنون والرابط محذوف على الوجه الثاني. وعلى الوجه الأول تكون جملة: {كل آمن} مستأنفة.
وساغ الابتداء بكل وهو نكرة لأنه بنية الإضافة أي كل واحد منهم والتنوين عوض عن الكلمة المحذوفة {بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} الجار والمجرور متعلقان بآمن وما بعده عطف عليه {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} هذه الجملة مقول قول محذوف وجملة القول في محل نصب على الحال أي قائلين لا نفرق، ولا نافية ونفرق فعل مضارع مرفوع وبين ظرف مكان متعلق بنفرق وأحد مضاف إليه ومن رسله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد، ولم يقل: بين آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجمع كما في قوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} فوصفه بالجمع لكونه في معناه ولذلك دخل عليه بين وسيرد في هذا الكتاب تفصيل ممتع عن أحد {وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا} الواو استئنافية وقالوا فعل ماض والواو فاعل وجملتا سمعنا وأطعنا مقول القول: {غُفْرانَكَ رَبَّنا} مفعول مطلق بإضمار عامله، ومنه قولهم: غفرانك لا كفرانك، أي نستغفرك ولا نكفرك. وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} الواو عاطفة والمعطوف عليه محذوف داخل في حيز القول أي: قائلين منك المبدأ وإليك المصير. وإليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} جملة مستأنفة مسوقة لإزالة الحرج عن النفوس ولبيان أن المؤاخذة قاصرة على ما في الوسع والطاقة فما عداه من خواطر النفس وهواجسها لا محاسبة عليه وبذلك يزول الإشكال الذي ساور بعض المفسرين فقد قالوا: إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما، فما معنى الدعاء بذلك وهو يكاد يكون من تحصيل الحاصل؟ ولا نافية ويكلف فعل مضارع مرفوع واللّه فاعله ونفسا مفعول به أول وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} الجملة مفسرة لما أجمله في قوله: {وسعها} وسيأتي بيان ذلك في باب البلاغة.
ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعليها ما اكتسبت: عطف على ما تقدم وقد ذكر إعرابه {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا} ربنا منادى مضاف ولا ناهية معناها هنا الدعاء وتؤاخذنا فعل مضارع مجزوم بلا ونا مفعول به والفاعل أنت والجملة داخلة في حيز القول المتقدم وجملة النداء استئنافية {إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا} إن شرطية ونسينا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ونا فاعل أو أخطأنا عطف عليه والجواب محذوف أي فلا تؤاخذنا وجملة الشرط وجوابه في محل نصب على الحال {رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا} تقدم إعرابه وتوسيط النداء بين المتعاطفين لإظهار مدى الضراعة والاسترحام والمبالغة في التذلل والاعتراف للّه سبحانه بربوبيته {كَما حَمَلْتَهُ} تقدم في مثل هذا التركيب أنه مفعول مطلق أو حال وما مصدرية على كل حال {عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} على الذين متعلقان بجملة ومن قبلنا متعلقان بمحذوف صلة الذين أي كانوا من الأمم السالفة {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} عطف على ما تقدم وما مفعول به ثان لتحملنا ولا نافية للجنس وطاقة اسمها المبني على الفتح في محل نصب ولنا جار ومجرور متعلقان بطاقة وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا {وَاعْفُ عَنَّا} دعاء معطوف على ما تقدم وعنا متعلقان بأعف {وَاغْفِرْ لَنا} عطف آخر {وَارْحَمْنا} عطف آخر {أَنْتَ مَوْلانا} أنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ومولانا خبر والجملة مستأنفة بمثابة الاعتراف للّه تعالى بأنه المولى، لأن المولى مصدر ميمي من ولي يلي، والمعنى أنت مولانا بك نلوذ، وإليك نلتجىء، وعليك نتكل، ومن حق المولى أن ينصر من يليه ويجيره إذا خاف ويحوطه بعنايته ويكلأه برعايته. {فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} الفاء للتعليل والجملة مسوقة لتعليل ما تقدم، فإن كونه مولانا سبب سبب لطلب النصرة منه، وعلى القوم متعلقان بانصرنا وذكر لفظ القوم للتعميم لأن النصر على الأفراد لا يستلزم النصر على المجموع فدفع ذلك الإيهام بذكر لفظ القوم والكافرين صفة.

.البلاغة:

في هذه الأبيات طائفة من فنون البلاغة نجملها بما يلي:
1- حسن الختام: وقد تقدّم بحثه، ومن حق سورة البقرة وقد اشتملت على العديد من الأحكام، وانطوت على التشريع البيان- أن يتناول ختامها شكر المنعم الذي منّ على الإنسان بالعقل ليفكّر، ومن حق المنعم عليه أن يعترف لمن أسدى إليه الآلاء أن يشكرها ولمن نصب أمامه محاريب الفكر ومجالي الإبداع أن يفكر فيها ويتدبرها، ويشهد لمن أبدعها بالحول والطّول والانفراد بالوحدانية المتجلية على قلوب المؤمنين. فبالفكر وحده يحيا الإنسان وبالفكر استدل على وجوده وما أجمل قوله صلى اللّه عليه وسلم: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها، فإن تعلمها بركة، وتركها حسرة، ولن تستطيعها البطلة» قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة. ومعنى كونها فسطاط القرآن أنها اشتملت على معظم أمور الدين أصولا وفروعا، والإرشاد إلى ما فيه حسن المعايش في الدنيا والفوز في الآخرة.
2- المقابلة: في قوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فقد طابق بين لها وعليها، وبين كسبت واكتسبت. فالفعل الأول يختص بالخير، والفعل الثاني يختص بالشر فإن في الاكتساب اعتمالا، والشر تتشهّاه النفس وتجنح إليه بالطبع بخلاف الخير فإنه يهبط على النفس كما يهبط الفيض من آلاء اللّه، وكما يشرق اليقين في النفس إشراقا جعل من فلاسفة الإشراق مؤمنين، ومن الغزالي وديكارت أوّابين متبتّلين.

.الفوائد:

1- {بَيْنَ} ظرف للمكان أو الزمان لا يضاف إلا لمتعدّد، وقد أضيف في الآية إلى أحد لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والاثنين والجمع كما يستوي فيه المذكر والمؤنث. فمعنى لا نفرّق بين أحد من الرسل: لا نفرق بين جمع من الرسل. وقد اختلف علماء اللغة: هل تعاد بين بعد ورودها بين المتعاطفين أم لا؟
نحو: جلست بين زيد وعمرو. هل يقال: جلست بين زيد وبين عمرو؟
أجاز ذلك قوم على أن تكون بين للتأكيد.
ومن روائع النكت أنه لا يعطف بعدها إلا بالواو فلا يقال: جلست بين زيد فعمرو. وقد اعترض على ذلك بقول امرئ القيس في مطلع معلقته:
فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ** بسقط اللوى بين الدّخول فحومل

قال الأصمعي: الصواب أن يقال: بين الدخول وحومل، لأن البينية لا يعطف عليها بالفاء لأنها تدل على الترتيب، وقال يعقوب بن السكيت في الدفاع عن امرئ القيس: إنه على حذف مضاف وأن التقدير: بين أهل الدخول فحومل. وقال المرادي: إنه على اعتبار المتعدّد حكما لأن الدخول مكان لا يجوز أن يشتمل على أمكنة متعددة، كما تقول قعدت بين الكوفة، تريد بين دورها وأماكنها.
هذا وتشبع حركة النون فتصير بينا وبينما. وتضاف عندئذ إلى الجمل، قال أبو ذؤيب:
بينا تعنقه الكماة وروغه ** يوما أتيح له جريء سلفع

. اهـ.