فصل: غفران المسيح الذنوب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.غفران المسيح الذنوب:

ومما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح ما نقلته الأناجيل من غفران ذنب المفلوج والخاطئة على يديه، والمغفرة من خصائص الألوهية، وعليه فالمسيح إله يغفر الذنوب، فقد قال للخاطئة مريم المجدلية: «مغفورة لك خطاياك» (لوقا 7/ 48)، كما قال للمفلوج: «ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك» وقد اتهمه اليهود بالتجديف فقالوا: «قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف» (متى 9/ 3).
لكنا إذا رجعنا إلى قصتي الخاطئة والمفلوج فإنا سنرى وبوضوح أن المسيح ليس هو الذي غفر ذنبيهما، ففي قصة المرأة لما شكّ الناس بالمسيح وكيف قال لها: «مغفورة خطاياك»، وهو مجرد بشر، أزال المسيح اللبس، وأخبر المرأة أن إيمانها هو الذي خلصها، ويجدر أن ننبه إلى أن المسيح لم يدع أنه هو الذي غفر ذنبها، بل أخبر أن ذنبها قد غُفر، والذي غفره بالطبع هو الله تعالى.
والقصة بتمامها كما أوردها لوقا: «وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليّ، من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيرًا، والذي يغفر له قليل يحب قليلًا، ثم قال لها: مغفورة لك خطاياك، فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: من هذا الذي يغفر خطايا أيضًا؟! فقال للمرأة: إيمانك قد خلّصك، اذهبي بسلام» (لوقا 7/ 46-50).
وكذا في قصة المفلوج لم يدع المسيح أنه الذي يغفر الذنوب، فقد قال للمفلوج: «ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك» فأخبر بتحقق الغفران، ولم يقل: إنه هو الغافر لها، ولما أخطأ اليهود، ودار في خلدهم أنه يجدف، وبخهم المسيح على الشر الذي في أفكارهم، وصحح لهم الأمر، وشرح لهم أن هذا الغفران ليس من فعل نفسه، بل هو من سلطان الله، لكن الله أذن له بذلك، كما سائر المعجزات والعجائب التي كان يصنعها، وقد فهموا منه المراد وزال اللبس من صدورهم، «فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا».
والقصة بتمامها كما أوردها متى كالتالي: «قال للمفلوج: ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك، وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف، فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم؟ أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك، فقام ومضى إلى بيته، فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا» (متى 9/ 3-8).
وهذا السلطان دفع إليه كما دفع كثير غيره من الله تبارك وتعالى: «التفت إلى تلاميذه وقال: كل شيء قد دفع إليّ من أبي» (لوقا 10/ 22)، وإلا فهو لا حول له ولا قوة، قد قال في موضع آخر: «دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (متى 28/ 18)، لكنه ليس سلطانه الشخصي، بل هو قد دفع إليه من الله.
وسلطان غفران الخطايا دفع أيضًا إلى غير المسيح، فقد دفع إلى التلاميذ، وأصبح بإمكانهم غفران الذنوب التي تتعلق بحقوقهم الشخصية بل وكل الذنوب والخطايا، ومغفرتهم للذنوب الشخصية يقول عنه: «إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاتكم» (متى 6/ 14-15)، فيما يعطيهم يوحنا صكًا مفتوحًا في غفران أي ذنب وخطيئة، فيقول: «من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت»(يوحنا 20/ 28)، فهم كالمسيح عليه السلام.
وقد ورثت الكنيسة عن بطرس والتلاميذ هذا المجد وهذا السلطان، فأصبح القسس يغفرون للخاطئين عن طريق الاعتراف أو صكوك الغفران، واعتمدوا في إقرار ذلك على وراثتهم للسلطان الذي دفع لبطرس «أنت بطرس... وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماوات..» (متى 16/ 19)، فلو غفر بطرس أو البابا وارثه لإنسان غفرت خطيئته من غير أن يقتضي ذلك ألوهيته.
وهذا السلطان دفع لكل التلاميذ «الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولًا في السماء، وأقول لكم أيضًا: إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السموات» (متى 18/ 18-20)، لكنه كما لا يخفى لا يعني ألوهيتهم لأنه ليس حقًا شخصيًا لهم، بل هبة إلهية وهبت لهم ولمعلمهم المسيح. هذا ما يذكره الكتاب المقدس.
ولما كان المسيح لا يملكه من تلقاء نفسه فقد طلب من الله أن يغفر لليهود، ولو كان يملكه لغفر لهم ولم يطلبه من الله كما في لوقا «فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لوقا 23/ 34).

.السجود للمسيح:

وتتحدث الأناجيل عن سجود بعض معاصري المسيح له، ويرون في سجودهم له دليل ألوهيته واستحقاقه للعبادة، فقد سجد له أب الفتاة النازفة «فيما هو يكلمهم بهذا إذا رئيس قد جاء، فسجد له» (متى 9/ 18)، كما سجد له الأبرص «إذا أبرص قد جاء وسجد له» (متى 8/ 2)، وسجد له المجوس في طفولته «فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم» (متى 2/ 11).
فيما رفض بطرس سجود كرنيليوس له، وقال له: «قم أنا أيضًا إنسان» (أعمال 10/ 25)، فقد اعتبر السجود نوعًا من العبادة لا ينبغي إلا لله، وعليه يرى النصارى في رضا المسيح بالسجود له دليلًا على أنه كان إلهًا.
ولا ريب أن السجود مظهر من مظاهر العبادة، لكنه لا يعني بالضرورة أن كل سجود عبادة، فمن السجود ما هو للتبجيل والتعظيم فحسب، فقد سجد يعقوب وأزواجه وبنيه لعيسو بن إسحاق حين لقاءه «وأما هو فاجتاز قدامهم، وسجد إلى الأرض سبع مرات، حتى اقترب إلى أخيه.. فاقتربت الجاريتان هما وأولادهما وسجدتا، ثم اقتربت ليئة أيضًا وأولادها وسجدوا. وبعد ذلك اقترب يوسف وراحيل، وسجدا» (التكوين 33/ 3-7).
كما سجد موسى عليه السلام لحماه حين جاء من مديان لزيارته «فخرج موسى لاستقبال حميه، وسجد، وقبّله» (خروج 18/ 7)، وسجد إخوة يوسف تبجيلًا لا عبادة لأخيهم يوسف «أتى إخوة يوسف، وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض» (التكوين 42/ 6)، واستمرت هذه العادة عند بني إسرائيل «وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا، وسجدوا للملك» (الأيام (2) 24/ 7).
وكل هذه الصور وغيرها لا تفيد أكثر من الاحترام، وعليه يحمل سجود من سجد للمسيح، فيما كان رفض بولس وبطرس لسجود الوثنيين لهما بسبب أن مثل هؤلاء قد يكون سجودهم من باب العبادة، لا التعظيم، خاصة أنهم يرون معجزات التلاميذ، فقد يظنونهم آلهة لما يرونه من أعاجيبهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا}.
وفى سورة الفتح: {قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا}، للسائل أن يسأل عن زيداة {لكم} في سورة الفتح وحذف ذلك في سورة المائدة؟
والجواب عن ذلك: أن في آية المائدة عموم يستدعى الإطلاق وعدم التقييد بالمخاطبين وفى سورة الفتح خصوص يستدعى التخصيص بآية الخطاب للمواجهين به وذلك أن الاخبار في سورة المائدة إنما هو النصارى قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} وهذا حكاية قولهم ثم أعلم تعالى بقدرته وقهره للكل فقال: قل يا محمد من يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا أى من يدافع مراده في خلقه إن أراد هلاكهم ثم ذكر سبحانه خلقه المقهورين من سكان الأرض فبدأ بالمسيح وأمه عليهما السلام ثم قال: {ومن في الأرض جميعا} فعم الكل فلم يكن ليناسب هذا العموم أداة خطاب تخص.
أما آية الفتح فقبلها إخباره سبحانه عن المتخلفين عن غزوة الحديبية قال تعالى: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفرلنا} ثم أعلم تعالى نبيه عليه السلام والمؤمنين أن قول المخلفين قول بألسنتهم غير مطابق لما في قلوبهم فقال تعالى: قل يا محمد من يملك لكم معشر المخلفين من الله شيئا أى من يدفع عنكم الضر إن أراده بكم أو يوصل إليكم النفع إن منعه عنكم فالإخبار إنما هو عنهم وتقدير النفع والضر مرفوعا أو لاحقا خاص بهم لم يرد بذلك غيرهم فورد بخطاب المواجهة فقال: {لكم} ولم يكن بد من ذلك ليعلم أن الإخبار عنهم والخطاب بما بعد لهم فجاء كل على ما يناسب ويجب ولا يتصور فيه العكس والله أعلم. اهـ.
ثم قال ابن الزبير الغرناطى- رحمه الله ما نصه:
الآية التاسعة وهى من تمام هذه التي فرغنا منها وهى قوله تعالى إثر قوله: {ومن في الأرض جميعا} فقال: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} وقال تعالى فيما بعد: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير} للسائل أن يسأل عن تعقيب الأولى بقوله: {يخلق ما والله على كل شيء قدير} وتعقيب الثانية بقوله: {وإليه المصير}.
والجواب عن ذلك: أنه سبحانه لما ذكر في الأولى قدرته وعظيم سلطانه في قوله: {قل من يملك لكم من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} وعرف سبحانه أنه لا معاند له ولا مانع لما يريده أشار بقوله: {يخلق ما يشاء} إلى ما أفصح به قوله: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين} وقوله: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} فصارت الآية بهذا في قوة أن لو قيل: قل من يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك من ذكر ويأت بآخرين سواهم فأعقب هذا بقوله: {والله على كل شيء قدير} وهذا واضح.
ولما قال في الآية الأخرى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} ثم ذكر تعذيبهم بذنوبهم بأنه سبحانه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء أعقب هذا بما يشير إلى وقت التعذيب وظهرو المغفرة والمجازاة فقال: {وإليه المصير} وهذا واضح أيضا فلما اختلف مقصود الآيتين أعقبت كل واحدة منهما بما يناسب مقصودها بالقهر في الأولى والاختراع يناسب وصفه عز وجل بالقدرة كما أن التعذيب والغفران في الثانية يناسبها ذكر المآل فجاء على ما يناسب. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}.
مَنْ اشتملت عليه أرحامُ الطوامثُ متى يفارقه نَقْصُ الخِلْقة؟
ومَنْ لاحت عليه شواهدُ التغيُّر أَنَّى يليق به نعت الربوبية؟
ولو قَطَعَ البقاءَ عن جميع ما أوجد فأي نقصٍ يعود إلى الصمد؟. اهـ.