فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد وقع في التّوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله؛ ففي سفر التثنية أوّل الفصل الرابع عشر قول موسى «أنتُم أولاد للربّ أبيكم».
وأمّا الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح، وبأبي المؤمنين به، وتسمية المؤمنين أبناءَ الله في متّى في الإصحاح الثّالث «وصوت من السماء قائلًا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» وفي الإصْحاح الخامس «طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناءَ الله يُدعون».
وفي الإصحاح السادس «وأبوكم السماوي يقُوتها».
وفي الإصحاح العاشر «لأِنْ لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الّذي يتكلّم فيكم».
وكلّها جائية على ضرب من التشبيه فتوهّمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها.
وعطف {وأحبّاؤه} على {أبناءُ الله} أنّهم قصدوا أنّهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوبًا عليه.
وقد علَّم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقْضَيْن: أولهما من الشريعة، وهو قوله: {قل فلِمَ يعذّبكم بذنوبكم} يعنِي أنّهم قائلون بأنّ نصيبًا من العذاب ينالهم بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله وأحبّاءه لما عذّبهم بذنوبهم، وشأن المحبُّ أن لا يعذّب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذّب أبناءه.
رُوي أنّ الشِّبْلي سأل أبا بكر بن مجاهد: أين تَجد في القرآن أنّ المُحبّ لا يعذِّب حبيبَه فلم يهتد ابن مجاهد، فقال له الشبلي في قوله: {قل فلِم يعذّبكم بذنوبكم}.
وليس المقصود من هذا أنّ يَردّ عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر، مِن تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم، لأنّ ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للردّ به، إذ يصير الردّ مُصَادَرَة، بل المقصود الردّ عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدّنيا.
فأمّا اليهود فكُتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: {وقالوا لَنْ تمسّنا النّار إلاّ أيّامًا معدودة} [البقرة: 80].
وأمّا النّصارى فلم أر في الأناجيل ذكرًا لِعذاب الآخرة إلاّ أنّهم قائلون في عقائدهم بأنّ بني آدم كلّهم استحقّوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم، فجاء عيسى ابن مريم مخلّصًا وشافعًا وعرّض نفسه للصلب ليكفّر عن البشر خطيئتهم الموروثة، وهذا يُلزمهم الاعترافَ بأنّ العذاب كان مكتوبًا على الجميع لولا كفّارة عيسى فحصل الرّدّ عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا.
ثم أُخذت النتيجةُ من البرهان بقوله: {بل أنتم بشر ممّن خلق} أي يَنالكم ما ينال سائر البشر.
وفي هذا تعريض أيضًا بأنّ المسيح بَشَر، لأنّه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف، وزعموا أنّه ناله الصلب والقتل.
وجملة قوله: {يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} كالاحتراس، لأنّه لمّا رتّب على نوال العذاب إيّاهم أنهم بشر دفع توهّم النصارى أنّ البشريّة مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تَبِعة خطيئة آدم فقال: {يغفر لمن يشاء}، أي من البشر {ويعذّب من يشاء}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا} هذا ردّ عليهم.
والفاء في: فمن للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم التقدير: قل كذبوا، وقل ليس كما قالوا فمن يملك، والمعنى: فمن يمنع من قدرة الله وإرادته شيئًا؟ أي: لا أحد يمنع مما أراد الله شيئًا إن أراد أن يهلك من ادعوه إلهًا من المسيح وأمه.
وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما، بل تنفذ فيهما إرادة الله تعالى، ومن تنفذ فيه لا يكون إلهًا، وعطف عليهما: ومن في الأرض جميعًا، عطف العام على الخاص ليكونا قد ذكرا مرّتين: مرّة بالنص عليهما، ومرة بالاندراج في العام، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإرادة فيهما.
وليعلم، أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادث بهما، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحلّ به الحوادث، وأن يكون محلًا لها.
وفي هذا رد على الكرامية.
{ولله ملك السموات والأرض وما بينهما} والمسيح وأمه من جملة ما في الأرض، فهما مقهوران لله تعالى، مملوكان له، وهذه الجملة مؤكدة لقوله: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه، ودلالة على أنه إذا أراد فعل، لأنّ من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء.
{يخلق ما يشاء} أي أنّ خلقه ليس مقصورًا على نوع واحد، بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أو جده واخترعه، فقد يوجد شيئًا لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام، وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض.
وقد يخلق من ذكر وأنثى، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها كالمسيح.
ففي قوله: يخلق ما يشاء، إشارة إلى أنّ المسيح وأمه مخلوقان.
وقيل: معنى يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة، وكإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، فيجب أن تنسب إليه ولا تنسب إلى البشر المجرى على يده.
وتضمن الرد عليهم أن من كان مخلوقًا مقهورًا بالملك عاجزًا عن دفع ما يريد الله به لا يكون إلهًا. اهـ.

.قال في الميزان:

قوله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}.
لا ريب أنهم لم يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح عليه السلام فلا اليهود كانت تدعى ذلك حقيقة ولا النصارى، وإنما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من التجوز، وقد ورد في كتبهم المقدسة هذا الإطلاق كثيرا كما في حق آدم ويعقوب وداود واقرام وعيسى وأطلق أيضا على صلحاء المؤمنين.
وكيف كان فإنما اريد بالابناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الابناء من الاب، فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن إجراء القوانين والأحكام المجراة بين الناس لأن تعلقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازى به غيرهم ولا إيقافهم موقفا توقف فيه سائر الرعية، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة النسب من علقة الحب والكرامة.
فالمراد بهذه النبوة الاختصاص والتقرب، ويكون عطف قوله: {وأحباؤه} على قوله: {أبناء الله} كعطف التفسير وليس به حقيقة، وغرضهم من دعوى هذا الاختصاص والمحبوبية إثبات لازمه وهو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم وعقوبتهم فلن يصيروا إلا إلى النعمة والكرامة لأن تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به من المزية، وحباهم به من الكرامة.
والدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}، إذ لو لا أنهم كانوا يريدون بقولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} أنه لا سبيل إلى عذابهم وإن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة: {يغفر}، ردا عليهم ولا لقوله: {بل أنتم بشر ممن خلق} موقع حسن مناسب فمعنى قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} أنا خاصة الله ومحبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا وإن فعلنا ما فعلنا، وتركنا ما تركنا لأن انتفاء السبيل ووقوع الامن التام من كل مكروه ومحذور هو لازم معنى الاختصاص والحب.
قوله تعالى: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} أمر نبيه بالاحتجاج عليهم ورد دعواهم بالحجة، وتلك حجتان: إحداهما: النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم، وثانيتهما: معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم.
ومحصل الحجة الأولى التي يشتمل عليها قوله: {فلم يعذبكم بذنوبكم} أنه لو صحت دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه مأمونون من التعذيب الإلهى لا سبيل إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب أخروى أو دنيوى فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم والصالحين من شعبهم وتفجر بنقض المواثيق الإلهية المأخوذة منهم، وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان آيات الله والكفر بها وكل طغيان واعتداء، وتذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم وضرب الذلة والمسكنة على آخرين، وتسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم ويهتكون أعراضهم ويخربون بلادهم، وما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذي لا هو حى فيرجى ولا ميت فينسى.
وأما النصارى فلإفساد المعاصي والذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود ولا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة وفي زمانها وبعدها حتى اليوم، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، والقرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف وغيرها.
وليس لهؤلاء أن يقولوا: إن هذه المصائب والبلايا والفتن النازلة بنا إنما هي من قبيل «البلاء للولاء» ولا دليل على كونها عن سخط إلهى يسحب نكالا ووبالا، وقد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الأنبياء والرسل كابراهيم وإسماعيل ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وغيرهم ونزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة أحد وموته وغيرهما، فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبه إلهية وإذا حلت بكم عادت نعما وكرامات.
وذلك أنه لا ريب لأحد أن هذه المكاره الجسمانية والمصائب والبلايا الدنيوية توجد عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين، وتأخذ الصالحين والطالحين معا، سنة الله التي قد خلت في عباده إلا أنها تختلف عنوانا وأثرا باختلاف موقف الإنسان من الصلاح والطلاح، مقام العبد من ربه.
فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه وتمكنت الفضيلة الإنسانية من جوهره كالانبياء الكرام ومن يتلوهم لا تؤثر المصائب والمحن الدنيوية النازلة عليه إلا فعلية الفضائل الكامنة في نفسه مما ينتفع به وبآثاره الحسنة هو وغيره فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلا تربية إلهية وإن شئت فقل: ترفيعا للدرجة.
ومن لم يثبت على سعادة أو شقاوة ولم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا نزلت به النوازل ودارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه وتميز موقفه من كفر أو إيمان، وصلاح أو طلاح، ولا ينبغى أن يسمى هذا النوع من البلايا والمحن إلا امتحانات وابتلاءات إلهية تخد للإنسان خده إلى الجنة أو إلى النار.
ومن لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس ولم يألف إلا الفساد والافساد والانغمار في لجج الشهوة والغضب، ولم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة، والاستعلاء على الله على الخضوع للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الأمم الظالمة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وأصحاب مدين وقوم لوط، إثر ما فرطوا في جنب الله.
فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية ونكالات ووبالات عليهم لا غير.
وقد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (آل عمران: 141).
وتاريخ اليهود من لدن بعثة موسى عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يزيد على ألفى سنة- وكذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الإسلام- فيما يقرب من ستة قرون على ما يقال- مملوء من أنواع الذنوب التي أذنبوها، وجرائم ارتكبوها، ولم يبقوا منها باقية ثم أصروا واستكبروا من غير ندم، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق إلا اسم العذاب والنكال.