فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد اختار الإمبراطور الروماني «قسطنطين» الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئًا من النصرانية! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم، وشرد أصحاب سائر المذاهب؛ وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده، وناسوتية المسيح.
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه: «إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودًا فيه.
وأنه لم يوجد قبل أن يولد. وأنه وجد من لا شيء. أو من يقول: إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب. وكل من يؤمن أنه خلق، أو من يقول: إنه قابل للتغيير، ويعتريه ظل دوران»
.
ولكن هذا المجمع بقراراته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع «آريوس» وقد غلبت على القسطنطينية، وأنطاكية، وبابل، والإسكندرية، ومصر.
ثم سار خلاف جديد حول «روح القدس» فقال بعضهم: هو إله، وقال آخرون: ليس بإله! فاجتمع «مجمع القسطنطينية الأول» سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر.
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية: «قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله. وليس روح الله شيئًا غير حياته. فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن روح الله مخلوق. وإذا قلنا: إن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة. وإذا قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي. وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به. ومن كفر به وجب عليه اللعن»!!!
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية. وتم «الثالوث» من الآب. والابن. وروح القدس..
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية.. أو اللاهوت والناسوت كما يقولون.. فقد رأى «نسطور» بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنومًا وطبيعة. فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه؛ وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم، فمريم أم الإنسان- في المسيح- وليست أم الإله! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم- كما نقله عنه ابن البطريق: «إن هذا الإنسان الذي يقول: إنه المسيح.. بالمحبة متحد مع الابن.. ويقال: إنه الله وابن الله، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة»..
ثم يقول: «إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلهًا في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة، أو هو ملهم من الله، فلم يرتكب خطيئة، وما أتى أمرًا إدًا».
وخالفه في هذا الرأي أسقف رومه، وبطريرك الإسكندرية، وأساقفة أنطاكية، فاتفقوا على عقد مجمع رابع. وانعقد «مجمع أفسس» سنة 431 ميلادية. وقرر هذا المجمع- كما يقول ابن البطريق-: «أن مريم العذراء والدة الله. وأن المسيح إله حق وإنسان، معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم».. ولعنوا نسطور!
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد، انعقد له «مجمع أفسس الثاني» وقرر: «أن المسيح طبيعة واحدة، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت».
ولكن هذا الرأي لم يسلم؛ واستمرت الخلافات الحادة؛ فاجتمع مجمع «خلقيدونية» سنة 451 وقرر: «أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة. وأن اللاهوت طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحدها، التقتا في المسيح».. ولعنوا مجمع أفسس الثاني!
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع. ووقعت بين المذهب المصري «المنوفيسية» والمذهب «الملوكاني» الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية، التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة: «سير. ت. و. أرنولد» في كتابه «الدعوة إلى الإسلام» في مطالع تفسير سورة آل عمران..
ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح؛ والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف، وما تزال إلى اليوم ثائرة..
وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية؛ ولتقول كلمة الفصل؛ ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم}.. {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} (كما سيجيء في السورة).
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع: {قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا}.
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه، وبين ذات عيسى عليه السلام وذات أمه، وكل ذات أخرى، في نصاعة قاطعة حاسمة. فذات الله سبحانه واحدة. ومشيئته طليقة، وسلطانه متفرد، ولا يملك أحد شيئًا في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا..
وهو سبحانه مالك كل شيء، وخالق كل شيء، والخالق غير المخلوق. وكل شيء مخلوق: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير}.
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية، ووضوحها وبساطتها.. وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية. في تقرير حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين. بلا غبش ولا شبهة ولا غموض..
واليهود والنصارى يقولون: إنهم أبناء الله وأحباؤه: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}.
فزعموا لله سبحانه أبوة، على تصور من التصورات، إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح. وهي أيًا كانت تلقي ظلًا على عقيدة التوحيد؛ وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية. هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور، ولا تستقيم الحياة، إلا بتقريره. كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية؛ وتتوحد الجهة التي تشرع للناس؛ وتضع لهم القيم والموازين والشرائع والقوانين، والنظم والأوضاع، دون أن تتداخل الاختصاصات، بتداخل الصفات والخصائص، وتداخل الألوهية والعبودية.
فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب، إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف!
واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، كانوا يقولون- تبعًا لهذا- إن الله لن يعذبهم بذنوبهم! وإنهم لن يدخلوا النار- إذا دخلوا- إلا أيامًا معدودات. ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه! وأنه سبحانه- يحابي فريقًا من عباده، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف؟
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور، وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة، ويقرر عدل الله الذي لا يحابي؛ كما يقرر بطلان ذلك الادعاء: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}.
بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان. يقرر بطلان ادعاء البنوة؛ فهم بشر ممن خلق. ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد. على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه. لا بسبب بنوة أو صلة شخصية!
ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء، وأن مصير كل شيء إليه: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير}.
والمالك غير المملوك. تتفرد ذاته سبحانه وتتفرد مشيئته، ويصير إليه الجميع..
وينهي هذا البيان، بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب، يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام «المصير» وجهًا لوجه، بلا غبش ولا عذر، ولا غموض:
{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير. والله على كل شيء قدير}.
وبهذه المواجهة الحاسمة، لا تعود لأهل الكتاب جميعًا حجة من الحجج.. لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم. فالله سبحانه يقول: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا}.
ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل؛ يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف.. فقد جاءهم- الآن- بشير ونذير..
ثم يذكرهم أن الله لا يعجزه شيء.. لا يعجزه أن يرسل رسولًا من الأميين. ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون:
{والله على كل شيء قدير}.
وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب؛ فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل. وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين. وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي؛ وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين.
وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية؛ وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى. وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعًا.. إلى الصراط المستقيم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}.
يقال في: كل زمان تقع فَتْرَة في سبيل الله ثم تجدد الحال، ويُعَمُّ الطريق بإبداء السالكين من كتم العَدَم، ولقد كان زمانُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أكثرَ الأزمنة بركةً، فأحيا بظهوره ما اندرس من السبيل، وأضاء بنوره ما انطمس من الدليل، وبذلك مَنَّ عليهم، وذكَّرهم عظيمَ نعمتِه فيهم. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}.
يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
{يُبَيِّنُ لَكُمْ} انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غدًا ما جاءنا رسول.
{على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} أي سكون؛ يُقال فَتَر الشيء سكن.
وقيل: {على فَتْرَةٍ} على انقطاع ما بين النبيّين؛ عن أبي عليّ وجماعة أهل العلم، حكاه الرمّاني؛ قال: والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجِدّ فيه، من قولهم: فَتَر عن عمله وفَتَّرته عنه.
ومنه فَتَر الماءُ إذا انقطع عما كان من السُّخُونة إلى البرد.
وامرأة فاتِرة الطرف أي منقطعة عن حِدة النظر.
وفتور البدن كفتور الماء.
والفتر ما بين السّبابة والإبهام إذا فتحتهما.
والمعنى؛ أي مضت للرسل مدّة قبله.
واختلف في قدر مدّة تلك الفترة؛ فذكر محمد بن سعد في كتاب «الطبقات» عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمِران وعيسى ابن مريم عليهما السَّلام ألف سنة وسبعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبيّ من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم.