فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيهات:
الأول: قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} ظرف متعلق بـ {يتيهون}. واحتمال كونه ظرفًا لـ {محرمة} كما ذكره غير واحد- لا يصح إلا بتكلف؛ لما شرحناه من سياق القصة.
الثاني: قال الحاكم: دلّ قوله تعالى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} على أنّ من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه، بل يحمد الله إذا أهلك عدوًا من أعدائه.
الثالث: قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام. وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع. وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذرعًا وثلث ذراع. تحرير الحساب. وهذا شيء يستحي من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في «الصحيحين»: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن». ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافرًا، وأنه كان ولد زِنْية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته. وهذا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذكر أن نوحًا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]. وقال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء: 119- 120]. وقال تعالى: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 43]، وإذا كان ابنُ نوح، الكافرُ، غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقلٍ ولا شرعٍ. ثم في وجود رجلٍ يقال له عوج بن عنق، نظر. والله أعلم.
الرابع: قال ابن كثير: تضمنت هذه القصة تقريع النهود، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصَفيّه من خَلْقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم. هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم، فرعون، من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليمّ وهم ينظرون، لتقرَّبه أعينهم «وما بالعهد من قدم». ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، وظهرت قبائح صنيعهم للخاصّ والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. وقال- رحمه الله- قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة- رضي الله عنهم- يوم بدر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان. فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض واليلب. فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن، ثم تكلم من الصحابة، من المهاجرين، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشيروا عليّ أيها المسلمون! وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار. لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذٍ. فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحقّ! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك. ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا. إنا لصبُرُ في الحرب، صُدُق في اللقاء. لعل الله أن يُرِيَكَ منّا ما تقرّ به عينك. فَسِرْ على بركة الله. فُسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه لذلك.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدًا، لأَنَ أكون أنا صاحبه، أحبّ إليّ مما عدل به. أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: والله! يا رسول الله! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}. ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك.
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك. وسرّه ذلك. وهكذا رواه البخاري في «المغازي».
الخامس: استنبط العمرانيون من هذه الآية أنَّ من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل، والانقياد لسواهم.
قال الحكيم ابن خلدون في «مقدمة العبر» في الفصل 19 تحت العنوان المذكور: إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدّتها. فإنَّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا «ألفوا» للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزًا عن المقاومة والمطالبة، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام، وأخبرهم أن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22]. أي: يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا، وتكون من معجزاتك يا موسى، ولما عزم عليهم لجّوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] وما ذلك إلاَّ لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد، وما رئموا من الذلّ للقبط أحقابًا حتى ذهبت العصبية منهم جملة. مع أنهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى، من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم، بحكم من الله قدره لهم. فأقصروا عن ذلك وعجزوا، تعويلًا على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة. وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه. وهو أنّهم تاهوا في قَفْر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنةً. لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصرًا، ولا خالطوا بشرًا، كما قصّه القرآن، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها: أن حكمة ذلك التيه مقصودة. وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلّقوا به. وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر، ولا يُسَام بالمذلة. فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب، يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية. وأنهّا هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة. وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}.
أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْحُجَجَ الْقَيِّمَةَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ رِسَالَةَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ بِشَأْنِهِمْ وَشَأْنِ كُتُبِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَتَحْرِيفِ الْكُتُبِ وَنِسْيَانِ حَظٍّ مِنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَكَوْنِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ عَلَى سُنَّةِ التَّرَقِّي فِي الْبَشَرِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِدَحْضِ شُبُهَاتِهِمْ وَإِبْطَالِ دَعَاوِيهِمْ، وَبَيَانِ مَنَاشِئِ غُرُورِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَاقِعَةً مِنْ وَقَائِعِهِمْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّذِي أَخْرَجَهُمُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَاضْطِهَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَمِلْكِ أَمْرِهِمْ، وَكَوْنُهُمْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ كَانُوا يُخَالِفُونَهُ وَيُعَانِدُونَهُ، حَتَّى فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمُ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ؛ لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ بِهَذَا أَنَّ مُكَابَرَةَ الْحَقِّ وَمُعَانَدَةَ الرُّسُلِ خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ سَلَفِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَزِيدَ عِرْفَانٍ بِطَبَائِعِ الْأُمَمِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ لَاحِقِهِ بِسَابِقِهِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} أَيْ وَاذْكُرْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَةُ الْقُرْآنِ؛ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُمْ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْعُبُودِيَّةِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالشُّكْرِ لَهُ وَالطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمَزِيدَ، وَتَرْكَهُ يُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ، وَلَفْظُ «نِعْمَةَ» يُفِيدُ الْعُمُومَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى اسْمِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مُوسَى مُرَادَهُ بِهَذَا الْعُمُومِ بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ كَانَتْ حَاصِلَةً بِالْفِعْلِ بَعْدَ نِعْمَةِ إِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالسَّلْبِ. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْحَاصِلَةُ الْمَشْهُودَةُ هِيَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ النِّعَمِ وَمَجَامِعِهَا الَّتِي يَنْدَرِجُ فِيهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَاكَ بَيَانُهَا:
(الْأَوَّلُ)- وَهُوَ أَشْرَفُهَا-: جَعْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِوُجُودِ الْمُبَلِّغِ لِذَلِكَ، وَوُجُودِ أَخِيهِ هَارُونَ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمَا، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتُشْعِرُ الْعِبَارَةُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ النِّعْمَةَ أَوْسَعُ، وَأَنَّ عَدَدَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرٌ، أَوْ سَيَكُونُ كَثِيرًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَعْلِ بَيَانُ الشَّأْنِ لَا مُجَرَّدُ الْحُصُولِ بِالْفِعْلِ فِي الزَّمَنَيْنِ الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَقِيلَ: كَانَ عَدَدُ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ كَثِيرًا فِي عَهْدِ مُوسَى، حَتَّى حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِيَصْعَدُوا مَعَهُ الْجَبَلَ إِذْ يَصْعَدُهُ لِمُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى، صَارُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْإِخْبَارُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنَى إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُؤَيِّدِينَ لِلتَّوْرَاةِ، عَامِلِينَ وَحَاكِمِينَ بِهَا، حَتَّى الْمَسِيحِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلِلنَّصَارَى تَحَكُّمٌ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَنَفْيِهَا عَمَّنْ شَاءُوا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ نَبِيًّا!! بَلْ حَكِيمًا؛ أَيْ فَيْلَسُوفًا عَلَى أَنَّ كُتُبَهُ هِيَ أَعْلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ عِلْمًا وَحِكْمَةً؛ فَهِيَ أَعْلَى مِنْ حِكَمِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي عِنْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْتَقِدُهُ عَامَّتُهُمْ عَلَى رُؤَسَاءِ كَنِيسَتِهِمْ، حَتَّى قَالَ أَحَدُ الْأَذْكِيَاءِ اللُّبْنَانِيِّينَ: إِنَّ الْكَنِيسَةَ لَمْ تَعْتَرِفْ بِنُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ؛ لِيَكُونَ مُنْتَهَى مُبَالَغَةِ الْمُعْجَبِينَ بِحَكَمِهِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ أَنْ يَرْفَعُوهُ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، فَيَبْقَى دُونَ الْمَسِيحِ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَنِيسَةِ كَانُوا يَخْشَوْنَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّهُ أَحَقُّ مِنَ الْمَسِيحِ بِالْأُلُوهِيَّةِ إِذَا هُمُ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، أَمَّا عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ فَضَّلُوا الْمَسِيحَ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَهُوَ عِنْدُهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي أَوَاخِرَ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
(الثَّانِي): جَعْلُهُمْ مُلُوكًا، لَوْلَا مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ مَوْضِعَ اشْتِبَاهٍ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الضُّعَفَاءِ فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ بَنَى إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ عَلَى عَهْدِ مُوسَى؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ لِكَلِمَةِ مَلِكٍ وَمُلُوكٍ شَاوِلُ بْنُ قَيْسٍ، ثُمَّ دَاوُدُ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ حَقَّ الْفَهْمُ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ رُؤَسَاءً لِلْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ يَسُوسُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بَيْنَهَا، وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ مُلُوكًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} وَلَمْ يَقُلْ: وَجَعَلَ فِيكُمْ مُلُوكًا، كَمَا قَالَ: {جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} فَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَارُوا مُلُوكًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِـ «كُلٍّ» الْمَجْمُوعُ لَا الْجَمِيعُ؛ أَيْ إِنَّ مُعْظَمَ رِجَالِ الشَّعْبِ صَارُوا مُلُوكًا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَبِيدًا لِلْقِبْطِ، بَلْ مَعْنَى الْمَلِكِ هُنَا الْحُرُّ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ أَهْلِهِ، فَهُوَ تَعْظِيمٌ لِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بَعْدَ ذَلِكَ الرِّقِّ وَالِاسْتِعْبَادِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ؛ فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَدَابَّةٌ وَامْرَأَةٌ كُتِبَ مَلِكًا»، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِلَفْظِ «زَوْجَةٍ وَمَسْكَنٍ وَخَادِمٍ»، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى سَتَأْتِي بِنَصِّهَا، وَقَدْ صَحَّحُوا سَنَدَهَا، وَالْمَرْفُوعُ ضَعِيفُ السَّنَدِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلْكِ هُنَا: الِاسْتِقْلَالُ الذَّاتِيُّ، وَالتَّمَتُّعُ بِنَحْوِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْمُلُوكُ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ وَسِيَاسَةِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ مَجَازٌ تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ إِلَى الْيَوْمِ فِي جَمِيعِ مَا عَرَفْنَا مِنْ بِلَادِهِمْ، يَقُولُونَ لِمَنْ كَانَ مُهَنَّئًا فِي مَعِيشَتِهِ، مَالِكًا لِمَسْكَنِهِ، مَخْدُومًا مَعَ أَهْلِهِ، فَلَانٌ مَلِكٌ، أَوْ مَلِكُ زَمَانِهِ؛ أَيْ يَعِيشُ عِيشَةَ الْمُلُوكِ، وَتَرَى مِثْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا، قَالَ: (1: 6 وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً).
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي يَرْتَقُونَ بِهَا فِي مَرَاقِي الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَعَدَّتْ لَهُ الْأُمَّةُ مِنْ ذَلِكَ فِي مَجْمُوعِهَا لابد أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُعَارِضُ مَا قَبْلَهُ، بَلْ يُجَامِعُهُ وَيَتَّفِقُ مَعَهُ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعِيشَةَ الْمَنْزِلِيَّةَ الرَّاضِيَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِهَذِهِ الْعِيشَةِ الثَّانِيَةِ، عِيشَةِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَةِ، فَإِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي يَفْسُدُ فِيهَا نِظَامُ الْمَعِيشَةِ الْمَنْزِلِيَّةِ لَا تَكُونُ أُمَمًا عَزِيزَةً قَوِيَّةً؛ فَهِيَ إِذَا كَانَ لَهَا مُلْكٌ تُضَيِّعُهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ أَهْلًا لِتَأْسِيسِ مُلْكٍ جَدِيدٍ؟! فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا، وَلْيَنْظُرُوا أَيْنَ هُمْ مِنَ الْعِيشَةِ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا.