فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}.
فيه أربع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ}.
أي سوَّلت وسهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصوّرت له أن قتل أخيه طوع سهل له يقال: طَاعَ الشيءُ يَطُوع أي سهل وانقاد.
وطوّعه فلان له أي سهله.
قال الهَرَوي: طوّعت وأَطاعت واحد؛ يقال: طاع له كذا إذا أتاه طوعًا.
وقيل: طاوعته نفسه في قتل أخيه؛ فنزع الخافض فانتصب.
وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يَشْدَخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل؛ قاله ابن جُرَيْج ومجاهد وغيرهما.
وقال ابن عباس وابن مسعود: وجده نائمًا فشدخ رأسه بحجر وكان ذلك في ثَوْر جبل بمكة قاله ابن عباس.
وقيل: عند عَقَبة حِراء؛ حكاه محمد بن جرير الطَّبَري.
وقال جعفر الصادق: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة.
ويقال: إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه؛ لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية ويمكن إتلافها؛ فأخذ حجرًا فقتله بأرض الهند. والله أعلم.
ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه؛ ففعل القاتل بأخيه كذلك.
والسوءة يراد بها العورة، وقيل: يراد بها جِيفة المقتول؛ ثم إنه هرب إلى أرض عَدَن من اليمن، فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قُرْبان أخيك لأنه كان يعبد النار، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار؛ فهو أوّل من عبَد النار فيما قيل. والله أعلم.
ورُوي عن ابن عباس، أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرت الأرض؛ فقال آدم عليه السلام: قد حَدَث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل.
وقيل: إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم، فلما وصل إليه قال له: أين هابيل؟ فقال: لا أدري كأنك وكلتني بحفظه.
فقال له آدم: أفعلتها؟ا والله إن دمه لينادي؛ اللهم العن أرضًا شربت دم هابيل.
فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دمًا.
ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك، حتى جاءه مَلك فقال له: حَيَّاك الله يا آدم وبَيَّاك.
فقال: ما بَيَّاك؟ قال: أضحكك؛ قاله مجاهد وسالم بن أبي الجَعْد.
ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثًا، وتفسيره هبة الله، أي خلفًا من هابيل.
وقال مقاتل: كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل هربوا؛ فلحقت الطيور بالهواء، والوحوش بالبرية، ولحقت السباع بالغِياض.
وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال:
تَغيَّرتِ البلادُ ومَنْ عليها ** فوجهُ الأرض مُغْبَرٌّ قَبِيحُ

تَغَيَّرَ كُلُّ ذي طعْمٍ ولونٍ ** وقلَّ بشاشةَ الوجهُ المَليحُ

في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره.
قال ابن عطية: هكذا هو الشعر بنصب «بشاشةَ» وكف التنوين.
قال القُشيري وغيره قال ابن عباس: ما قال آدم الشِّعر، وإن محمدًا والأنبياء كلهم في النهي عن الشِّعر سواء؛ لكن لما قُتل هابيل رثاه آدم وهو سُرياني، فهي مرثية بلسان السُّريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال: إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليُتَوارث؛ فحفظت منه إلى زمان يَعْرُب بن قحطان، فترجم عنه يَعْربُ بالعربية وجعله شعرًا.
الثانية رُوي من حديث أنس قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال: «يومُ الدّمِ فيه حاضت حوّاء وفيه قَتلَ ابن آدم أخاه» وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوّل كِفْلٌ من دمها لأنه كان أوّل من سن القتل» وهذا نص على التعليل؛ وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كِفل من معصية كل من عصى بالسجود؛ لأنه أوّل من عصى به، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البِدع والأهواء؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وهذا نص في الخير والشّر.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ أخوف ما أخاف على أُمتي الأئمة المضلون» وهذا كله صريح، ونص صحيح في معنى الآية، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية، لأن آدم عليه السلام كان أوّل من خالف في أكل ما نُهي عنه، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نُهى عنه ولا شربه ممنّ بعده بالإجماع؛ لأن آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه، فصار كمن لم يَجْن.
ووجه آخر فإنه أكل ناسيًا على الصحيح من الأقوال، كما بيّناه في «البقرة» والناسي غير آثم ولا مؤاخذ.
الثالثة تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد، حتى أنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة، وأمسه به رحِما، وأولاهم بالحنوّ عليه ودفع الأذية عنه.
الرابعة قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} أي ممن خسر حسناته.
وقال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
قال ابن عطية: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} وإلاّ فالخسران يعمّ خسران الدنيا والآخرة.
قلت: ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر؛ فيكون المعنى {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} أي في الدنيا. والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله: {لاَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27] لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله وإن كان استمرارًا عليه بحسب الظاهر لكنه في الحقيقة أمر حادث وصنع جديد، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناءًا على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه، وقرأ الحسن فطاوعت وفيها وجهان: الأول: أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره، وهو أوفق بالقراءة المتواترة، والثاني: أن المفاعلة مجازية يجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته، و{لَهُ} للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].
والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء.
{فَقَتَلَهُ} أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيرًا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم، وأخرج عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رؤوس الجبال فأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب، وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة، واختلف في موضع قتله، فعن عمرو الشعباني عن كعب الأخبار أنه قتل على جبل دير المران، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون، وقيل: عند عقبة حراء، وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائهًا حتى مات، وروي أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك.
وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال: إن آدم عليه السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنًا عليه فأتى على رأس المائة، فقيل له: حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام، فعند ذلك ضحك، وذكر محيي السنة أنه عليه السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه السلام، وتفسيره هبة الله يعني أنه خلف من هابيل، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما قتل ابن آدم عليه السلام أخاه بكى آدم عليه السلام ورثاه بشعر، وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مشهور.
وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من قال: إن آدم عليه السلام قال شعرًا فقد كذب إن محمدًا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرًا عربيًا، وذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنًا أو إقواءًا أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب أيضًا لما فيه من الركاكة الظاهرة.
{فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} دنيا وآخرة، أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل»، وأخرج ابن جرير والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم» وورد أنه أحد الأشقياء الثلاثة، وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافرًا.
وأصرح من ذلك ما روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس عليهما اللعنة فقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضًا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها فهو أول من عبد النار، والظاهر أن عليه أيضًا وزر من يعبد النار بل لا يبعد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة، واستدل بعضهم بقوله سبحانه: {فَأَصْبَحَ} على أن القتل وقع ليلًا وليس بشيء فإن من عادة العرب أن يقولوا: أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرًا ثمرته الخسران، ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت، وإنما لم يقل سبحانه فأصبح خاسرًا للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه. اهـ.