فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورواه ابن المبارك عن عاصم الأحول، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر».
وكذا أرسل هذا الحديث بكر بن عبد الله المزني، روى ذلك كله ابن جرير.
وقال سالم بن أبي الجَعْد: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: حياك الله وبيّاك. أي: أضحكك.
رواه ابن جرير، ثم قال: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا سلمة، عن غِياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمْداني قال: قال علي بن أبي طالب: لما قتل ابن آدم أخاه، بكاه آدم فقال:
تَغيَّرت البلاد ومَنْ عَلَيها ** فَلَوْنُ الأرض مُغْبر قَبيح

تغيَّر كل ذي لون وطعم ** وقلَّ بَشَاشَة الوجْه المليح

فأجيب آدم عليه السلام:
أبَا هَابيل قَدْ قُتلا جَميعًا ** وصار الحي كالميْت الذبيح

وجَاء بشرةٍ قد كان مِنْها ** عَلى خَوف فجاء بها يَصيح

والظاهر أن قابيل عُوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد بن جَبْر أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به. وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب أجدر أن يُعَجَّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يَدَّخر لصاحبه في الآخرة، من البَغْي وقطيعة الرحم». وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ.

.تفسير الآية رقم (32):

قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما علم بهذا أن الإنسان موضع العجلة الإقدام على الموبقات من غير تأمل، فكان أحوج شيء إلى نصب الزواجر، أتبعه تعالى قوله: {من أجل ذلك} أي من غاية الأمر الفاحش جدًا ومدته وعظم الأمر وشدة قبحه في نفسه وعند الله وصغره عند القاتل وحبسه ومنعه وجنايته وإثارته وتهييجه وجرأة الإنسان على العظائم بغير تأمل {كتبنا} أي بما لنا من العظمة ليفيد ذلك عظمة المكتوب والتنبيه على ما فيه من العجز ليفيد الانزجار {على بني إسرائيل} أي أعلمناهم بما لنا من العناية بهم في التوراة التي كتبناها لهم، ويفهم ذلك أيضًا أنهم أشد الناس جرأة على القتل، ولذلك كانوا يقتلون الأنيباء، فأعلمهم الله بما فيهم من التشديد، ولِمَا علم من الأدميين- لاسيما هم- من الجرأة عليه، ليقيم عليهم بذلك الحجة على ما يتعارفونه بينهم، ويكف عن القتل من سبقت له منه العناية بما يتصور من فظاعة القتل، وقبح صورته وفحش أمره، وعبر بأداة الاستعلاء التي هي للحتم من الوجوب والحرمة، لأن السياق للزجر، فهي تفهم المنع عن الإقدام على القتل في هذا المقام {أنه من قتل نفسًا} أي من ابني آدم، وكأنه أطلق تعظيمًا لهم إشارة إلى أن غيرهم جماد {بغير نفس} أي بغير أن تكون قتلت نفسًا تستحق أن تقاد بها فاستباح قتلها لتلك النفس التي قتلتها {أو} قتلها بغير {فساد} وقع منها.
ولما كانت الأرض- مع أنها فراشنا فهي محل التوليد والتربية والتنمية- دار الكدر، وكان فساد من أفسد فراشه الموصوف- لاسيما وهو في كدر- دالًا على سوء جبلته، وكان سوء الجبلة موجبًا للقتل، قال: {في الأرض} أي يبيح ذلك الفساد دمها كالشرك والزنا بعد الإحصان وكل ما يبيح إراقة الدم، وقد علم بهذا أن قصة ابني آدم مع شدة التحامها بما قبل توطئة لما بعد، وتغليظُ أمر القتل تقدم عن التوراة في سورة البقرة، وقوله: {فكأنما قتل الناس جميعًا} من جملة الأدلة المبطلة لما ادعوا من البنوة، إذ معناه أن الناس شرع واحد من جهة نفوسهم متساوون فيها.
كلهم أولاد آدم، لا فضل لأحد منهم على آخر في أصل تحريم القتل بغير ما ذكر من الموجب من قصاص أو فساد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم، وذلك كما قال تعالى في ثاني النقوض {بل أنتم بشر ممن خلق} [المائدة: 18] فصار من قتل نفسًا واحدة بغير ما ذكر فكأنما حمل إثم من قتل الناس جميعًا، لأن اجتراءه على ذلك أوجب اجتراء غيره، ومن سن سنة كان كفاعلها {ومن أحياها} أي بسبب من الأسباب كعفو، أو إنقاذ من هلكة كغرق، أو مدافعة لمن يريد أن يقتلها ظلمًا {فكأنما أحيا} أي بذلك الفعل الذي كان سببًا للأحياء {الناس جميعًا} أي بمثل ما تقدم في القتل، والآية دالة على تعليمه سبحانه لعباده الحكمة، لما يعلم من طباعهم التي خلقهم عليها ومن عواقب الأمور- لا على أنه يجب عليه- رعاية المصلحة، ومما يحسن إيراده هاهنا ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورأيت من ينسبه للشافعي رحمه الله تعالى:
الناس من جهة التمثال أكفاء ** أبوهمُ آدم والأم حواء

نفس كنفس وأرواح مشاكلة ** وأعظمُ خلقت فيهم وأعضاء

فإن يكن لهمُ في أصلهم حسب ** يفاخرون به فالطين والماء

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ** على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرىء ما كان يحسنه ** وللرجال على لأفعال أسماء

وضد كل امرىء ما كان يجهله ** والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حيًا به أبدًا ** فالناس موتى وأهل العلم أحياء

ولما أخبر سبحانه أنه كتب عليهم ذلك، أتبعه حالًا منهم دالة على أنهم بعيدون من أن يكونوا أبناء وأحباء فقال: {ولقد} أي والحال أنهم قد {جاءتهم رسلنا} أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا واختيارنا لهم لأن يأتوا عنا، فهم لذلك أنصح الناس وأبعدهم عن الغرض وأجلّهم وأجمعهم للكمالات وأرفعهم عن النقائص، لأن كل رسول دال على مرسله {بالبينات} أي الآيات الواضحة للعقل أنها من عندنا، آمره لهم بكل خير، زاجرة عن كل ضير، لم نقتصر في التغليظ في ذلك على الكتاب بل وأرسلنا الرسل إليهم متواترة.
ولما كان وقوع الإسراف- وهو الإبعاد عن حد الاعتدال في الأمر منهم بعد ذلك- بعيدًا- عبر بأداة التراخي مؤكدًا بأنواع التأكيد فقال: {ثم إن كثيرًا منهم} أي بني إسرائيل، وبيَّنَ شدة عتوّهم بإصرارهم خلفًا بعد سلف فلم يثبت الجار فقال: {بعد ذلك} أي البيان العظيم والزجر البليغ بالرسل والكتاب {في الأرض} أي التي هي مع كونها فراشًا لهم- ويقبح على الإنسان أن يفسد فراشه- شاغلة- لما فيها من عظائم الكدورات وترادف القاذورات- عن الكفاف فضلًا عن الإسراف {لمسرفون} أي عريقون في الإسراف بالقتل وغيره. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلك} أي بسبب فعلته.
فإن قيل عليه سؤالان: الأول: أن قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلك} أي من أجل ما مرّ من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل القصاص، وذاك مشكل فإنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل.
الثاني: أن وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه ببني إسرائيل؟
والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: قال الحسن: هذا القتل إنما وقع في بني إسرائيل لا بين ولدي آدم من صلبه، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم، والثاني: أنا نسلم أن هذا القتل وقع بين ولدي آدم من صلبه، ولكن قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلك} ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما مر ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام، منها قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 30] ومنها قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] فقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} إشارة إلى أنه حصلت له خسارة الدين والدنيا، وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} إشارة إلى أنه حصل من قلبه أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دفع له ألبتة، فقوله: {مِنْ أَجل ذلك كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل} أي من أجل ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص من حق القاتل، وهذا جواب حسن والله أعلم.
وأما السؤال الثاني: فالجواب عنه أن وجوب القصاص في حق القاتل وإن كان عامًا في جميع الأديان والملل، إلا أن التشديد المذكور هاهنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان لأنه تعالى حكم هاهنا بأن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس، ولا شك في أن المقصود منه المبالغة في شرح عقاب القتل العمد العدوان، والمقصود من شرح هذه المبالغة أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل.
وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأكابر أصحابه، كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة العظيمة مناسبًا للكلام ومؤكدًا للمقصود. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذلك} أي مِن جَرَّاء ذلك القاتل وجَرِيرته.
وقال الزجاج: أي من جنايته؛ يقال: أَجَلَ الرجُل على أهله شرًا يأجُل أَجْلًا إذا جنى؛ مثل أخذ يأخذ أخذًا.
قال الخِنَّوْت:
وأهلِ خباءٍ صالحٍ كنتُ بَيْنَهُمْ ** قد آحتربُوا في عاجلٍ أنا آجِلُه

أي جانيه، وقيل: أنا جارُّه عليهم.
وقال عديّ بن زيد:
أَجْلَ انَّ اللَّه قد فَضَّلَكُمْ ** فَوقَ مَنْ أَحْكَأَ صُلبا بإزارِ

وأصله الجرّ؛ ومنه الأَجَل لأنه وقت يجرّ إليه العقد الأوّل.
ومنه الآجل نقيض العاجل، وهو بمعنى يُجرّ إليه أمر متقدّم.
ومنه أَجَلْ بمعنى نَعَمْ.
لأنه انقياد إلى ما جُرَّ إليه.
ومنه الإجْل للقطيع من بقر الوحش؛ لأن بعضه ينجر إلى بعض؛ قاله الرمّانيّ. اهـ.

.قال الألوسي:

{مِنْ أَجْلِ ذلك} أي ما ذكر في تضاعيف القصة، و{مِنْ} ابتدائية متعلقة بقوله تعالى: {كَتَبْنَا} أي قضينا، وقيل: بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع، و{كَتَبْنَا} استئناف، واستبعده أبو البقاء وغيره.
والأجل بفتح الهمزة وقد تكسر، وقرئ به لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرئ بنقل الفتحة إليها في الأصل الجناية يقال: أجل عليهم شرًا إذا جنى عليهم جناية، وفي معناه جرّ عليهم جريرة، ثم استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره.
{على بَنِى إسرائيل} وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم.
وقيل: إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل، ومع ذلك كانوا أشد طغيانًا فيه وتماديًا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه قيل: بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل، وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون.
ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح كما قال الحسن والجبائي وأبو مسلم على أن ابني آدم عليه السلام كانا من بني إسرائيل، على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغني عنه في وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن تأبى ذلك. اهـ.