فصل: من فوائد الخطيب الشربيني في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الخطيب الشربيني في الآية:

قال رحمه الله:
{من أجل ذلك} أي: الذي فعله قابيل {كتبنا} أي: قضينا {على بني إسرائيل} في التوراة لأنهم كانوا أشدّ الناس جراءة على القتل ولذلك كانوا يقتلون الأنبياء {إنه} أي: الشأن {من قتل نفسًا} أي: من بني آدم {بغير نفس} أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص {أو} قتلها بغير {فساد} أتاه {في الأرض} كالشرك والزنا بعد الإحصان وقطع الطريق وكل ما يبيح إراقة الدم {فكأنما قتل الناس جميعًا} أي: من حيث هتك حرمة الدماء وسنّ القتل وجراءة الناس عليه أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استحلال غضب الله والعذاب العظيم.
{ومن أحياها} أي: بسبب من الأسباب كإنقاذ من هلكة أو غرق أو دفع من يريد أن يقتلها ظلمًا {فكأنما أحيا الناس جميعًا} قال ابن عباس: من حيث عدم انتهاك حرمتها وصونها قال سليمان بن علي: قلت للحسن يأبا سعيد أهي لنا أي: هذه الآية كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي، والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا اه. ومما يحسن إيراده هنا ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنه للشافعيّ رحمه الله تعالى:
الناس من جهة التمثيل أكفاء ** أبوهم آدم والأمّ حوّاء

نفس كنفس وأرواح مشاكلة ** وأعظم خلقت فيهم وأعضاء

فإن يكن لهم في أصلهم حسب ** يفاخرون به فالطين والماء

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ** على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرىء ما كان يحسنه ** وللرجال على الأفعال أسماء

وضدّ كل امرىء ما كان يجهله ** والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حيًا به أبدًا ** فالناس موتى وأهل العلم أحياء

{ولقد جاءتهم} أي: بني إسرائيل {رسلنا بالبينات} أي: المعجزات وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها {ثم إنّ كثيرًا منهم بعد ذلك} أي: بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر وتجديدًا للعهد {في الأرض لمسرفون} أي: مجاوزون الحدّ بالكفر والقتل وغير ذلك ولا يبالون به وبهذا اتصلت القصة بما قبلها. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بنى إسراءيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعًا وَمَنْ أحياها فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.
يتعيّن أن يكون {من أجل ذلك} تعليلًا ل {كتبنا}، وهو مبدأ الجملة، ويكون منتهى التي قبلها قوله: {من النّادمين} [المائدة: 31].
وليس قوله: {من أجل ذلك} معلّقًا ب {النّادمين} تعليلًا له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله: {فأصبح} [المائدة: 31].
و{مِن} للابتداء، والأجْل الجَرّاء والتسبّب أصله مصدر أجَلَ يأجُل ويأجِل كنصر وضرب بمعنى جَنَى واكتسب.
وقيل: هو خاصّ باكتساب الجريمة، فيكون مرادفًا لجَنَى وَجَرَم، ومنه الجناية والجريمة، غير أنّ العرب توسّعوا فأطلقوا الأجْل على المكتسب مطلقًا بعلاقة الإطلاق.
والابتداء الذي استعملت له «من» هنا مجازي، شُبّه سبب الشيء بابتداء صدوره، وهو مثار قولهم: إنّ من معاني «من» التعليل، فإنّ كثرة دخولها على كلمة {أجل} أحدث فيها معنى التّعليل، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التّعليل، كما في قول الأعشى:
فآليْت لا أرثي لها من كلالة ** ولا من حَفى حتّى ألاقي محمّدًا

واستفيد التّعليل من مفاد الجملة.
وكان التّعليل بكلمة مِن أجل أقوى منه بمجرّد اللام، ولذلك اختير هنا ليدلّ على أنّ هذه الواقعة كانت هي السّبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه.
وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص {ذلك} قصدُ استيعاب جميع المذكور.
وقرأ الجمهور {منْ أجل ذلك} بسكون نون {من} وإظهار همزة {أجل}.
وقراءة ورش عن نافع بفتح النّون وحذف همزة أجل على طريقته.
وقرأ أبو جعفر {مِننِ اجْل ذلك} بكسر نون «من» وحذففِ همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النّون فصارت غير منطوق بها.
ومعنى {كتبنا} شرعنا كقوله: {كُتب عليكم الصّيام} [البقرة: 183].
ومفعول {كتبنا} مضمون جملة {أنّه مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعًا}.
وَ«أن» من قوله: {أنَّه} بفتح الهمزة أخت «إنّ» المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدريّة، وضمير {أنّه} ضمير الشأن، أي كتبنا عليهم شأنًا مهمًّا هو مماثلةُ قتل نفس واحدة بغير حقّ لقتل القاتل النّاسَ أجمعين.
ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التّركيب يتّضح ببيان موقع حرف «أن» المفتوح الهمزة المشدّد النّون، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلاّ معمولًا لعامل قبله يقتضيه، فتعيّن أنّ الجملة بعد «أن» بمنزلة المفرد المعمول للعامل، فلزم أنّ الجملة بعد «أن» مؤوّلة بمصدر يسبك، أي يؤخذ من خبر «أن».
وقد اتّفق علماء العربيّة على كون «أن» المفتوحة الهمزة المشدّدة النّون أختًا لحرف «إنّ» المكسورة الهمزة، وأنّها تفيد التّأكيد مثل أختها.
واتّفقوا على كون «أن» المفتوحة الهمزة من الموصولات الحَرْفيّة الخمسة الّتي يسبك مدخولها بمصدر.
وبهذا تزيد «أن» المفتوحة على «إنّ» المكسورة.
وخبر «أن» في هذه الآية جملة {من قَتل نفسًا بغير نفس} إلخ.
وهي مع ذلك مفسّرة لضمير الشأن.
ومفعول {كتبنا} مأخوذ من جملة الشّرط وجوابه، وتقديرُه: كتبنا مُشابهةَ قتِل نفس بغير نفس الخ بقتل النّاس أجمعين في عظيم الجرم.
وعلى هذا الوجه جرى كلام المفسّرين والنحويين.
ووقع في «لسان العرب» عن الفرّاء ما حاصله: إذا جاءت «أن» بعد القول وما تصرّف منه وكانت تفسيرًا للقول ولم تكن حكاية له نصبتَها «أي فتحت همزتها»، مثل قولك: قد قلتُ لك كلامًا حَسنًا أنّ أباك شريف، تفتَح «أن» لأنّها فسَّرت «كلامًا»، وهو منصوب، «أي مفعول لفعل قُلت» فمفسِّره منصوب أيضًا على المفعوليّة لأنّ البيان له إعراب المبيَّن.
فالفراء يثبت لِحرف «أن» معنى التفسير عِلاوة على ما يثبته له جميع النحويين من معنى المصدريّة، فصار حرف «أن» بالجمع بين القولين دَالاّ على معنى التّأكيد باطّراد ودالاّ معه على معنى المصدريّة تارة وعلى معنى التّفسير تارة أخرى بحسب اختلاف المقام.
ولعلّ الفرّاء ينحُو إلى أنّ حرف «أن» المفتوحة الهمزة مركّب من حرفين هما حرف «إنّ» المكسورة الهمزة المشدّدة النّون، وحرف «أن» المفتوحة الهمزة الساكنة النّون الّتي تكون تارة مصدريّة وتارة تفسيرية؛ ففتْحُ همزته لاعتبار تركيبه من «أن» المفتوحة الهمزة السّاكنة النّون مصدريّة أو تفسيرية، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من «إنّ» المكسورة الهمزة المشدّدة النّون، وأصله و«أنْ إنّ» فلمّا رُكِّبَا تداخلت حروفهما، كما قال بعض النّحويين: إن أصل «لن» «لا أنْ».
وهذا بيان أنّ قتل النّفس بغير حقّ جُرم فظيع، كفظاعة قتل النّاس كلّهم.
والمقصود التّوطئة لمشروعيّة القصاص المصرّح به في الآية الآتية {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} [المائدة: 45] الآية.
والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أنّ حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم، لأنّ لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقّهين وتطمينًا لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيتْ مصالحُها، كمشروعية القصاص، فإنّه قد يبدو للأنظار القاصرة أنّه مداواة بمثل الدّاء المتداوَى منه حتّى دعا ذلك الاشتباهُ بعضَ الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلّة أنّهم لا يعاقبون المذنب بذَنْب آخر، وهي غفلة دقّ مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقّق المُجازاة بالقتل؛ لأنّ النفوس جُبلت على حبّ البقاء وعلى حبّ إرضاء القُوّة الغضبيّة، فإذا علم عند الغضب أنّه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع، وإذا طمِع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوّته الغضبيّة، ثُمّ علّل نفسه بأنّ ما دون القصاص يمكن الصّبر عليه والتفادي منه.
وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم، قال قائلهم، وهو قيس بن زهير العبسي:
شَفيت النفسَ من حَمل بن بدر ** وسيفي من حُذيفة قد شَفَانِي

ولذلك قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة: 179].
ومعنى التشبيه في قوله: {فكأنّما قتل النّاس جميعًا} حثّ جميع الأمّة على تعقّب قاتل النّفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائِه أو الستر عليه، كلّ مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض، من ولاة الأمور إلى عامّة النّاس.
فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنّه قد قتل النّاس جميعًا، ألا ترى أنّه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية النّاس.
على أنّ فيه معنى نفسانيًا جليلًا، وهو أنّ الداعي الّذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني النّاشيء عن الغضب وحبّ الانتقام على دواعي احترام الحقّ وزجر النّفس والنظر في عواقب الفعل من نُظم العالم، فالّذي كان من حيلته ترجيحُ ذلك الدّاعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشّريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دَوْمًا إلى هضم الحقوق، فكلّما سنحت له الفرصة قَتل، ولو دعته أن يقتل النّاس جميعًا لفعل.
ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقّيّته، وأنّه منظور فيه لحقّ المقتول بحيث لو تمكّن لما رضي إلاّ بجزاء قاتله بمثل جرمه؛ فلا يتعجّب أحد من حكم القصاص قائلًا: كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به، وكيف نداوي الداء بداء آخر، فبُيّن لهم أنّ قاتل النّفس عند وليّ المقتول كأنّما قتل النّاس جميعًا.
وقد ذُكرتْ وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النّظر.
ومعنى {ومن أحياها} من استنقذها من الموت، لظهور أنّ الإحياء بعد الموت ليس من مقدور النّاس، أي ومن اهتمّ باستنقاذها والذبّ عنها فكأنّما أحيى الناس جميعًا بذلك التّوجيه الّذي بيّنّاه آنفًا، أو من غلَّب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكفّ عن القتل عند الغضب.
{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك في الأرض لَمُسْرِفُونَ}.
تذييل لحكم شرع القصاص على بني إسرائيل، وهو خبر مستعمل كناية عن إعراضهم عن الشريعة، وأنّهم مع ما شدّد عليهم في شأن القتل ولم يزالوا يقتلون، كما أشعر به قوله: {بعد ذلك}، أي بعد أن جاءتهم رسلنا بالبيّنات.
وحذف متعلِّق {مسرفون} لقصد التّعميم.
والمراد مسرفون في المفاسد الّتي منها قتل الأنفس بقرينة قوله: {في الأرض}، فقد كثر في استعمال القرآن ذكر {في الأرض} [البقرة: 60] مع ذكر الإفساد.
وجملة {ثمّ إنّ كثيرًا منهم} عطف على جملة {ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات}.
و{ثُمّ} للتراخي في الرتبة، لأنّ مجيء الرّسل بالبيّنات شأن عجيب، والإسراف في الأرض بعد تلك البيّنات أعجب.
وذِكر {في الأرض} لتصوير هذا الإسراف عند السامع وتفظيعه، كما في قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56].
وتقديم {في الأرض} للاهتمام وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهميّة شأنَها.
وقرأ الجمهور {رسُلنا} بضمّ السّين.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب بإسْكان السّين. اهـ.