فصل: من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: من قال إن آدم قال شعرًا فقد كذب على اللّه ورسوله ورمى آدم بالمآثم، إنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم صلوات اللّه عليهم في النهي عن الشعر سواء، قال اللّه تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، وإنما يقول الشعر من تكلّم بالعربية فلمّا قال آدم مرثية في إبنه هابيل، وهو أوّل شهيد كان على وجه الأرض. قال آدم لابنه شيث: وهو أكبر ولده ووصيّه: يا بني إنّك وصيي، إحفظ هذا الكلام ليتوارث فلم يزل يقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فإذا هو سجع، فقال إن هذا ليقوّم شعرًا فرّد المقدم إلى آخره والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعرًا وما زاد فيه ولا نقص حرفًا من ذلك قال:
تغيّرت البلاد ومن عليها ** ووجه الأرض مغبرّ قبيح

تغير كل ذي طعم ولون ** وقلّ بشاشة الوجه الصبيح

وقابيل أذاق الموت هابي ** ل فواحزني لقد فقد المليح

ومالي لا أجود بسكب دمع ** وهابيل تضمنّه الضريح

بقتل ابن النبي بغير جرم ** قلبي عند قلبه جريح

أرى طول الحياة عليّ غمًّا ** وهل أنا من حياتي مستريح

فجاورنا عدوًّا ليس يفنى ** عدومًا يموت فنستريح

دع الشكوى فقد هلكا جميعًا ** بهالك ليس بالثمن الربيح

وما يغني البكاء عن البواكي ** إذا ما المرء غيّب في الضريح

فبكّ النفس منك ودع هواها ** فلست مخلدًا بعد الذبيح

فأجابه إبليس في جوف الليل شامتًا:
تنحّ عن البلاد وساكنيها ** فتىً في الخلد ضاق بك الفسيح

فكنت بها وزوجك في رخاء ** وقلبك من أذى الدنيا مريح

فما انفكت مكايدي ومكري ** إلى أن فاتك الخلد الرّبيح

فلولا رحمة الجبّار أضحى ** بكفك من جنان الخلد ريح

وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل هابيل مكث آدم عليه السلام مائة سنة لا أكثر.
ثم أتى فقيل: حيّاك اللّه وبياك أي ضحّكك، ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حوّاء شيثًا وتفسيره: هبة اللّه، يعني إنه خلف من هابيل، وعلّمه اللّه تعالى ساعات الليل والنهار وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه هبة اللّه وصار وصي آدم عليهما السلام وولي عهده، وأما قابيل فقيل له: إذهب طريدًا شريدًا فزعًا مرهوبًا لا يأمن من يراه فأخذ بيد أخته هبة اللّه ذهب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس، فقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النّار ويخدمها فانصب أنت نارًا يكون لك ولعقبك فنصب نارًا وهو أوّل من نصب نارًا وعبدها.
قالوا: كان لا يمرّ به أحدًا من ولده إلاّ رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له فقال الأعمى: إنّ هذا أبوك قابيل فرمى الأعمى ابن قابيل فقتله. فقال ابن الأعمى: قتلت أباك. فرفع يده فلطم إبنه فمات قال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي.
قال مجاهد: فعلقت إحدى رجل قابيل إلى فخذه وساقه وعلقت يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيث أدارت عليه بالصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج، قالوا: واتّخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطنبور، والمزامير، والعيدان، والطنابر، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى طوّفهم اللّه عز وجل بالطوفان أيام نوح عليه السلام وبقي نسل شيث.
قال عبد اللّه بن عمر: إنا لنجد إبن آدم القاتل يقاسم أهل النار العذاب قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم.
الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن مسروق بن عبد اللّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتل نفس مسلمة ظلمًا إلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمه، لأنه أوّل من سنّ القتل».
مسلم بن عبد اللّه عن سعيد بن صور عن أنس بن مالك قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال: «يوم دم» قالوا: وكيف ذلك يا رسول اللّه؟ قال: «فيه حاضت حوّاء وقتل ابن آدم أخاه».
وعن يحيى بن زهدم قال: حدّثني أبي عن أبيه عن أنس قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «امتن اللّه عز وجل على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث، بالريح بعد الروح فلولا إن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميمًا، وبالدودة في الحبة فلولا أن الدودة تقع في الحبة لأكنزها الملوك وكانت حبًا من الدنانير والدراهم. وبالموت بعد الكبر، فإن الرجل ليكبر حتى يمّل نفسه ويملّه أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أيسر له».
{مِنْ أَجْلِ ذلك} يعني من جرّاء ذلك القاتل ووحشيّته، يقال: أجل فلان يأجل أجلًا، مثل أخذ يأخذ أخذًا.
قال الشاعر:
وأهل خباء صالح ذات بينهم ** قد احتربوا في عاجل أنا آجله

{كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} قتله فسادًا منه {أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض} يعني قوله إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله الآية {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعًا}.
مجاهد: اختلف الناس بينهما فقال ابن عباس: في رواية عكرمة وعطية: من قتل نبيًا وإمامًا عادلًا فكأنما قتل الناس جميعًا ومن عمل على عضد نبي أو إمام عادل {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.
مجاهد: من قتل نفسًا محرّمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا، ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من الناس جميعًا.
السدّي: من قتل فكأنما قتل الناس جميعًا عند المقتول في الإثم ومن أحياها واستنقذها من هلكة من غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك فكأنما أحيا الناس جميعًا عند المستنقذ.
الحسن وابن زيد: فكأنما قتل الناس جميعًا يعني إنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي نوى بقلبه لو كان قتل الناس جميعًا ومن أحياها من عفا عمّن وجب له القصاص منه فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعًا.
قتادة والضحّاك، عظم اللّه قتلها أو عظم وزرها فمعناها من أستحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما قتل الناس جميعًا لأنهم لا يسلمون منه. ومن أحياها فحرمها وتورع من قتلها فكأنما أحيا الناس جميعًا لسلامتهم منه.
وقال سليمان بن علي الربعي: قلت للحسن: يا أبا سعيد هي لنا كما كانت لبني إسرائيل، قال: إي والذي لا إله غيره لإن دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا.
{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ}.
روى محمد بن الفضل عن الزيات بن عمرو عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من سقى مؤمنًا ماءً على ظمأ فكأنما أعتق سبعين رقبة، ومن سقى في غير موطنها فكأنما أحيا نفسًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا». اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال عليه الرحمة:
يأخذ هذا الدرس في بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية. وهي الأحكام المتعلقة بحماية النفس والحياة في المجتمع المسلم المحكوم بمنهج الله وشريعته. وحماية النظام العام وصيانته من الخروج عليه، وعلى السلطة التي تقوم عليه بأمر الله، في ظل شريعة الله؛ وعلى الجماعة المسلمة التي تعيش في ظل الشريعة الإسلامية والحكم الإسلامي. وحماية المال والملكية الفردية في هذا المجتمع، الذي يقوم نظامه الاجتماعي كله على شريعة الله.
وتستغرق هذه الأحكام المتعلقة بهذه الأمور الجوهرية في حياة المجتمع هذا الدرس؛ مع تقدمة لهذه الأحكام بقصة {ابني آدم} التي تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية؛ كما تكشف عن بشاعة الجريمة وفجورها؛ وضرورة الوقوف في وجهها والعقاب لفاعلها؛ ومقاومة البواعث التي تحرك النفس للإقدام عليها.
وتبدو القصة وإيحاءاتها ملتحمة التحامًا قويًا مع الأحكام التالية لها في السياق القرآني. ويحس القارىء المتأمل للسياق بوظيفة هذه القصة في موضعها؛ وبعمق الإيحاء الإقناعي الذي تسكبه في النفس وترسبه؛ والاستعداد الذي تنشئه في القلب والعقل لتلقي الأحكام المشددة التي يواجه بها الإسلام جرائم الاعتداء على النفس والحياة؛ والاعتداء على النظام العام؛ والاعتداء على المال والملكية الفردية؛ في ظل المجتمع الإسلامي؛ القائم على منهج الله؛ المحكوم بشريعته.
والمجتمع المسلم يقيم حياته كلها على منهج الله وشريعته؛ وينظم شؤونه وارتباطاته وعلاقاته على أسس ذلك المنهج وعلى أحكام هذه الشريعة.. ومن ثم يكفل لكل فرد- كما يكفل للجماعة- كل عناصر العدالة والكفاية والاستقرار والطمأنينة، ويكف عنه كل عوامل الاستفزاز والإثارة، وكل عوامل الكبت والقمع، وكل عوامل الظلم والاعتداء، وكل عوامل الحاجة والضرورة. وكذلك يصبح الاعتداء- في مثل هذا المجتمع الفاضل العادل المتوازن المتكافل- على النفس والحياة، أو على النظام العام، أو على الملكية الفردية؛ جريمة بشعة منكرة، مجردة عن البواعث المبررة- أو المخففة- بصفة عامة.. وهذا يفسر التشدد ضد الجريمة والمجرمين بعد تهيئة الظروف المساعدة على الاستقامة عند الأسوياء من الناس؛ وتنحية البواعث على الجريمة من حياة الفرد وحياة الجماعة.. وإلى جانب هذا كله، ومع هذا كله؛ يكفل النظام الإسلامي للمجرم المعتدي كل الضمانات لسلامة التحقيق والحكم؛ ويدرأ عنه الحدود بالشبهات؛ ويفتح له كذلك باب التوبة التي تسقط الجريمة في حساب الدنيا في بعض الحالات، وتسقطها في حساب الآخرة في كل الحالات.
وسنرى نماذج من هذا كله في هذا الدرس، وفيما تضمنه من أحكام.
ولكن قبل أن نأخذ في المضي مع السياق وفي الحديث المباشر عن هذه الأحكام التي تضمنها لابد أن نقول كلمة عامة؛ عن البيئة التي تنفذ فيها هذه الأحكام؛ والشروط التي تجعل لها قوة النفاذ.
إن هذه الأحكام الواردة في هذا الدرس- سواء فيما يتعلق بالاعتداء على النفس أو الاعتداء على النظام العام؛ أو الاعتداء على المال- شأنها شأن سائر الأحكام الواردة في الشريعة، في جرائم الحدود؛ والقصاص؛ والتعازيز.. كلها إنما تكون لها قوة التنفيذ في «المجتمع المسلم» في «دار الإسلام».. ولابد من بيان ما تعنيه الشريعة بدار الإسلام:
ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما:
الأول: «دار الإسلام».. وتشمل كل بلد تطبق فيه أحكام الإسلام، وتحكمه شريعة الإسلام، سواء كان أهله كلهم مسلمين، أو كان أهله مسلمين وذميين. أو كان أهله كلهم ذميين ولكن حكامه مسلمون يطبقون فيه أحكام الإسلام، ويحكمونه بشريعة الإسلام. أو كانوا مسلمين، أو مسلمين وذميين ولكن غلب على بلادهم حربيون، غير أن أهل البلد يطبقون أحكام الإسلام ويقضون بينهم حسب شريعة الإسلام.. فالمدار كله في اعتبار بلد ما «دار إسلام» هو تطبيقه لأحكام الإسلام وحكمه بشريعة الإسلام..
الثاني: دار الحرب. وتشمل كل بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام، ولا يحكم بشريعة الإسلام.. كائنًا أهله ما كانوا.. سواء قالوا: إنهم مسلمون، أو إنهم أهل كتاب، أو إنهم كفار، فالمدار كله في اعتبار بلد ما «دار حرب» هو عدم تطبيقه لأحكام الإسلام وعدم حكمه بشريعة الإسلام، وهو يعتبر «دار حرب» بالقياس للمسلم وللجماعة المسلمة.
والمجتمع المسلم، هو المجتمع الذي يقوم في دار الإسلام بتعريفها ذاك.
وهذا المجتمع القائم على منهج الله، المحكوم بشريعته، هو الذي يستحق أن تصان فيه الدماء، وتصان فيه الأموال؛ ويصان فيه النظام العام؛ وأن توقع على المخلين بأمنه، المعتدين على الأرواح والأموال فيه العقوبات التي تنص عليها الشريعة الإسلامية، في هذا الدرس وفي سواه.. ذلك أنه مجتمع رفيع فاضل؛ ومجتمع متحرر عادل؛ ومجتمع مكفولة فيه ضمانات العمل وضمانات الكفاية لكل قادر ولكل عاجز؛ ومجتمع تتوافر فيه الحوافز على الخير وتقل فيه الحوافز على الشر من جميع الوجوه. فمن حقه إذن على كل من يعيش فيه أن يرعى هذه النعمة التي يسبغها عليه النظام؛ وأن يرعى حقوق الآخرين كلها من أرواح وأموال وأعراض وأخلاق؛ وأن يحافظ على سلامة «دار الإسلام» التي يعيش فيها آمنًا سالمًا غانمًا مكفول الحقوق جميعًا، معترفًا له بكل خصائصه الإنسانية، وبكل حقوقه الاجتماعية- بل مكلفًا بحماية هذه الخصائص والحقوق- فمن خرج بعد ذلك كله على نظام هذه الدار- دار الإسلام- فهو معتد أثيم شرير يستحق أن يؤخذ على يده بأشد العقوبات؛ مع توفير كل الضمانات له في أن لا يؤخذ بالظن، وأن تدرأ عنه الحدود بالشبهات.