فصل: من فوائد الخازن في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي أبو محمد: يريدون أن القاطع في المصر يلزمه حد ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك والحرابة رتب أدناها إخافة الطريق فقط لكنها توجب صفة الحرابة، ثم بعد ذلك أن يأخذ المال مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يقتل مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يجمع ذلك كله، فقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: في أي رتبة كان المحارب من هذه الرتب فالإمام مخير فيه في أن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات، واستحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقوبات.
قال القاضي أبو محمد: لاسيما إن كانت زلة ولم يكن صاحب شرور معروفة، وأما إن قتل فلابد من قتله، وقال ابن عباس رضي الله عنه والحسن وأبو مجلز وقتادة وغيرهم من العلماء بل لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب، فمن أخاف الطرق فقط فعقوبته النفي، ومن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته القطع من خلاف. ومن قتل دون أخذ مال فعقوبته القتل، ومن جمع الكل قتل وصلب، وحجة هذا القول أن الحرابة لا تخرج عن الإيمان ودم المؤمن حرام إلا بإحدى ثلاث: ارتداد أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس، فالمحارب إذا لم يقتل فلا سبيل إلى قتله، وقد روي عن ابن عباس والحسن أيضًا وسعيد بن المسيب وغيرهم مثل قول مالك: إن الإمام مخير، ومن حجة هذا القول أن ما كان في القرآن «أو. أو»، فإنه للتخيير، كقوله تعالى: {ففدية من صيام أوصدقة أو نسك} [البقرة: 196] وكآية كفارة اليمين وآية جزاء الصيد.
قال القاضي أبو محمد: ورجح الطبري القول الآخر وهو أحوط للمفتي ولدم المحارب وقول مالك أسد للذريعة وأحفظ للناس والطرق، والمخيف في حكم القاتل ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العقوبات استحسانًا، وذكر الطبري عن أنس بن مالك أنه قال سأل رسول الله جبريل عليهما السلام عن الحكم في المحارب، فقال: من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ، ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله، ومن جمع ذلك فاصلبه.
قال القاضي أبو محمد: وبقي النفي للمخيف فقط، وقوله تعالى: {يحاربون الله} تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة، وقيل التقدير يحاربون عباد الله، ففي الكلام حذف مضاف، وقوله تعالى: {ويسعون في الأرض فسادًا} تبيين للحرابة أي: ويسعون بحرابتهم، ويحتمل أن يكون المعنى ويسعون فسادًا منضافًا إلى الحرابة، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة، وقرأ الجمهور {يقتّلوا}، {يصلّبوا}، {تقطّع} بالتثقيل في هذه الأفعال للمبالغة والتكثير، والتكثير هنا إنما هو من جهة عدد الذين يوقع بهم كالتذبيح في بني إسرائيل في قراءة من ثقل {يذبّحون} وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن {يقتلوا}، {ويصلبوا}، {تقطع} بالتخفييف في الأفعال الثلاثة، وأما قتل المحارب فبالسيف ضربة العنق، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالًا لغيره، وهذا قول الشافعي، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حيًا ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقى العقب واختلف العلماء في النفي فقال السدي: هو أن يطلب أبدًا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدّ الله ويخرج من دار الإسلام، وروي عن ابن عباس أنه قال: نفيه أن يطلب وقاله أنس بن مالك، وروي ذلك عن الليث ومالك بن أنس غير أن مالكًا قال: لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك، وقال سعيد بن جبير: النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك، وقالت طائفة من العلماء منهم عمر بن عبد العزيز: النفي في المحاربين أن ينفوا من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد، وقال الشافعي: ينفيه من عمله، وقال أبو الزناد: كان النفي قديمًا إلى دهلك وباضع وهما من أقصى اليمن، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة: النفي في المحاربين السجن فذلك إخراجهم من الأرض.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن {الأرض} في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديمًا الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدر، نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحًا، وهذا هو صريح مذهب مالك: أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الراجح لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإذا تاب وفهم حاله سرح.
وقوله تعالى: {ذلك لهم خزي} إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذابًا عظيمًا مع العقوبة في الدنيا، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم، «فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو له كفارة».
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب، والخزي في هذه الفضيحة والذل والمقت. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} قال ابن عباس نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخيَّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن يشأ يقتل وإن يشأ يصلب وإن يشأ يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهذا قول الضحاك أيضًا.
وقال الكلبي: نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن يعينه ولا يعين عليه ومن مر بهلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم هلال ولم يكن هلال شاهدًا فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم بهذه الآية.
وقال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في قوم من عرينة وعكل أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فاستوخموا المدينة، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل (ق).
عن أنس بن مالك أن ناسًا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في أثرهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم.
قال قتادة بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة.
زاد في رواية قال قتادة: فحدثني ابن سيرين إن ذلك قبل إن تزول الحدود.
وفي رواية للبخاري أن ناسًا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الرعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وتركهم في الحرة يعضون الحجارة.
زاد في رواية: قال أبو قلابة وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء ارتدوا عن الإسلام وقتلوا وسرقوا، وفي رواية أبي داود إن قومًا من عكل أو قال من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله زاد في رواية له.
أنزل الله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا} الآية.
شرح غريب هذا الحديث وحكمه قوله إنا كنا أهل ضرع يعني، أهل ماشية وبادية نعيش باللبن ولسنا من أهل المدن.
والريف هو الأرض التي فيها زرع وخصب والجمع أرياف.
قوله: استوخموا المدينة أنها لم توافق مزاجهم وكذا قوله: ناجتووا المدينة وهو معناه والذود من الأبل ما بين الثلاثة إلى العشرة والحرة هي أرض ذات حجارة سود وهي هنا اسم لأرض بظاهر المدينة معروفة.
وقوله: فسمر أعينهم، معناه أنه حمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب بصرها.
وقوله: وينهى عن المثلة، أن تقطع أطراف الحيوان وتشوه خلقته ومثلة القتيل أن يقطع أنفه وأذنيه ومذاكيره ونحو ذلك.
واختلف العلماء في حكم هذا الحديث فقيل: هو منسوخ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة.
وقيل: حكمه ثابت غير السمل والمثلة.
وقيل: إن هذه الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهم.
وقيل: كان ذلك قبل أن تنزل الحدود، فلما نزلت الحدود وجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها.
وقيل: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمًا من الله تعالى إياه عقوبتهم وما يجب عليهم فقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} واعلم أن المحاربة لله غير ممكنة وفي معناها للعلماء قولان: أحدهما أن المحاربين لله هم المخالفون أمره الخارجون عن طاعته لأن كل من خالف أمر إنسان فهو حرب له فيكون المعنى يخالفون الله ورسوله ويعصون أمرهما.
والقول الثاني: معناه يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله فهو من باب حذف المضاف {ويسعون في الأرض فسادًا} يعني بحمل السلاح والخروج على الناس وقتل النفس وأخذ الأموال وقطع الطريق.
واختلفوا في حكم هؤلاء المحاربين الذين يستحقون هذا الحد فقال قوم: هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح والمكابرون في البلد وهذا قول قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة: المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذا الحد ثم ذكر الله تعالى عقوبة هؤلاء المحاربين وما يستحقونه فقال تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} وللعلماء في لفظة أو المذكورة في هذه الآية قولان: أحدهما أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية عنه وبه قال الحسن وسعيد بن المسيب والنخعي ومجاهد، وهو أن الإمام مخير في أمر المحاربين فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى من الأرض كما هو ظاهر الآية.
والقول الثاني: أن لفظة أو للبيان وليست للتخيير وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وهو قول أكثر العلماء لأن الأحكام تختلف فترتبت هذه العقوبات على تريتب الجرائم.
وهذا كما روي عن ابن عباس في قطاع الطريق قال: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا لم يأخذوا المال قتلوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض، وهذا قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي.
واختلفوا في كيفية الصلب فقيل: يصلب حيًا ثم يطعن في بطنه برمح حيت يموت.
قال الشافعي: يقتل أولًا ويصلى عليه ثم يصلب.
وإنما يجمع بين القتل والصلب إذا قتل وأخذ المال ويصلب على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زاجرًا لغيره عن الإقدام على مثل هذه المعصية.
واختلفوا في تفسير النفي من الأرض المذكور في الآية، فقيل: إن الإمام يطلبهم ففي كل بلد وجدوا نفوا عنه وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز.
وقيل: يطلبون حتى تقام عليهم الحدود وهو قول ابن عباس والليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة وأهل الكوفة: النفي هو الحبس لأنه نفي من الأرض لأن المحبوس لا يرى أحدًا من أحبابه ولا ينتفع بلذات الدنيا وطيباتها فهو منفي من الأرض في الحقيقة إلا من تلك البقعة الضيقة التي هو فيها.
قال مكحول: إن عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون يعني من هذه الأمة وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه إلى بلد آخر فيؤذيهم ثم قال تعالى: {ذلك} يعني الذي ذكر في هذه الآية من الحدود {لهم} يعني للمحاربين {خزي في الدنيا} أي عذاب وهوان وفضيحة {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} هذا الوعيد في حق الكفار الذين نزلت الآية فيهم، فأما من أجرى حكم الآية على المحاربين من المسلمين فينفي العذاب العظيم عنهم في الآخرة لأن المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا كانت عقوبته كفارة له وإن لم يعاقب في الدنيا فهو خطر المشيئة، إن شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة، وإن شاء عفا وأدخله هذا مذهب أهل السنة. اهـ.