فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ...} الآية.
فيه خمس عشرة مسألة:
الأُولى: اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية؛ فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العُرَنيين؛ روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك: أن قومًا من عُكْل أو قال من عُرَيْنة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة؛ فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلِقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صَحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النَّعَم؛ فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم خبرهم من أوّل النهار فأرسل في آثارهم؛ فما ارتفع النهار حتى جيء بهم؛ فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسَمَر أعينهم وألقوا في الحرة يَستسقُون فلا يُسقَون.
قال أبو قِلابة: فهؤلاء قوم سَرقوا وقَتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
وفي رواية: فأمر بمسامير فأحميت فكَحَلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حَسَمهم؛ وفي رواية: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأُتي بهم؛ قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا} الآية.
وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يَكْدِمُ الأرض بفيه عطشًا حتى ماتوا.
وفي البخاريّ قال جَرير بن عبد الله في حديثه: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال جَرير: فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النار» وقد حكى أهل التّواريخ والسِّير: أنهم قطعوا يدي الرّاعي ورجليه، وغَرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأُدخل المدينة ميتًا، وكان اسمه يَسار وكان نُوبيًا.
وكان هذا الفعل من المرتدّين سنة ست من الهجرة.
وفي بعض الروايات عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم.
وروي عن ابن عباس والضحاك: أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} إلى قوله: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخِذ منهم قبل أن يُقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الذي أصابه.
وممن قال: إن الآية نزلت في المشركين عِكرمةُ والحسن، وهذا ضعيف يردّه قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقوله عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يَهدِم ما قبله».
أخرجه مسلم؛ والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك.
وقال مالك والشافعيّ وأبو ثور وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد.
قال ابن المنذِر: قول مالك صحيح، قال أبو ثور محتجًا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك؛ وهو قوله جل ثناؤه: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دِماءهم تحرم؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام.
وحكى الطبريّ عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية نَسخَت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العُرنَيين، فوقف الأمر على هذه الحدود.
وروى محمد بن سِيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود؛ يعني حديث أنس؛ ذكره أبو داود.
وقال قوم منهم الليث بن سعد: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عُرَيْنة نُسِخ؛ إذ لا يجوز التمثيل بالمرتدّ.
قال أبو الزِّنَاد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قَطَع الذين سَرقوا لِقاحه وسَمَل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك؛ فأنزل الله تعالى في ذلك {إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا} الآية.
أخرجه أبو داود.
قال أبو الزِّناد: فلما وُعِظ ونُهي عن المُثْلة لم يَعُد.
وحكى عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل؛ لأن ذلك وقع في مرتدّين، لاسيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال: إنما سَمَل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أُولئك لأنهم سَمَلوا أعين الرّعاة؛ فكان هذا قِصاصًا، وهذه الآية في المحارب المؤمن.
قلت: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعيّ؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة.
والمرتدّ يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة ولا يُنفى ولا تُقطع يده ولا رجله ولا يُخلَّى سبيله بل يقتل إن لم يُسلِم، ولا يصلب أيضًا؛ فدل أنّ ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتدّ.
وقال تعالى في حق الكفار: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} وقال في المحاربين: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} الآية؛ وهذا بيّن.
وعلى ما قرّرناه في أوّل الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب؛ قال الله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فَمَثَّلُوا فمُثِّل بهم، إلاّ أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير مُحْماة وتركهم عَطَاشى حتى ماتوا، والله أعلم.
وحكى الطبريّ عن السُّديّ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَسْمُل أعين العُرَنيين وإنما أراد ذلك؛ فنزلت الآية ناهية عن ذلك، وهذا ضعيف جدًا؛ فإن الأخبار الثابتة وردت بالسَّمْل؛ في صحيح البخاريّ: فأمر بمسامير فأُحميت فَكَحلهم.
ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود.
وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} استعارة ومجاز؛ إذ الله سبحانه وتعالى لا يُحَارَبَ ولا يُغالَب لِما هو عليه من صفات الكمال، ولِما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد.
والمعنى: يحاربون أولياء الله؛ فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارًا لإذايتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] حَثًّا على الاستعطاف عليهم؛ ومثله في صحيح السنة: «استطعمتك فلم تُطْعِمني» الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدّم في «البقرة».
الثانية واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة؛ فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في بَرِّيَّة وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذَحْل ولا عداوة؛ قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسئلة، فأثبت المحاربة في المِصْر مرةً ونفى ذلك مرة؛ وقالت طائفة: حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة؛ وهذا قول الشافعي وأبي ثور؛ قال ابن المنذر: كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يُخْرِج من جملة الآية قومًا بغير حُجّة.
وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجًا عن المصر؛ هذا قول سُفيان الثَّوريّ وإسحاق والنعمان.
والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يُشْهر السّلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدًّا لا قَوَدًا.
الثالثة واختلفوا في حكم المحارب؛ فقالت طائفة: يقام عليه بقدر فعله؛ فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خِلاف، وإن أَخَذ المال وقَتَل قُطعت يده ورجله ثم صُلب، فإذا قَتَل ولم يأخذ المال قُتِل، وإن هو لم يأخذ المال ولم يَقتل نُفِي؛ قاله ابن عباس، ورُوي عن أبي مِجْلَز والنَّخَعيّ وعطاء الخَرَاسانيّ وغيرهم.
وقال أبو يوسف: إذا أَخَذ المال وقَتَل صُلب وقُتل على الخشبة؛ قال الليث: بالحربة مصلوبًا.
وقال أبو حنيفة: إذا قَتَل قُتِل، وإذا أَخَذ المال ولم يَقتل قُطعت يده ورجله من خِلاف، وإذا أخذ المال وقَتَل فالسلطانُ مخيّر فيه، إن شاء قَطع يده ورجله وإن شاء لم يَقطع وقَتله وصلبه؛ قال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء.
ونحوه قول الأُوزاعيّ.
وقال الشافعي: إذا أخذ المال قُطعت يده اليمنى وحُسِمت، ثم قُطعت رجله اليسرى وحُسِمت وخُلّي؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قَتَل قُتل، وإذا أَخَذ المال وقَتَل قُتِل وصُلب؛ ورُوي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام؛ قال: وإن حَضَر وكَثَّر وهِيب وكان رِدءًا للعدوّ حُبس.
وقال أحمد: إن قَتل قُتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعيّ.
وقال قوم: لا ينبغي أن يُصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب؛ وحُكي عن الشافعي: أكْرَهُ أن يقتل مصلوبًا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُثْلة.
وقال أبو ثور: الإمام مخيَّر على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مَرْويّ عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحّاك والنَّخَعيّ كلهم قال: الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية؛ قال ابن عباس: ما كان في القرآن «أو» فصاحبه بالخيار؛ وهذا القول أشعر بظاهر الآية؛ فإن أهل القول الأول الذين قالوا إنّ «أو» للترتيب وإن اختلفوا فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدّين فيقولون: يُقتل ويُصلب؛ ويقول بعضهم: يُصلب ويقتل؛ ويقول بعضهم: تُقطع يده ورجله ويُنفى؛ وليس كذلك الآية ولا معنى «أو» في اللغة؛ قاله النحاس.
واحتج الأولون بما ذكره الطبريّ عن أنس بن مالك أنه قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال: «من أخاف السبيل وأخذَ المال فاقطع يَده للأخذ ورجله للإخافة ومن قَتَل فاقتله ومن جمع ذلك فاصلبه» قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا.
الرابعة قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} اختلف في معناه؛ فقال السديّ: هو أن يُطلب أبدًا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدّ الله، أو يَخرج من دار الإسلام هربًا ممن يطلبه؛ عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسديّ والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والرّبيع بن أنس والزهريّ.