فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ} الآية: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية قال من شهر السلاح في قبَّة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.
وكذا قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النَّخَعي، والضحاك. وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير، وحكي مثله عن مالك بن أنس، رحمه الله. ومستند هذا القول أن ظاهر «أو» للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن، كقوله في جزاء الصيد: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] وقوله في كفارة الترفه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وكقوله في كفارة اليمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]. وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي رحمه الله أنبأنا إبراهيم- هو ابن أبي يحيى- عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قَتَلوا وأخذوا المال قُتلوا وصلبوا، وإذا قَتَلوا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض.
وقد رواه ابن أبي شَيْبَة، عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية، عن ابن عباس، بنحوه. وعن أبي مجلز، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وعطاء الخُراساني، نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة.
واختلفوا: هل يُصْلَب حيا ويُتْرَك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح ونحوه، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل، أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وبالله الثقة وعليه التكلان.
ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره- إن صح سنده- فقال:
حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب؛ أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس [بن مالك] يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره: أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرَنِيِّين- وهم من بَجِيلة- قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، عليه السلام، عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام، فاصلبه.
وأما قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ} قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام.
رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس.
وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية، وقال الشعبي: ينفيه- كما قال ابن هبيرة- من عمله كله. وقال عطاء الخراساني: ينفى من جُنْد إلى جند سنين، ولا يخرج من أرض الإسلام.
وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان: إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام.
وقال آخرون: المراد بالنفي هاهنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير: أن المراد بالنفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
وقوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: هذا الذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم- خزْي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا قد يتأيد به من ذهب إلى أن هذه الآية نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام فقد ثبت في الصحيح عند مسلم، عن عبادة بن الصامت قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: ألا نشرك بالله شيئًا: ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه بعضنا بعضًا، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمْرُه إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أذنب ذنبًا في الدنيا، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه».
رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: «حسن غريب». وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث، فقال: روي مرفوعًا وموقوفًا، قال: ورفعه صحيح.
وقال ابن جرير في قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} يعني: شَرٌّ وعَارٌ ونَكَالٌ وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا- في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها- {عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني: عذاب جهنم. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا...} الآية.
تخلُّص إلى تشريع عقاب المحاربين، وهم ضرب من الجُناة بجناية القتل.
ولا علاقة لهذه الآية ولا الّتي بعدها بأخبار بني إسرائيل.
نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العُرنيّين، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التّفسير، وأخرج عَقِبه حديث أنس بن مالك في العُرنيّينَ.
ونصّ الحديث من مواضع من صحيحه: «قدم على النّبيء صلى الله عليه وسلم نَفَر من عُكْلٍ وَعُرَيْنَة فأسلموا ثمّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوْخَمْنَا هذه الأرض، فقال لهم: هذه نَعَم لنا فاخْرُجوا فيها فاشرَبوا ألبانها وأبوالها» فخرجوا فيها فَشَرِبُوا من أبوالها وألبانها واستَصَحُّوا، فَمَالوا على الرّاعي فقتلوه واطَّرَدُوا الذّوْد وارتَدّوا.
فبعث رسول الله في آثارهم، بعث جريرَ بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم، فما تَرَجَّل النّهار حتّى جِيء بهم، فأمر بهم، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وَسُمِلَتْ أعْيُنُهم بمسامير أحميت، ثُمّ حبَسهم حتّى ماتوا.
وقيل: أمر بهم فأُلْقُوا في الحرّة يستسْقُون فما يُسقَوْن حتَّى ماتُوا.
قال جماعة: وكان ذلك سنة ستّ من الهجرة، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة.
نقل ذلك مَوْلى ابنِ الطلاع في كتاب «الأقضيَة المَأثورة» بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين، وعلى هذا يكون نزولها نسخًا للحَدّ الّذي أقامَه النّبيء صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وَحي أم عن اجتهادٍ منه، لأنّه لمّا اجتهد ولم يغيّره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرّر به شرع.
وإنّما أذن الله له بذلك العقاب الشّديد لأنّهم أرادوا أن يكونُوا قدوة للمشركين في التحيّل بإظهار الإسلام للتوصّل إلى الكيد للمسلمين، ولأنّهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة.
قال أبو قِلابة: فماذا يُستبقى من هؤلاء قَتلوا النّفس وحاربوا الله ورسولَه وخوّفوا رسولَ الله.
وفي رواية للطبري: نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض.
رواه عن ابن عبّاس والضحّاك.
والصّحيح الأوّل.
وأيّاما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية.
فالحصر بـ {إنّما} في قوله: {إنّما جزاء الّذين يحَاربُون} الخ على أصحّ الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الّذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العُرَنِيّين، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عبّاس فالحصر أن لا جزاء لهم إلاّ ذلك، فيكون المقصود من القصر حينئذٍ أن لا يُنقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور الأربعة.
وقد يكون الحصر لردّ اعتقادٍ مُقدّر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التّخفيف منه.
وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلًا.
وأيَّامًّا كان سبب النزول فإنّ الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها، لأنّ الحصر يفيد تأكيد النسبة.
والتّأكيد يصلح أن يعدّ في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنّه يجعل الحكم جازمًا.
ومعنى {يحاربون} أنّهم يكونون مقاتلين بالسّلاح عُدوانًا لقصد المغنم كشأن المحارب المبادي، لأنّ حقيقة الحرب القتال.
ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه، وقد عُلم أنّ الله لا يحارِبه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنّها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بمحاربَة الرّسول الاعتداء على حكمه وسلطانه، فإنّ العرنيّين اعتدوا على نَعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتّخذة لتجهيز جيوش المسلمين، وهو قد امتنّ عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرّسول العرنيّين كان عقابًا على محاربة خاصّة هي من صريح البغض للإسلام.
ثُمّ إنّ الله شرع حكمًا للمحاربة الّتي تقع في زمن رسول الله وبعده، وسوّى عقوبتها، فتعيّن أن يصير تأويل {يحاربون الله ورسوله} المحاربة لجماعة المسلمين.
وجعل لها جزاء عين جزاء الردّة، لأنّ الردّة لها جزاء آخر فعلمنا أنّ الجزاء لأجل المحاربة.
ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفّار الّذين حاربوا الرّسول لأجل عناد الدّين، فلهذا المعنى عُدّي {يحاربون} إلى {الله ورسوله} ليظهر أنّهم لم يَقصدوا حربَ معيَّن من النّاس ولا حرب صَفّ.
وعُطف {ويسعون في الأرض فسادًا} لبيان القصدِ من حربهم اللّهَ ورَسوله، فصار الجزتء على مجموع الأمرين، فمجمُوعُ الأمرين سَبَب مركّب للعقوبة، وكلّ واحد من الأمرين جزءُ سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها.
وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة؛ فقال مالك: هي حمل السلاح على النّاس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخَل ولا عداوة أي بين المحارب بالكسر وبين المحارَب بالفتح، سواء في البادية أو في المِصر، وقال به الشّافعي وأبو ثور.
وقيل: لا يكون المحارب في المصر محارِبًا، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق.
والّذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة، والّذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر.
وقد كانت نزلت بتونس قضية لصّ اسمه «ونّاس» أخاف أهل تونس بحيله في السرقة، وكان يحمل السّلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقًا بباب سويقة.
ومعنى {يسعون في الأرض فسادًا} أنّهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه، لأنّ السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللَّمّ، قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} [الإسراء: 19].
ويقولون: سعَى فلان لأهله، أي اكتسب لهم، وقال تعالى: {لتجزي كُلّ نفس بما تسعى}[طه: 15].
وصاحب الكشاف جعله هنا بمعنى المشي، فجعل {فسادًا} حالًا أو مفعولًا لأجله، ولقد نظر إلى أنّ غالب عمل المحارب هو السعي والتنقّل، ويكون الفعل منزّلًا منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله.