فصل: من فوائد الشوكاني في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجَوّز أن يكون سعَى بمعنى أفسد، فَجَعل {فسادًا} مفعولًا مطلقًا.
ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد.
والفساد: إتلاف الأنفس والأموال، فالمحارب يقتل الرجل لأخذ ما عليه من الثّياب ونحو ذلك.
و{يُقتّلوا} مبالغة في يُقْتلوا، كقول امرىء القيس:
في أعشار قَلْببٍ مُقَتَّل

قُصِد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديدًا عليهم، وكذلك الوجه في قوله: {يُصَلَّبوا}.
والصّلب: وضع الجاني الّذي يُراد قتله مشدودًا على خشبة ثُمّ قتله عليها طَعنًا بالرّمح في موضع القتل.
وقيل: الصّلب بَعْد القتل.
والأول قول مالك، والثّاني مذهب أشهب والشّافعي.
و{مِنْ} في قوله: {مِن خلاف} ابتدائية في موضع الحال من {أيديهم وأرجلُهم}، فهي قيد للقطع، أي أنّ القطع يبتدىء في حال التخالف، وقد علم أنّ المقطوع هو العضو المُخالف فتعيّن أنّه مخالِف لمقطوععٍ آخر وإلاّ لم تتصوّر المخالفة، فإذا لم يكن عضو مقطوعٌ سابقٌ فقد تعذّر التخالف فيكون القطع للعضو الأوّل آنفًا ثُمّ تجري المخالفَةُ فيما بعدُ.
وقد علم من قوله: {من خلاف} أنّه لا يقطع من المحارب إلاّ يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه؛ لأنّه لو كان كذلك لم يتصوّر معنى لكون القطع من خلاف.
فهَذا التّركيب من بديع الإيجاز.
والظاهر أنّ كون القطع مِن خلاف تيسير ورحمة، لأنّ ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأنّ يتوكّأ باليد الباقية على عُود بجهة الرّجل المقطوعة.
قال علماؤنا: تقطع يده لأجل أخذ المال، ورجلُه للإخافة؛ لأنّ اليد هي العضو الّذي به الأخذ، والرّجل هي العضو الّذي به الإخافة، أي المشي وراء النّاس والتعرّض لهم.
والنّفي من الأرض: الإبعاد من المكان الّذي هو وطنه لأنّ النّفي معناه عدم الوجود.
والمراد الإبعاد، لأنّه إبعاد عن القوم الّذين حاربوهم.
يقال: نفوا فلانًا، أي أخرجوه من بينهم، وهو الخليع، وقال النّابغة:
ليُهنىء لكم أنْ قَدْ نَفَيْتُم بُيُوتنا

أي أقصيتمونا عن دياركم.
ولا يعرف في كلام العرب معنى للنّفي غير هذا.
وقال أبو حنيفة وبعض العلماء: النّفي هو السجن.
وحمَلهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عنْ قوم كانَ فيهم بتسليط ضُرّه على قوم آخرين.
وهو نظر يَحمل على التّأويل، ولكن قد بيّن العلماء أنّ النّفيَ يحصل به دفع الضرّ لأنّ العرب كانوا إذا أخرج أحد من وظنه ذُلّ وخُضدت شوكته، قال امرؤ القيس:
به الذئْب يعوي كالخليع المُعَيَّل

وذلك حال غير مختصّ بالعرب فإنّ للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده.
على أنّ من العلماء من قال: ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور.
قال أبو الزناد: كان النّفي قديمًا إلى «دَهْلَكَ» وإلى «بَاضِع» وهما جزيرتان في بحر اليمن.
وقد دلّت الآية على أمرين: أحدهما: التخيير في جزاء المحاربين؛ لأنّ أصل «أو» الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير، نحو {ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك} [البقرة: 196].
وقد تمسّك بهذا الظّاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس، وسعيدُ بن المسيّب، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، وأبو حنيفة، والمرويّ عن مالك أنّ هذا التخيير لأجل الحرابة، فإن اجترح في مدّة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذَ بأشدّ العقوبة كالقتل؛ قُتل دون تَخيير، وهو مُدرك واضح.
ثُمّ ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مُقامه في فساده.
وذهب جماعة إلى أنّ «أو» في الآية للتّقسيم لا للتخيير، وأنّ المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب: فمن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن لم يَقتل ولا أخذَ مالًا عُزّر، ومن أخاف الطريق نُفي، ومن أخذ المال فقط قطع، وهو قول ابن عبّاس، وقتادة، والحسن، والسديّ، والشافعي.
ويقرب خلافهم من التّقارب.
والأمر الثّاني: أنّ هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من النّاس، كما دلّ على ذلك قوله بعدُ {إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تَقدروا عليهم} الآية وهو بيّن.
ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة.
وقوله: {ذلك لهم خِزي في الدّنيا}، أي الجزاء خزي لهم في الدّنيا.
والخزي: الذلّ والإهانة {ولا تُخزنا يوم القيامة} [آل عمران: 194].
وقد دلّت الآية على أنّ لهؤلاء المحاربين عقابين: عقابًا في الدّنيا وعقابًا في الآخرة.
فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعُرنيّين، كما قيل به، فاستحقاقهم العذابين ظاهر، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارِضة لما ورد في الحديث الصّحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمّنته آية {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} [الممتحنة: 12] الخ فقال: «فَمَن وفَى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئًا فستره الله فهْوَ إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له» فقوله: فهو كفارة له، دليل على أنّ الحدّ يسقط عقاب الآخرة، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظًا على المحاربين بأكثر من أهل بقيّة الذنوب، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل، أي لهم خزي في الدنيا إن أُخِذوا به، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدّنيا. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
قوله: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ}.
قد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية؛ فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين، وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: لأنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد.
قال ابن المنذر: قول مالك صحيح.
قال أبو ثور محتجًا لهذا القول: إن قوله في هذه الآية: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} يدلّ على أنها نزلت في غير أهل الشرك؛ لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام انتهى.
وهكذا يدلّ على هذا قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما قبله» أخرجه مسلم وغيره، وحكى ابن جرير الطبري في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية: أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، ووقف الأمر على هذه الحدود.
وروى عن محمد بن سيرين أنه قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود: يعني فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين وبهذا قال جماعة من أهل العلم.
وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ، وسيأتي سياق الروايات الواردة في سبب النزول.
والحق أن هذه الآية تعمّ المشرك وغيره لمن ارتكب ما تضمنته، ولا اعتبار بخصوص السبب، بل الاعتبار بعموم اللفظ.
قال القرطبي في تفسيره: ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، وإن كانت نزلت في المرتدين، أو اليهود انتهى.
ومعنى قوله مترتب: أي ثابت.
قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية: هي محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربة المسلمين في عصره، ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول، فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر؛ وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكبارًا لحربهم وتعظيمًا لأذيتهم، لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب.
والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه: بمعاصيه ومخالفة شرائعه، ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي، وحكم أمته حكمه وهم أسوته.
والسعي في الأرض فسادًا، يطلق على أنواع من الشرّ كما قدمنا قريبًا.
قال ابن كثير في تفسيره: قال كثير من السلف منهم سعيد ابن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال تعالى: {وَإِذَا تولى سعى في الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205]. انتهى.
إذا تقرر لك ما قررناه، من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فسادًا، فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، في مصر وغير مصر، في كل قليل وكثير، وجليل وحقير، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أيّ ذنب من الذنوب، بل من كان ذنبه هو التعدّي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله، أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك، ولا يجرى عليه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية، وبهذا تعرف ضعف ما روى عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لهما حكم غير هذا الحكم.
وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية، على مقتضى لغة العرب التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها، فإياك أن تغترّ بشيء من التفاصيل المروية، والمذاهب المحكية، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب، فأنت وذاك اعمل به، وضعه في موضعه، وأما ما عداه:
فدع عنك نهبًا صيح في حجراته ** وهات حديثا ما حديث الرواحل

على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه.
اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة؛ فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب، ومجاهد وعطاء والحسن البصري، وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور: إن من شهر السلاح في قبة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.
وبهذا قال مالك، وصرّح بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر أو في بريّة، أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة.
قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرّة، ونفى ذلك مرة.
وروي عن ابن عباس غير ما تقدّم، فقال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض.