فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا...} الآية.
الأظهر أنّ هذه الجملة متّصلة بجملة {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: 33] اتّصال البيان؛ فهي مبيّنة للجملة السابقة تهويلًا للعذاب الّذي توعّدهم الله به في قوله: {ذلك لهم خزي في الدّنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: 33] فإنّ أولئك المحاربين الّذين نزلت تلك الآية في جزائهم كانوا قد كفروا بعد إسلامهم وحاربوا الله ورسوله، فلمّا ذكر جزاؤهم عقّب بذكر جزاء يَشملهم ويشمل أمثالهم من الّذين كفروا وذلك لا يناكد كون الآية للسابقة مرادًا بها ما يشتمل أهل الحرابة من المسلمين.
والشرط في قوله: {لَوْ أنّ لَهُمْ مَا في الأرض} مقدّر بفعل دلّت عليه «أن»، إذ التّقدير: لو ثبت ما في الأرض مِلكًا لهم؛ فإنّ {لَوْ} لاختصاصها بالفعل صحّ الاستغناء عن ذكره بعدها إذا وردت «أن» بعدها.
وقوله: {ومثلَه معه} معطوف على {ما في الأرض}، ولا حاجة إلى جعله مفعولًا معه للاستغناء عن ذلك بقوله: {معه}.
واللام في {ليفتدوا به} لتعليل الفعل المقدّر، أي لو ثبت لهم ما في الأرض لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه أو يهبوه.
وأفرد الضمير في قوله: {به} مع أنّ المذكور شيئان هما: {ما في الأرض} {ومثلَه}: إمّا على اعتبار الضّمير راجعًا إلى {ما في الأرض} فقط، ويكون قوله: {ومثلَه معه} معطوفًا مقدّمًا من تأخير.
وأصل الكلام لو أنّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثلَه معه.
ودلّ على اعتباره مقدّمًا من تأخير إفراد الضّمير المجرور بالباء.
ونكتة التّقديم تعجيل اليأس من الافتداء إليهم ولو بمضاعفة ما في الأرض.
وإمَّا، وهو الظاهر عندي، أن يكون الضّمير عائدًا إلى {مثله معه}، لأنّ ذلك المثل شمل ما في الأرض وزيادة فلم تبق جدوى لفرض الافتداء بما في الأرض لأنّه قد اندرج في مثله الذي معه.
ويجوز أن يُجرى الضّمير مجرى اسم الإشارة في صحّة استعماله مفردًا مع كونه عائدًا إلى متعدّد على تأويله بالمذكور؛ وهذا شائع في اسم الإشارة كقوله تعالى: {عوان بين ذلك} [البقرة: 68] أي بين الفارض والبكر، وقوله: {ومن يفعل ذلك يَلْق أثامًا} [الفرقان: 68] إشارة ما ذكر من قوله: {والّذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون} [الفرقان: 68]، لأنّ الإشارة صالحة للشيء وللأشياء، وهو قليل في الضّمير، لأنّ صيغ الضّمائر كثيرة مناسبة لِما تعود إليه فخروجها عن ذلك عدول عن أصل الوضع، وهو قليل ولكنّه فصيح، ومنه قوله تعالى: {قُلْ أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم مَن إله غير الله يأتيكم به} [الأنعام: 46] أي بالمذكور.
وقد جعله في الكشاف محمولًا على اسم الإشارة، وكذلك تأوّله رؤبة لمّا أنشد قولَه:
فيها خُطوط من سوادِ وبَلَق ** كأنّه في الجلد توليعُ البَهَق

فقال أبو عبيدة: قلت: لرؤبة إن أردت الخطوط فقُل: كأنَّها، وإن أردتَ السوادَ فقل: كأنّهما، فقال: أردتُ كأنّ ذلكَ وَيْلَكَ.
ومنه في الضّمير قوله تعالى: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا} [النساء: 4].
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {عوان بين ذلك} في سورة البقرة (68). اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)}.
اليومَ- يقبل من الأحباب مثقال ذرة، وغدًا- لا يقبل من الأعداء ملء الأرض ذهبًا، كذا يكون الأمر.
ويقال إفراط العدو في التقرب موجِبٌ للمقت، وتستر الولي في التودد إحكامٌ لأسباب الحب. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ}.
الحق سبحانه تحدث من قبل عن العقوبات والقصاص والتقتيل والتقطيع، ثم ينقلنا من هذا الجو إلى أن نتقي الله ونبتغي إليه الوسيلة ونجاهد في سبيله حتى نفلح، وكان لابد أن يأتي لنا الحق بالمقابل، فالعقاب الذي جاء من قبل كقصاص وقتل هو عقاب دنيوي. ولكن ما سيأتي في الآخرة أدهى وأمرّ. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36].
ولنا أن نتصور الجماعة الكافرة التي تتكبر في الدنيا ويعتلون ويرتفعون بالجبروت، فماذا عن موقفهم يوم القيامة؟. لقد اقمتم الجبروت بقوَّتكم على غيركم، وها هي ذي القُوّة تضيع وتفلت. لقد كانت القوة تعيش معكم في الدنيا بالأسباب الممنوحة من الله لكم. ولم تَضنّ عليكم سُننْ الله أن ترتقوا، وسبحانه قد خلق السُنَن ومن يبحث في أسباب الله، ينلْ نتيجة ما بذل من جهد، لكن ها هوذا يوم القيامة، وها أنتم أولاء تعرفون أن الأسباب ليست ذاتية. وأن قوَّتكم لم تكن إلا عطاءٌ من الله. ها أنتم أولاء أمام المشهد الحيّ، فلو أن ما في الدنيا جميعًا معكم وحتى ولو كان ضعف ما في الدنيا وتريدون أن تقدِّموه فِدْيَةً لكم من عذاب جهنم فالله لا يتقبله، وتلك قِمِّة الخِزْي، ولن يستطيعوا تخليص أنفسهم من عذاب جهنم.
وهذا المشهد يجعل النفس تستشعر أن المسألة ليست لعبًا ولا هزلًا، ولكن هي جِدّ في منتهى الجِدّ. وعلى الإنسان أن يقدِّر العقوبة قبل أن يستلذّ بالجريمة. والذي يجعل النس تستَشري في الإسراف على أنفسهم، أن الواحد منهم يعزل الجريمة عن عقوبة الجريمة. ولو قارن الإنسان قبل أن يسرف على نفسه العقوبة بالجريمة لما ارتكبها. وكذلك الذي يكسل عن الطاعة؛ لو يقارن الطاعة بجزائها لأسرع إليها.
وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نفترض أن إنسانًا في صحراء نظر إلى أعلى الجيل ورأى شجرة تفاح، واسْتَدَلّ على التفاح بأن رأى تُفاحة عَطبة واقعة على الأرض، وقال الرجل لنفسه: هأنذا أرى مصارع الناس؛ فهذا يصعد إلى الجبل فيقع من على حافته. وذلك تهاجمه الذئاب. وثالث يتوه عن الطريق. كل ذلك على أمل أن في الشجرة ثمارًا. ولابد لي من أن أختار الطريق السليم إلى الثمار. والطريق إلى ثمار الدنيا الطاعة لمنهج الله، وهو الطريق إلى ثمار الآخرة.
وأيضًا: الطالب المجتهد الذي يتغلب على النعاس ويتوضأ ويًصلّي ويخرج إلى مدرسته في برد الشتاء ليحصل الدروس. ويعود إلى المنزل لتقدّم له أمه الطعام، ولكنه مشغول بالدرس. إن هذا الشاب يستحضر نتيجة هذا الجُهد؛ لذلك فكل تعب في سبيل التعلُّم صار سهلًا عليه، ولو أهمل ونام ولم يقم مبكرًا إلى المدرسة، وإن استيقظ وخرج من المنزل ليتسكع في الطرقات مع أمثاله؛ يكون في مثل هذه الحالة غير مُقدِّر للنتيجة التي تقوده إليها الصَّعْلَكة.
والعيب في البشر أنهم يعزلون العمل عن نتيجته، ويفصلون بين الجريمة وعقوبته، والطاعة عن ثوابها. إنّنا لو وضعنا النتيجة مقابل العمل لما ارتكب أحد معصية ولا أهمل أحد في طاعة.
ولنا أن نتصور مشهد الجبارين في الدنيا وهم في نار الآخرة، عم بطشوا في الدنيا ونهبوا، ولنفترض أن الواحد منهم قد امتلك كل ما في الدنيا- على الرغم من أنّ هذا مستحيل- وفوق ذلك أخذ مثل ما في الدنيا معه ويريد أن يقدمه افتداء لنفسه من عذاب جهنم فيرفضه الحق منه {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وتلك هي قمة الخزي التي يجب أن يبتعد عنها الإنسان. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قد تقدم الكلام على «أنَّ» الواقعة بعد «لو» على أنَّ فيها مَذْهَبيْن.
و«لَهُمْ» خبر لـ «أنَّ»، و{مَّا فِي الأرض} اسمها، و«جميعًا» توكيد لهُ، أو حال منه و«مِثلَه» في نَصْبِه وجهان:
أحدهما: عطف على اسم «أن» وهو «مَا» الموصولة.
والثاني: أنه منصُوب على المَعِيَّة، وهو رأي الزَّمخْشَرِي، وسيأتي ما يرد على ذلك والجوابُ عنه.
و«معهُ» ظرف واقع موقع الحال.
«واللام» متعلِّقة بالاستِقْرَار الذي تعلَّق به الخبر، وهو «لَهُمْ».
و«به» و«مِنْ عذاب» متعلِّقان بالافْتِدَاء، والضَّمير في «بِهِ» عائدٌ على «مَا» الموصولة، وجيء بالضَّمِير مُفْرَدًا وإن تقدَّمه شَيْئَان وهما {مَّا فِي الأرض} و«مِثْلَهُ»، إما لتلازُمهمَا فهما في حُكْم شيء واحد؛ وإما لأنَّه حذف من الثَّانِي لدلالة ما في الأوَّل عليه، كقوله رحمة الله عليه: [الطويل]
-....... ** فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ

أي: لو أنَّ لهم ما في الأرض لِيَفْتَدُوا به، ومثله معه ليفْتَدُوا به وإما لإجراء الضمير مُجْرَى اسم الإشارة، كقوله: [الرجز]
-.......... ** كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ...

وقال بعضهم: ليفْتَدُوا بذلك المَال.
وقد تقدم في «البقرة».
و«عذاب» بمعنى: تَعْذِيب بإضافته إلى «يَوْم» خرج «يَوْم» عن الظرفية، و«مَا» نَافِية وهي جواب «لَوْ»، وجاء على الأكْثَر من كونِ الجواب النَّفي بغير «لام»، والجملة الامْتِنَاعية في محل رفع خبرًا لـ «إن»، وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ توحيد الضَّمير في «بِهِ» لمَدْرك آخر، وهو أنَّ «الوَاو» في «ومِثْلَهُ» واو «مع» قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين: ويجُوزُ أن تكُونَ الواوُ في «ومِثله» بمعنى «مَعَ» فيتوحد المَرْجُوع إليه.
فإن قُلْتَ: فبم يُنْصب المَفْعُول معه؟.
قلت: بما تسْتَدْعِيه «لَوْ» من الفعل؛ لأن التَّقدير: لو ثبت أنَّ لَهُمْ ما في الأرض، يعني: أنَّ حكم ما قبل المفعُول معه في الخَبَرِ والحَالِ، وعود الضَّمِير حكمه لو لم يكن بعده مفعول معه، تقول: «كُنْتُ وَزَيْدًا كالأخِ» قال الشاعر: [الطويل]
فَكَانَ وَإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ ** عَنِ المَاءِ إذْ لاقَاهُ حَتَّى تَقَدَّدَا

فقال: «كَحَرَّان» بالإفْرَاد ولم يقُلْ: «كحرَّانَيْن»، وتقول: «جَاءَ زَيْدٌ وهنْدًا ضاحِكًا في داره».
وقد اختار الأخْفَشُ أن يُعطى حُكْم المُتَعَاطفين، يعني: فَيطَابق الخبر، والحَال، والضمير له ولما بَعْده، فتقول: «كُنْتُ وَزيْدًا كالأخوين».
قال بعضهم: والصَّحِيح جوازه على قِلِّة.
وقد رد أبُو حيَّان على الزمخشري، وطوَّل معه.