فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



عن عائشة، أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا: ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» وعن عائشة قالت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه فقالوا ما كنا نراك يبلغ به هذا قال لو كانت فاطمة لقطعتها» أخرجه النسائي (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» قال الأعمش: يرون أن بيض الحديد وأن من الحبال ما يساوي دراهم أخرجه البخاري ومسلم، أما السرق الذي يجب عليه القطع، فهو البالغ، العاقل، العلم بتحريم السرقة، فلو كان حديث عهد بالإسلام ولا يعلم أن السرق حرام، فلا قطع عليه.
المسألة الثانية: اختلف العلماء في قدر النصاب الذي يقطع به فذهب أكثر العلماء إلى أنه ربع دينار فإن سرق ربع دينار أو متاعًا قيمته ربع دينار يقطع، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبه قال عمر بن العزيز والأوزاعي والشافعي.
ويدل عليه ما روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا» أخرجاه في الصحيحين وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أنه ثلاثة دراهم أو قيمتها لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا في مجن قيمته ثلاثة دراهم أخرجه الجماعة.
المجن: الترس.
ويروي عن أبي هريرة أن قدر النصاب الذي تقطع به اليد خمسة دراهم وبه قال ابن أبي ليلى لما روي عن أنس قال: قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم وفي رواية قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي.
وقال: الرواية الأولى، أصح.
وذهب قوم إلى أنه لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم يروي ذلك عن ابن مسعود وإليه ذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من قطع في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم أخرجه أبو داود فإذا سرق نصابًا من المال من حرز لا شبهة له فيه قطعت يده اليمنى من الكوع ولا يجب القطع بسرقة ما دون النصاب وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن القدر غير معتبر فيجب القطع في القليل والكثير وكذا الحرز غير معتبر أيضًا عندهم وإليه ذهب داود الظاهري واحتجوا بعموم الآية فإن قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} يتناول اقليل والكثير وسواء سرقة من حرز أو غير حرز.
المسألة الثالثة: الحرز، هو ما جعل للسكنى وحفظ الأموال كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم فيها فكل حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أو مغلق، فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة فإنه ليس بحرز إلا أن يكون عنده من يحفظه أما نباش القبور، فإنه يقطع وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وابو حنيفة: لا قطع عليه، فإن سرق شيئًا من غير حرز كثمر من بستان لا حارس له أو حيوان في برية ولا راعي له أو متاع في بيت منقطع عن البيوت فلا قطع عليه.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال: «من أصاب بفيه منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
وزاد فيه: ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة.
ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة.
قوله: غير متخذ خبنة: بالخاء المعجمة وبعدها باء موحدة من تحت نون وهو ما يحمله الإنسان في حضنه.
وقيل: وما يأخذه من خبنة ثوبه وهو ذيله وأسفله.
والجرين: موضع التمر الذي يجفف فيه مثل البيدر للحنطة.
وروي مالك في الموطأ، عن أبي حسين المكي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن».
هكذا رواه مالك منقطعًا.
وهو رواية من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم فإن هذه الرواية عن أبي حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص قوله: ولا في حريسة الجبل.
من العلماء من يجعل الحريسة السرقة نفسها.
يقال: حرس يحرس حرسًا إذا سرق ومنهم من يجعلها المحروسة.
ومعنى الحديث: أنه ليس فيما يحرس في الجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز.
وقيل: حريسة الجبل هي الشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل مأواها والمراح بضم الميم هو الموضع الذي تأوي إليه الماشية بالليل.
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» أخرجه الترمذي والنسائي.
المسألة الرابعة: إذا سرق مالًا له فيه شبهة كالولد يسرق من مال والده والوالد يسرق من مال ابنه أو العبد يسرق من مال سيده أوالشريك يسرق من مال شريكه فلا قطع على أحد من هؤلاء فيه.
المسألة الخامسة: إذا سرق أول مرة قطعت يده اليمنى من الكوع وإذا سرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم واختلفوا فيما إذا سرق مرة ثالثة فذهب أكثرهم إلى أن تقطع يده اليسرى فإن سرق مرة رابعة قطعت رجله اليمنى ثم إذا سرق بعد ذلك يعذَّر ويحبس حتى تظهر توبته.
يروي عن هذا عن أبي بكر وهو قول قتادة وبه قال مالك والشافعي لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في السارق إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ذكره البغوي بغير سند وذهب قوم إلى أنه «إن سرق بعد ما قطعت يده ورجله فلا قطع عليه بل يحبس» ويروى عن علي أنه قال: إني أستحي أن لا أدع له يدًا يستنجي بها ولا رجلًا يمشي بها.
وهذا قول الشعبي والنخعي والأوزاعي وبه قال أحمد وأصحاب الرأي. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}.
فيه سبع وعشرون مسألة:
الأُولى قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} الآية.
لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض والفساد، ذكر حكم السارق من غير حِراب على ما يأتي بيانه أثناء الباب؛ وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على ما نبينه آخر الباب.
وقد قُطِع السارق في الجاهلية، وأوّل من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المُغيِرة، فأمر الله بقطعه في الإسلام، فكان أوّل سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخِيَار بن عَديّ بن نوفل ابن عبد مناف، ومن النساء مُرَّة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم، وقطع أبو بكر يد اليمنيّ الذي سرق العِقْد؛ وقطع عمر يد ابن سَمُرة أخي عبد الرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه.
وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك؛ لقوله عليه السلام: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا» فبين أنه إنما أراد بقوله: {والسارق والسارقة} بعض السراق دون بعض؛ فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، أو فيما قيمته ربع دينار؛ وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعليّ رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعيّ وأبو ثور؛ وقال مالك: تُقطَع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما.
والعُروضُ لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قَلّ الصرفُ أو كَثُر؛ فجعل مالك الذهب والورِق كل واحد منهما أصلًا بنفسه، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور.
وقال أحمد وإسحاق: إن سرق ذهبًا فربع دينار، وإن سرق غير الذهب والفضة فكانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق.
وهذا نحو ما صار إليه مالك في القول الآخر؛ والحجة للأوّل حديث ابن عمر: أن رجلًا سرق حَجَفَة، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقوّمت بثلاثة دراهم.
وجعل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلًا ردّ إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورُخْصه، وترك حديث ابن عمر لما رآه والله أعلم من اختلاف الصحابة في المَجنّ الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فابن عمر يقول: ثلاثة دراهم؛ وابن عباس يقول: عشرة دراهم؛ وأنس يقول: خمسة دراهم؛ وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه، ورفعه من يَجِب العملُ بقوله لحفظه وعدالته؛ قاله أبو عمر وغيره.
وعلى هذا فإن بلغ العَرَض المسروق ربع دينار بالتقويم قُطع سارقه؛ وهو قول إسحاق؛ فقفْ على هذين الأصلين فهما عمدة الباب، وهما أصح ما قيل فيه.
وقال أبو حنيفة وصاحباه والثَّوْريّ: لا تُقطَع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا، أو دينار ذهبًا عينًا أو وزنًا؛ ولا يُقطَع حتى يَخرج بالمتاع من ملك الرجل؛ وحجتهم حديث ابن عباس؛ قال: قُوّم المِجنّ الذي قَطَع فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم.
ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: كان ثمن المجنّ يومئذ عشرة دراهم؛ أخرجهما الدَّارَقُطْنيّ وغيره.
وفي المسألة قولٌ رابع، وهو ما رواه الدَّارَقُطْنيّ عن عمر قال: لا تُقطَع الخَمْس إلا في خَمْس؛ وبه قال سليمان بن يَسار وابن أبي ليلى وابن شُبْرُمة؛ وقال أنس بن مالك: قطع أبو بكر رحمه الله في مِجِنّ قيمته خمسة دراهم.
وقول خامس: وهو أن اليد تُقطَع في أربعة دراهم فصاعدًا؛ رُوي عن أبي هُريرة وأبي سعيد الخُدْريّ.
وقول سادس: وهو أن اليد تُقطَع في درهم فما فوقه؛ قاله عثمان البَتّيّ.
وذكر الطَّبَريّ أن عبد الله بن الزُّبير قَطَع في درهم.
وقول سابع: وهو أن اليد تُقطَع في كل ماله قيمة على ظاهر الآية؛ هذا قول الخوارج، ورُوي عن الحسن البصريّ، وهي إحدى الروايات الثلاث عنه، والثانية كما رُوي عن عمر، والثالثة حكاها قَتَادة عنه أنه قال: تَذَاكَرْنا القطع في كَمْ يكون على عهد زياد؟ فاتفق رأينا على درهمين.
وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدّمناه لك؛ فإن قيل: قد روَى البخاريّ ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَعَن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحَبْل فتُقطَع يده» وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير؛ فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في مَعْرِض التّرغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام: «مَن بَنى لله مسجدًا ولو مِثْل مَفْحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة».
وقيل: إن ذلك مجاز من وجه آخر؛ وذلك أنه إذا ضَري بسرقة القليل سَرَق الكثير فقطعت يده.
وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال: كانوا يرون أنه بيْض الحديد، والحَبْلُ كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم.