فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقلت لنفسي: يجب أن أعيد حسابي مع المعري، وجئنا بدواوينه «سقط الزند» و«لزوم ما لا يلزم». ووجدنا أن للرجل عُذرًا في أن يعتب علينا؛ لأن آفة الناس الذين يسجلون خواطر أصحاب الفكر أنهم لا ينظرون إلى تأريخ مقولاتهم، وقد قال المعري قوله الذي أنكره عليه وقت أن كان شابا مفتونا بفكره وعندما نضج قال عكسه. وكثير من المفكرين يمرون بذلك، مثل طه حسين والعقاد، بدأ كل منهما الحياة بكلام قد يؤول إلى الإلحاد ولكنهما كتبا بعد النضج ما يحمل عطر الإيمان الصحيح؛ لذلك لا يصح لمن يحكم عليهم أن يأخذهم بأوليات خواطرهم التي بدأوها بالشَّك حتى يصلوا إلى اليقين. وجلست أبحث في المعري الذي قال:
تحطمنا الأيام حتى كأننا ** زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك

فوجدته هو نفسه الذي قال بعد أن ذهبت عنه المراهقة الفكرية:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ** لا تحشر الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر ** أو صح قولي فالخسار عليكما

كأنه عاد إلى حظيرة الإيمان:
وكذلك قال المعري:
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَتْ ** ما بالها قُطِعَت في ربع دينار

وقال بعد ذلك:
تناقض مالنا إلا السكوت له ** وأن نعوذ بمولانا من النار

وقلت للشيخ فهمي عبداللطيف: للمعري حق في العتاب وسأحاول أن أعاود قراءة شعره، والأبيات التي أرى فيها خروجا سأعد لها قليلا. وعندما جئت إلى ذلك البيت. قلت: لو أنه قال- وأنا أستأذنه-:
لحكمةٍ ما لنا إلا الرضاء بها ** وأن نعوذ بمولانا من النار

فَلكل شيء حكمة. وحين نرى طبيبًا يمسك طفلا قلبه لا يتحمل المُرِقد- أي البنج- أثناء إجراء عملية جراحية، فهل يظن ظان أن الطبيب ينتقم من هذا الطفل؟ طبعا لا، إذن فلكل شيء حكمة، ويجب أن ننظر إلى الشيء وأن نربطه بحكمته. والله عزيز أي لا يغلبه أحد ولا يحتال عليه أحد. وهو حكيم فيما يضع من عقوبات للجرائم؛ لأنه يزن المجتمع نفسه بميزان العدالة. ومن بعد ذلك يفتح الحق سبحانه باب التوبة رحمة لمن يتوب ورحمة للمجتمع؛ لذلك يقول الحق: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ...}. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَولُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.
رَوَى سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ قِرَاءَةُ عَبْدِ الله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَرَوَى ابْنُ عَوْفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ: فِي قِرَاءَتِنَا: {فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ الْيَدَ الْمَقْطُوعَةَ بِأَوَّلِ سَرِقَةٍ هِيَ الْيَمِينُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {أَيْدِيَهُمَا} أَيْمَانُهُمَا، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي جَمْعِهِ الْأَيْدِي مِنْ الِاثْنَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَلْبٌ وَاحِدٌ أَضَافَهُ إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، كَذَلِكَ لَمَّا أَضَافَ الْأَيْدِي إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهِيَ الْيُمْنَى.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَطْعِ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَفِي قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي الرَّابِعَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّارِقِ يَقَعُ عَلَى سَارِقِ الصَّلَاةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا».
وَيَقَعُ عَلَى سَارِقِ اللِّسَانِ؛ رَوَى لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رُهْمٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُسْرِقَ السَّارِقُ الَّذِي يَسْرِقُ لِسَانَ الْأَمِيرِ» فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كُلَّ سَارِقٍ.
وَالسَّرِقَةُ اسْمٌ لُغَوِيٌّ مَفْهُومُ الْمَعْنَى عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ بِنَفْسِ وُرُودِهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى بَيَانٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا عَلَّقَ بِهَذَا الِاسْمِ حُكْمَ الْقَطْعِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ مَعَانِيهَا مِنْ اللُّغَةِ قَدْ عُلِّقَتْ بِهَا أَحْكَامٌ يَجِبُ اعْتِبَارُ عُمُومِهَا بِوُجُوبِ الِاسْمِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ خُصُوصِهِ فَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لَوَجَبَ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنًى غَيْرِ الِاسْمِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي إيجَابِهِ وَهُوَ الْحِرْزُ وَالْمِقْدَارُ فَهُوَ مُجْمَلٌ مِنْ جِهَةِ الْمِقْدَارِ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِهِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ فِي كُلِّ مِقْدَارٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى إجْمَالِهِ وَامْتِنَاعِ اعْتِبَارِ عُمُومِهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَبِي وَاقَدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ» وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي النَّصْرِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَمَا فَوْقَ».
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَيْمَنَ الْحَبَشِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدْنَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ ثَمَنُ الْمِجَنِّ» فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى ثَمَنِ الْمِجَنِّ فَصَارَ ذَلِكَ كَوُرُودِهِ مَعَ الْآيَةِ مَضْمُومًا إلَيْهَا وَكَانَ تَقْدِيرُهَا: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا إذَا بَلَغَتْ السَّرِقَةُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَهَذَا لَفْظٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ وَوَجْهٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى إجْمَالِهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي تَقْوِيمِ الْمِجَنِّ فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَيْمَنَ الْحَبَشِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ: «أَنَّ قِيمَتَهُ كَانَتْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» وَقَالَ أَنَسٌ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: «قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ ثَمَنُ الْمِجَنِّ رُبْعُ دِينَارٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْوِيمًا مِنْهُمْ لِسَائِرِ الْمَجَانِّ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ كَاخْتِلَافِ الثِّيَابِ وَسَائِرِ الْعُرُوضِ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَقْوِيمًا لِلْمِجَنِّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى تَقْوِيمِهِ مِنْ حَيْثُ قَطَعَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذْ لَيْسَ فِي قَطْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ عَمَّا دُونَهُ كَمَا أَنَّ قَطْعَهُ السَّارِقَ فِي الْمِجَنِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَطْعِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مَا فَعَلَهُ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ فَإِذًا لَا مَحَالَةَ قَدْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لَهُمْ حِينَ قَطَعَ السَّارِقَ عَلَى نَفْيِ الْقَطْعِ فِيمَا دُونَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إجْمَالِ حُكْمِ الْآيَةِ فِي الْمِقْدَارِ كَدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا لَفْظًا مِنْ نَفْيِ الْقَطْعِ عَمَّا دُونَ قِيمَةِ الْمِجَنِّ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اعْتِبَارُ عُمُومِ الْآيَةِ فِي إثْبَاتِ الْمِقْدَارِ وَوَجَبَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْمِجَنِّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَيْسَ إجْمَالُهَا فِي الْمِقْدَارِ بِمُوجِبِ إجْمَالِهَا فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ مِنْ الْحِرْزِ وَجِنْسِ الْمَقْطُوعِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ مُجْمَلًا فِي حُكْمِ الْمِقْدَارِ فَحَسْبُ، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} عُمُومٌ فِي جِهَةِ الْأَمْوَالِ الْمُوجَبِ فِيهَا الصَّدَقَةُ مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا.
وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ مِنْ حَيْثُ عُلِّقَ فِيهَا الْحُكْمُ بِمَعَانٍ لَا يَقْتَضِيهَا اللَّفْظُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ، وَهُوَ الْحِرْزُ وَالْمِقْدَارُ؛ وَالْمَعَانِي الْمُعْتَبَرَةُ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ مَتَى عُدِمَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِأَخْذِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَمِنْهُ قِيلَ «سَارِقُ اللِّسَانِ» و«سَارِقُ الصَّلَاةِ» تَشْبِيهًا بِأَخْذِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا اعْتِبَارُهَا فِي إيجَابِ الْقَطْعِ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَصَارَتْ السَّرِقَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمًا شَرْعِيًّا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ إلَّا فِيمَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ غَيْرِهَا».
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: «أَنَّهُ لَا قَطْعَ حَتَّى تَكُونَ قِيمَةُ السَّرِقَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً».
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: «أَنَّهُ إذَا سَرَقَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ قُطِعَ».
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» قَالَ الشَّافِعِيُّ: «فَلَوْ غَلَتْ الدَّرَاهِمُ حَتَّى يَكُونَ الدِّرْهَمَانِ بِدِينَارٍ قُطِعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ رَخُصَتْ الدَّنَانِيرُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينَارُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ قُطِعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا».
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «يُقْطَعُ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ»، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ قَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِهِ.
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: «لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ» وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالَا: «لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي خَمْسَةٍ».
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «يُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ» وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ» وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجِبُ إلَّا فِي مِقْدَارِ مَتَى قَصُرَ عَنْهُ لَمْ يَجِبْ وَكَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ التَّوْقِيفَ أَوْ الِاتِّفَاقَ وَلَمْ يَثْبُتْ التَّوْقِيفُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَثَبَتَ الِاتِّفَاقُ فِي الْعَشَرَةِ أَثْبَتْنَاهَا وَلَمْ نُثْبِتْ مَا دُونَهَا لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ وَالِاتِّفَاقِ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُجْمَلٌ بِمَا اقْتَرَنَ إلَيْهِ مِنْ تَوْقِيفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى اعْتِبَارِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ وَمِنْ اتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ وَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ فِي الْقَطْعِ فِي الْعَشَرَةِ وَنَفْيُهُ عَمَّا دُونَهَا لِمَا وَصَفْنَا وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ تُوجِبُ اعْتِبَارَ الْعَشَرَةِ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ مِنْهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَقَدْ سَمِعْنَا أَيْضًا فِي سُنَنِ ابْنِ قَانِعٍ حَدِيثًا رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ زُحَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ».
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنَّ عُرْوَةَ وَالزُّهْرِيَّ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُونَ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ فِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَقَالُوا: «كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ» فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ» قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّهُمَا قَوَّمَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ قَوَّمَهُ غَيْرُهُمَا عَشَرَةً فَكَانَ تَقْدِيمُ الزَّائِدِ أَوْلَى وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الصَّحِيحَ مِنْهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرُ مَرْفُوعٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مِنْ الرُّوَاةِ رَوَوْهُ مَوْقُوفًا وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ثُلُثِ دِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».