فصل: بَابُ السَّرِقَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَحُصُولُ الضَّمَانِ يَنْفِي الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ فَقَدْ صَارَتْ دَيْنًا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ وَحُصُولُهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يَنْفِي الْقَطْعَ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَخْذِهِ بَدِيًّا عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ مَوْقُوفًا فِي الْقَطْعِ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَإِثْبَاتِهِ فَهَلَّا جَعَلْت حُكْمَ إقْرَارِهِ مَوْقُوفًا فِي تَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ أَوْ سُقُوطِهِ قِيلَ لَهُ نَفْسُ الْأَخْذِ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ يُوجِبُ الْقَطْعَ فَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا وَإِنَّمَا سُقُوطُ الْقَطْعِ بَعْدَ ذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ السَّرِقَةُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِقْرَارُ بَدِيًّا لِلْقَطْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ الضَّمَانَ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ يَنْفِي الْقَطْعَ؛ إذْ كَانَ إقْرَارُهُ الثَّانِي لَا يَنْفِي مَا قَدْ حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ الضَّمَانِ النَّافِي لِلْقَطْعِ بِإِقْرَارِهِ الْأَوَّلِ.
فَإِنْ قِيلَ يُنْتَقَضُ هَذَا الِاعْتِلَالُ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ بِالزِّنَا إذَا لَمْ يُوجِبْ حَدًّا فَلابد مِنْ إيجَابِ الْمَهْرِ بِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ لَا يَخْلُو مِنْ إيجَابِ حَدٍّ أَوْ مَهْرٍ وَمَتَى انْتَفَى الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ وَإِقْرَارُهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لَا يُسْقِطُ الْمَهْرَ الْوَاجِبَ بَدِيًّا بِالْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْإِقْرَارِ فِي الزِّنَا فَلَمَّا صَحَّ وُجُوبُ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْإِقْرَارِ فِي الزِّنَا مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْإِقْرَارِ فِي السَّرِقَةِ بِأَنَّ بِهِ فَسَادَ اعْتِلَالِك قِيلَ لَهُ لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ فِي الزِّنَا عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ لَا يَجِبْ بِهِ مَهْرٌ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا قِيمَةَ لَهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ عَقْدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ وَمَتَى عُرِّيَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُهُمْ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالزِّنَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي مَالِهِ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَكَانَتْ السَّرِقَةُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ جَمِيعًا فَقَدْ حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إيجَابُ الضَّمَانِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَسُقُوطُ الْمَهْرِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِنْ غَيْرِ حَدٍّ وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِمَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِسَرِقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ قَدْ شَهِدْت عَلَى نَفْسِك بِشَهَادَتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ وَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ إنَّمَا قَالَ شَهِدْت عَلَى نَفْسِك بِشَهَادَتَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ لَوْ شَهِدْت بِشَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا قُطِعْت وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْهُ حَتَّى أَقَرَّ مَرَّتَيْنِ وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي يُوسُفَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ حَدًّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ عَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ فَلَمَّا كَانَ أَقَلُّ مَنْ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ مَا يَصِحُّ بِهِ إقْرَارُهُ مَرَّتَيْنِ كَالزِّنَا اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ وَهَذَا يَلْزَمُ أَبَا يُوسُف أَنْ يَعْتَبِرَ عَدَدَ الْإِقْرَارِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ وَقَدْ سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ يَقُولُ إنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ حَتَّى يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ كَعَدَدِ الشُّهُودِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْقِيَاسِ مَدْفُوعٌ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ فِيمَا كَانَ هَذَا صِفَتَهُ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ وَالِاتِّفَاقُ.

.بَابُ السَّرِقَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ:

قَالَ أَبُو بَكْرٍ قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عُمُومٌ فِي إيجَابِ قَطْعِ كُلِّ سَارِقٍ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَدَّمْنَا، وَعَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، لَيْسَ بِعُمُومٍ وَهُوَ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ مَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ.
إلَّا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُمُومًا عِنْدَنَا لَوْ خُلِّينَا وَمُقْتَضَاهُ فَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ خُصُوصِهِ فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.

.ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ:

قَالَ أَصْحَابُنَا: «لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي الرَّحِمِ» وَهُوَ الَّذِي لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ أَجْلِ الرَّحِمِ الَّذِي بَيْنَهُمَا.
وَلَا تُقْطَعُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ الْمَرْأَةُ إذَا سَرَقَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجُ إذَا سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: «إذَا سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ».
وَقَالَ مَالِك: «يُقْطَعُ الزَّوْجُ فِيمَا سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِيمَا تَسْرِقُ مِنْ زَوْجِهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنَانِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَقَارِبِ».
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فِي الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ أَبَوَيْهِ: «إنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لَا يُقْطَعُ، وَإِنْ كَانُوا نَهَوْهُ عَنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ فَسَرَقَ قُطِعَ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ أَجْدَادِهِ، وَلَا عَلَى زَوْجٍ سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ امْرَأَةٍ سَرَقَتْ مِنْ زَوْجِهَا».
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} فَأَبَاحَ تَعَالَى الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ الدُّخُولِ إلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ؛ فَإِذَا جَازَ لَهُمْ دُخُولُهَا لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا مُحْرَزًا عَنْهُمْ، وَلَا قَطْعَ إلَّا فِيمَا سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ وَأَيْضًا إبَاحَةُ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ فِيهَا، لِمَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ كَالشَّرِيكِ وَنَحْوِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} وَيُقْطَعُ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْ صَدِيقِهِ.
قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَنْفِي الْقَطْعَ مِنْ الصَّدِيقِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُ بِدَلَالَةِ الِاتِّفَاقِ وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ قَائِمَةٌ فِيمَا عَدَاهُ؛ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَدِيقًا إذَا قَصَدَ السَّرِقَةَ.
وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا وُجُوبُ نَفَقَةِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَجَوَازُ أَخْذِهَا مِنْهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، فَأَشْبَهَ السَّارِقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِيهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي مَالِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ.
قِيلَ لَهُ: يُعْتَرَضَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ فِي مَالِ الْأَجْنَبِيِّ يَثْبُتُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَخَوْفِ التَّلَفِ وَفِي مَالِ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ بِالْفَقْرِ وَتَعَذُّرِ الْكَسْبِ، وَالْوَجْهِ الْآخَرِ: أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَأْخُذُهُ بِبَدَلٍ وَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ.
وَأَيْضًا فَلَمَّا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إحْيَاءَ نَفْسِهِ وَأَعْضَائِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا السَّارِقُ مُحْتَاجًا إلَى هَذَا الْمَالِ فِي إحْيَاءِ يَدِهِ لِسُقُوطِ الْقَطْعِ، صَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْفَقِيرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ.
وَأَيْضًا فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَى الْأَبِ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا فَقُطِعَ فِيهِ ثُمَّ سَرَقَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ بِعَيْنِهِ: «لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ».
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إثْبَاتُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ، فَلَمَّا عَدِمْنَاهُمَا فِيمَا وَصَفْنَا لَمْ يَبْقَ فِي إثْبَاتِهِ إلَّا الْقِيَاسُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَنَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قَطَعْته بِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قِبَلَ السَّرِقَةِ قِيلَ لَهُ: السَّرِقَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعُمُومُ لِأَنَّهَا تُوجِبُ قَطْعَ الرِّجْلِ لَوْ وَجَبَ الْقَطْعُ، وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ قَطْعُ الْيَدِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ وُجُوبَ قَطْعِ السَّرِقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى سَقَطَ الْقَطْعُ وَجَبَ ضَمَانُ الْعَيْنِ، كَمَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ كَانَ سُقُوطُ الْحَدِّ مُوجِبًا ضَمَانَ الْوَطْءِ، وَلَمَّا تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ بِقَتْلِ النَّفْسِ كَانَ سُقُوطُ الْقَوَدِ مُوجِبًا ضَمَانَ النَّفْسِ؛ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ ضَمَانِ الْعَيْنِ فِي السَّرِقَةِ عِنْدَ سُقُوطِ الْقَطْعِ يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْعَيْنِ فِي ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ فِعْلُ وَاحِدٍ فِي عَيْنَيْنِ لَا يُوجِبُ إلَّا قَطْعًا وَاحِدًا، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْفِعْلَيْنِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوجِبَ إلَّا قَطْعًا وَاحِدًا؛ إذْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَيْنَيْنِ أَعْنِي الْفِعْلَ وَالْعَيْنَ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى بِهَا مَرَّةً أُخْرَى حُدَّ ثَانِيًا مَعَ وُقُوعِ الْفِعْلَيْنِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِعَيْنِ الْمَرْأَةِ فِي تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْحَدِّ بِهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا بِالْوَطْءِ لَا غَيْرُ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى سَقَطَ الْحَدُّ ضَمِنَ الْوَطْءَ وَلَمْ يَضْمَنْ عَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَفِي السَّرِقَةِ مَتَى سَقَطَ الْقَطْعُ ضَمِنَ عَيْنَ السَّرِقَةِ.
وَأَيْضًا فَلَمَّا صَارَتْ السَّرِقَةُ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ التَّافِهِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَهَا، وَجَبَ أَنْ لَا يُقْطَعَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَا يُقْطَعُ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ التَّافِهَةِ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ حَصَلَتْ مِلْكًا لِلنَّاسِ كَالطِّينِ وَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْمَاءِ؛ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا: إنَّهُ لَوْ كَانَ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ثَوْبًا بَعْدَمَا قُطِعَ فِيهِ ثُمَّ سَرَقَهُ مَرَّةً أُخْرَى قُطِعَ لِأَنَّ حُدُوثَ هَذَا الْفِعْلِ فِيهِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ الْمَانِعَةِ كَانَتْ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ خَشَبًا لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ بَابًا مَنْجُورًا فَسَرَقَ قُطِعَ لِخُرُوجِهِ بِالصَّنْعَةِ عَنْ الْحَالِ الْأُولَى.
وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ وُقُوعُ الْقَطْعِ فِيهِ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ قَامَ الْقَطْعُ فِيهِ مَقَامَ دَفْعِ قِيمَتِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عَوَّضَهُ مِنْهُ، وَأَشْبَهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وُقُوعَ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَسْرُوقِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ يُوجِبُ لَهُ الْمِلْكَ، فَلَمَّا أَشْبَهَ مِلْكَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَنْ يُشْبِهَ الْمُبَاحَ مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهَ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ وَاجِبٍ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَتَاعِ وَبَيْنَ حِرْزِهِ، وَالدَّارُ كُلُّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ، فَكَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الدَّارِ لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ؛ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ.
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إذَا لَمْ يَخْرُجْ بِالْمَتَاعِ لَمْ يُقْطَعْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «لَوْ لَمْ أَجِدْ إلَّا سِكِّينًا لَقَطَعْته».
وَرَوَى سَعِيدُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: «إذَا وُجِدَ فِي بَيْتٍ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: دُخُولُهُ الْبَيْتَ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْمَ السَّارِقِ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الْقَطْعِ بِهِ، وَأَخْذُهُ فِي الْحِرْزِ أَيْضًا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ لِأَنَّهُ بَاقٍ فِي الْحِرْزِ، وَمَتَى لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْحِرْزِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ فَلَا يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ؛ وَلَوْ جَازَ إيجَابُ الْقَطْعِ فِي مِثْلِهِ لَمَا كَانَ لِاعْتِبَارِ الْحِرْزِ مَعْنًى؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ: «إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَإِنْ كَانَتْ السَّرِقَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَخَذَهَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ»، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: «يَضْمَنُهَا إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا».
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: «يَغْرَمُ السَّرِقَةَ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً» وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَحَمَّادٍ وَأَحَدُ قَوْلَيْ إبْرَاهِيمَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ صَاحِبَهَا يَأْخُذُهَا؛ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ وَرَدَّ الرِّدَاءَ عَلَى صَفْوَانَ».
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بَعْدَ الْقَطْعِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ} وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ؛ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ هُوَ الْقَطْعُ، لَمْ يَجُزْ إيجَابُ الضَّمَانِ مَعَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْمَنْصُوصِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْجَزَاءِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يَنْفِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جَزَاءٌ غَيْرُهُ.
وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْت سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عَنْ أَخِيهِ الْمِسْوَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا أَقَمْتُمْ عَلَى السَّارِقِ الْحَدَّ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ الْآدَمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ الْفُرَاتِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ وَقَالَ: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ».
وَقَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ وَأَخْطَأَ فِيهِ خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، فَقَالَ الْمِسْوَرِ بْنُ مَخْرَمَةَ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْحَدِّ وَالْمَالِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَا يَجْتَمِعُ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ وَالْقَوَدُ وَالْمَالُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْقَطْعِ نَافِيًا لِضَمَانِ الْمَالِ؛ إذْ كَانَ الْمَالُ فِي الْحُدُودِ لَا يَجِبُ إلَّا مَعَ الشُّبْهَةِ، وَحُصُولُ الشُّبْهَةِ يَنْفِي وُجُوبَ الْقَطْعِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الضَّمَانَ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الْمِلْكِ فَلَوْ ضَمَّنَّاهُ لِمِلْكِهِ بِالْأَخْذِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَقْطُوعًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى رَفْعِ الْقَطْعِ وَكَانَ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ إسْقَاطُ الْقَطْعِ، امْتَنَعَ وُجُوبُ الضَّمَانِ. اهـ.