فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{يا أيها الرسول} أي المبلغ لما أرسل به- معلول لما قبله.
وأدل دليل على ذلك قوله تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا} {ولا يحزنك} أي لا يوقع عندك شيئًا من الحزن صنعُ {الذين يسارعون في الكفر} أي يفعلون في إسراعهم يف الوقوع فيه غاية الإسراع فعلَ من يسابق غيره، وفي تبيينهم بالمنافقين وأهل الكتاب بشارة بإتمام النعمة على العرب بدوام إسلامهم ونصرهم عليهم، وقدم أسوأ القسمين فقال: {من الذين قالوا آمنا}.
ولما كان الكلام هو النفسي، أخرجه بتقييده بقوله: {بأفواههم} معبرًا لكونهم منافقين بما منه ما هو أبعد عن القلب من اللسان، فهم إلى الحيوان أقرب منهم إلى الإنسان، وزاد ذلك بيانًا بقوله: {ولم تؤمن قلوبهم}.
ولما بين المسارعين بالمنافقين، عطف عليهم قسمًا آخر هم أشد الناس مؤاخاة لهم فقال: {ومن الذين هادوا} أي الذين عرفت قلوبهم وكفرت ألسنتهم تبعًا لمخالفة قلوبهم لما تعرف عنادًا وطغيانًا، ثم أخبر عنهم بقوله: {سمّاعون} أي متقبلون غاية التقبل بغاية الرغبة {للكذب} أي من قوم من المنافقين يأتونك فينقلون عنك الكذب {سمّاعون لقوم آخرين} أي الصدق، ثم وصفهم بقوله: {لم يأتوك} أي لعلة، وذكر الضمير لإرادة الكلام، لأن المقصود البغض على نفاقهم {يحرفون الكلم} أي الذي يسمعونه عنك على وجهة فيبالغون في تغييره وإمالته بعد أن يقيسوا المعنيين: المغير والمغير إليه، واللفظين فلا يبعدوا به، بل يأخذون بالكلم عن حده وطرفه إلى حد آخر قريب منه جدًا، ولذلك، أثبت الجار فقال: {من بعد} أي يثبتون الإمالة من مكان قريب من {مواضعه} أي النازلة عن رتبته بأن يتأولوه على غير تأويله، أو يثبتوا ألفاظًا غير ألفاظه قريبة منها فلا يبعد منها المعنى جدًا وهذا أدق مكرًا مما في النساء وهو من الحرف وهو الحد والطرف، وانحرف عن الشيء: مال عنه، قال الصغاني: وتحريف الكلام عن مواضعه: تغييره، وقال أبو عبد الله القزاز: والتحريف التفعيل، من: انحرف عن الشيء- إذا مال، فمعنى حرفت الكلام: أزلته عن حقيقة ما كان عليه في المعنى، وأبقيت له شبه اللفظ، ومنه قوله تعالى: {يحرفون الكلم}، وذلك أن اليهود كانت تغير معاني التوراة بالأشباه، وفي الحديث «يسلط عليهم طاعون يحرف القلوب» أي يغيرها عن التوكل ويدعوهم إلى الانتقال عن تلك البلاد، وحكي: حرفته عن جهته- أي بالتخفيف- مثل: حرّفته، والمحارفة: المقايسة، من المحراف وهو الميل الذي يقاس به الجراح- انتهى.
فالآية من الاحتباك: حذف منها أولًا الإتيان وأثبت عدمه ثانيًا للدلالة عليه، وحذف منها ثانيًا الصدق ودل عليه بإثبات ضده- الكذب- في الأولى.
ولما كان كأنه قيل: ما غرضهم بإثبات الكذب وتحريف الصدق؟ قال: {يقولون} أي لمن يوافقهم {إن أوتيتم} أي من أيّ مؤت كان {هذا} أي المكذوب والمحرف {فخذوه} أي اعملوا به {وإن لم تؤتوه} أي بأن أوتيتم غيره أو سكت عنكم {فاحذروا} أي بأن تؤتوا غيره فتقبلوه.
ولما كان التقدير: فأولئك الذين أراد الله فتنتهم، عطف عليه قوله: {ومن يرد الله} أي الذي له الأمر كله {فتنته} أي أن يحل به ما يميله عن وجه سعادته بالكفر حقيقة أو مجازًا {فلن تملك له من الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له {شيئًا} أي من الإسعاد، وإذا لم تملك ذلك أنت وأنت أقرب الخلق إلى الله فمن يمكله.
ولما كان هذا، أنتج لا محالة قوله: {أولئك} أي البعداء من الهدى {الذين لم يرد الله} أي وهو الذي لا راد لما يريده، ولا فاعل لما يرده، فهذه أشد الآيات على المعتزلة {أن يطهر قلوبهم} أي بالإيمان، والجملة كالعلة لقوله: {فلن تملك له من الله شيئًا}، ولما ثبت أن قلوبهم نجسة، أنتج ذلك قوله: {لهم في الدنيا خزي} أي بالذل والهوان، أما المنافقون فبإظهار الأسرار والفضائح الكبار وخوفهم من الدمار، وأما اليهود فببيان أنهم حرفوا وبدلوا وضرب الجزية عليهم وغير ذلك من الصغار {ولهم في الآخرة} التي من خسرها فلا ربح له بوجه ما {عذاب عظيم} أي لعظيم ما ارتكبوه من هذه المعاصي المتضاعفة. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى لما بيّن بعض التكاليف والشرائع، وكان قد علم من بعض الناس كونهم متسارعين إلى الكفر لا جرم صبر رسوله على تحمل ذلك، وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك، فقال: {يا أَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ في الكفر}. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} وقرأ السلمي يسارعون في الكفر أي في هؤلاء الكفار ومظاهرتهم فلم يعجزوا الله: {مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقون نظيره، قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] {وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} يعني قوّالين به يعني بني قريضة {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} يعني يهود خيبر وذلك عين ما قاله أهل التفسير وذلك أن رجلًا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وإسم المرأة بسرة وكانت خيبر حربًا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان الزانيان محصنين، وكان حدّهما الرّجم في التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فقالوا: إن هذا الرجل النبي بيثرب ليس في كتابه الرّجم ولكنه الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريظة فإنهم صلح له وجيرانه، فليسألوه، فبعثوا رهطًا منهم مستخفين. فقالوا لهم: سلوا محمدًا عن الزانيين إذا أحصنا أحدهما فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا الزانين معهم فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير. فقال لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده، وقد حدث فينا حدث زنيا وقد أحصنا فيجب أن تسألوا لنا محمدًا عن قضائه، فقال لهم بنو قريظة والنضير: إذًا واللّه يأمركم بما تكرهون من ذلك ثم إنطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وسعد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وعباس بن قيس وأبو نافع وأبو يوسف وعازار وسلول إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما وكيف تجد في كتابك؟ فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «وهل ترضون قضائي في ذلك؟» قالوا: نعم، فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبرئيل: إجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هل تعرفون شابًا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا» قال: فأي رجل فيكم؟
قالوا: هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه تعالى على موسى في التوراة، قال: أرسلوا إليه، ففعلوا فأتاهم عبد اللّه بن صوريا، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «أنت ابن صوريا؟» قال: نعم، قال: «فأنت أعلم اليهود؟»، قال: كذلك يزعمون، قال: «أتجعلونه بيني وبينكم؟» قالوا: نعم قد رضينا به إذ رضيت به، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «فإني أنشدك باللّه الذي لا إله إلاّ هو القوي إله بني إسرائيل الذي أنزل التوراة على موسى الذي أخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ضلل الغمام فأنزل عليكم المنّ والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه فهل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن». قال ابن صوريا: نعم والذي ذكّرني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ولكن كيف هو في كتابك يا محمد؟ قال: «إذا شهد أربعة رهط عدول إنه قد أدخله فيهاكما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم». قال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «فماذا كان أوّل ما ترخصتم به أمر اللّه»؟
قال: كنّا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا للضعيف أقمنا عليه الحد وكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنا رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه، فقال: واللّه لا ترجمون حتى يرجم فلانًا ابن عم الملك. فقال: تعالوا نجتمع فلنضع شيئًا دون الرجم يكون مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسوّد وجوههما ثم يحملان على حمارين فحوّل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم. قال اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما اتهمتنا عليك بأهل، ولكنّك كنت غائبًا فكرهنا أن نغتابك فقال لهم: نشد في التوراة لولا ضنيت التوراة أن تهلكني لما أخبرته به، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده، وقال: «أنا أول من أحيا أمره إذ أماتوه».
قال عبد اللّه بن عمر: شهدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما أمر برجم اليهوديين فرأيته حنا عليهما ليقيهما بالحجارة ونزلت {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15] فلا يخبركم به فوضع ابن صوريا يده على ركبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: أنشدك باللّه وأُعيذك باللّه أن تخبرنا بالكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنه فقال له ابن صوريا: أخبرني عن ثلاث خصال أسألك عنهنّ، قال: ما هي؟ قال: أخبرني عن نومك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «تنام عيناي وقلبي يقظان» قال له: صدقت، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبهه أمه شيء أو شبهه أمه فيه ليس فيه من شبهه أبيه شيء، قال: «أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له» قال له: صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ قال: فأغمي على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طويلًا ثم خلي عنه محمرًا وجهه يفيض عرقًا فقال صلى الله عليه وسلم «اللحم والدّم والظفر والشعر للمرأة والعظم والعصاب والعروق للرجل» قال له: صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرئيل.
قال: صفه لي، فوصفه له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد إنه في التوراة كما قلت وإنّك رسول اللّه حقًّا فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير، فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد إذا قتلوا منا قتيلًا لم يفدونا وأعطونا ديته سبعين وسقًا من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقًا من تمر وإن كان القتيل إمرأة. يفدوا بها الرجل، وبالرجل منهم الرجلين منّا، وبالعبد منهم الحرّ منّا، وجراحتنا بالنصف من جراحتهم فأمعن بيننا وبينهم، فأنزل اللّه تعالى في الرجم والقصاص {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ} الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال: قيل: نزلت في بني قُرَيْظة والنَّضِير؛ قَتلَ قُرظِي نَضِيريًا وكان بنو النَّضِير إذا قَتلوا من بني قُرَيظة لم يُقِيدوهم، وإنما يعطونهم الدّية على ما يأتي بيانه، فتحاكموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية بين القُرَظيّ والنَّضِيريّ، فساءهم ذلك ولم يقبلوا.
وقيل: إنها نزلت في شأن أبي لُبابة حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيظة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح.
وقيل: إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرّجم؛ وهذا أصح الأقوال؛ رواه الأئمة مالك والبخاريّ ومسلم والترمذيّ وأبو داود.
قال أبو داود عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «ائتوني بأعلم رجلين منكم» فجاؤوا بابني صُورِيَا فنَشدَهما الله تعالى «كيف تجدان أمر هذين في التوراة»؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأُوا ذكره في فرجها كالمِرود في المُكْحُلة رُجِما.
قال: «فما يمنعكما أن ترجموهما» قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأُوا ذكره في فرجها مثل المِيل في المُكْحُلة، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم برجمهما وفي غير الصحيحين عن الشعبيّ عن جابر بن عبد الله قال: زنى رجل من أهل فَدَك، فكتب أهل فَدَك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سَلُوا محمدًا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه؛ فسألوه فدعا بابن صُورِيَا وكان عالمهم وكان أعور؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنْشدك الله كيف تجدون حدّ الزاني في كتابكم» فقال ابن صُورِيَا: فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زَنْية، والاعتناق زَنْية، والقُبلة زَنْية، فإن شهد أربعة بأنهم رأُوا ذكره في فرجها مثل المِيل في المُكْحُلة فقد وجب الرّجم.