فصل: من فوائد الألوسي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعنى من بعد مواضعه: قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه.
{يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} الإشارة بهذا قيل: إلى التحميم والجلد في الزنا.
وقيل: إلى قبول الدية في أمر القتل.
وقيل: على إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول.
وقال الزمخشري: إن أوتيتم، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق، واعملوا به انتهى.
وهو راجع لواحد مما ذكرناه، والفاعل المحذوف هو الرسول أي: إن أتاكم الرسول هذا.
{وإن لم تؤتوه فاحذروا} أي: وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال.
وقيل: فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد.
وقيل: أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به.
وقيل: فاحذروا أن تسألوه بعدها، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله: فخذوه.
فالمعنى: وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله.
{ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا} قال الحسن وقتادة: فتنته أي عذابه بالنار.
ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون.
وقال الزجاج: فضيحته.
وقيل: اختباره لما يظهر به أمره.
وقيل: إهلاكه.
وقال ابن عباس ومجاهد: كفره وإضلاله، يقال: فتنه عن دينه صرفه عنه، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه.
وقال الزمخشري: ومن يرد الله فتنته تركه مفتونًا وخذلانه، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئًا انتهى.
وهذا على طريقة الاعتزال.
وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفًا عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر.
وقطعًا لرجائه من فلاحهم.
{أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} أي سبق لهم في علم الله ذلك، وأن يكونوا مدنسين بالكفر.
وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة.
وقال الزمخشري: أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها.
إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم انتهى.
وهو على مذهبه الاعتزالي.
{لهم في الدنيا خزي} أي ذل وفضيحة.
فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته.
وقال مقاتل: خزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي بني النضير بإجلائهم.
{ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له، أو لتزايد ألمه أو لهما. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يسارعون في الكفر} خوطب صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن، والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة، وإيثار كلمة {فِى} على إلى للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك.
والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار الحزن، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيًا للكفرة عن أن يحزنوه صلى الله عليه وسلم بمسارعتهم في الكفر لكنه في الحقيقة نهي له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة، والغرض منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله.
وقرئ {يَحْزُنكَ} بضم الياء وكسر الزين من أحزن وهي لغة، وقرئ يسرعون يقال أسرع فيه الشيب أي وقع فيه سريعًا أي لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة حذرًا ما قيل من شرهم وموالاتهم للمشركين فإن الله تعالى ناصرك عليهم، أو شفقة عليهم حيث لم يوفقوا للهداية فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
{مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم} بيان للمسارعين في الكفر، وقال أبو البقاء: إنه متعلق بمحذوف وقع حالًا من فاعل {يسارعون} أو من الموصول أي كائنين من الذين الخ، والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا لظهور فساده وتعلقها به على معنى بذي أفواههم أي يؤمنون بما يتفوهون به من غير أن تلتف به قلوبهم مما لا ينبغي أن يلتفت إليه من له أدنى تمييز {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} جملة حالية من ضمير {قَالُواْ}، وقيل: عطف على {قَالُواْ}.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ الذين هِادُواْ} عطف على {مِنَ الذين قَالُواْ} وبه تم تقسيم المسارعين إلى قسمين: منافقين ويهود، فقوله سبحانه وتعالى: {سماعون لِلْكَذِبِ} خبر مبتدأ محذوف أي هم سماعون والضمير للفريقين أو للذين يسارعون، وجوز أن يكون للذين هادوا واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى وكذا جعل غير واحد {وَمِنَ الذين} الخ خبرًا على أن {سماعون} صفة لمبتدأ محذوف، أي ومنهم قوم سماعون لأدائه إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم، على أنه قد قرئ سماعين بالنصب على الذم وهو ظاهر في أرجحية العطف، فالوجه ذلك، واللام للتقوية كما في قوله تعالى: {فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، وقيل: لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وتحريف كتابه، واعترضه الشهاب بأن هذا يقتضي أنه إنما فسر بالقبول ليعديه اللام.
وقد قال الزجاج: يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل، ومنه سمع الله لمن حمده أي تقبل منه حمده، وكلام الجوهري يخالفه أيضًا، ويقتضي أنه ليس مبنيًا على التضمين، وقال عصام الملة: إن القبول أيضًا متعد بنفسه ففي «القاموس» قبله كعمله وتقبله بمعنى أخذه، نعم يتعدى السماع بمعنى القبول باللام بمعنى من، كما في سمع الله لمن حمده أي قبل الله تعالى ممن حمده، لكن هذه اللام تدخل على المسموع منه لا المسموع.
وجوز أن تكون اللام للعلة، والمفعول محذوف أي سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم، أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم، وأيًا ما كان فالجملة مستأنفة جارية على ما قيل مجرى التعليل للنهي، أو مسوقة لمجرد الذم كما يقتضيه قراءة النصب.
وقوله تعالى شأنه: {سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} خبر ثان للمبتدأ المقدر مقرر للأول، ومبين لما هو المراد بالكذب على تقدير التقوية والتضمين، واللام هنا مثلها في سمع الله لمن حمده والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين، واختاره شيخ الإسلام.
وجوز كونها لام التعليل أي سماعون كلامه صلى الله عليه وسلم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين، والمراد أنهم عيون عليه عليه الصلاة والسلام لأولئك القوم، وروي ذلك عن الحسن.
والزجاج، واختاره أبو علي الجبائي، وليس في النظم ما يأباه ولا بعد فيه، نعم ما قيل: من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن {سماعون} الثاني مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد، و{ءاخَرِينَ} صفة {لِقَوْمٍ} وجملة {لَمْ يَأْتُوكَ} صفة أخرى، والمعنى لم يحضروا عندك، وقيل: هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك، وفيه دلالة على شدة بغضهم له صلى الله عليه وسلم وفرط عداوتهم، واحتمال كونها صفة {سماعون} أي سماعون لم يقصدوك بالإتيان بل قصدوا السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وقوله سبحانه وتعالى: {يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه} صفة أخرى لقوم وصفوا أولًا بمغايرتهم للسماعين تنبيهًا على استقلالهم وأصالتهم في الرأي، ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذانًا بكمال طغيانهم في الضلال، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه عليه الصلاة والسلام إيذانًا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانًا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى، وتعيينًا للكذب الذي سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر، وقيل: الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم، وقيل: خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم، وقيل: إلى الفريقين، والمعنى يميلون ويزيلون التوراة، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أو كليهما أو مطلق الكلم في قول عن المواضع التي وضع ذلك فيها إما لفظًا بإهماله، أو تغيير وضعه، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.
ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مواضعه} دون عن مواضعه، وقال عصام الملة: إن إدراج لفظ {بَعْدَ} للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الأنفع، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه، ولا يخفى بعده، وقال بعضهم: إن {مِنْ} للابتداء، ولفظ {بَعْدَ} للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى، وقرأ إبراهيم يحرفون الكلام عن مواضعه.
وقوله سبحانه وتعالى: {يَقُولُونَ} كالجملة السابقة في الوجوه المذكورة، ويجوز أن تكون حالًا من ضمير {يُحَرّفُونَ} وجوز كونها كالتي قبلها صفة لسماعون أو حالًا من الضمير فيه، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلًا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم والمخاطب به ممن يحضره، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه عليه الصلاة والسلام لمن لا يحوم حول حضرته قطعًا، وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم، فالحق الذي لا محيد عنه وعليه درج غالب المفسرين أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم {إِنْ أُوتِيتُمْ} من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو الظاهر {هذا فَخُذُوهُ} واعملوا بموجبه فإنه موافق للحق {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} من جهته بل أوتيتم غيره {فاحذروا} قبوله وإياكم وإياه، أو فاحذروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى، أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقًا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلًا، وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد.
ونسبهما واحد.
وبلدهما واحد، ودية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيمًا منكم لنا وقوة منكم، فأما إذا قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيمًا وقهرًا لهم، فدسوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا من المنافقين ليختبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأمرهم كله وماذا أرادوا فأنزل {الله وَأَطِيعُواْ الرسول} الآية، وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول في القصة.