فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ... (41)}.
نأتي في النِّداء بحرف الإقبال وهو «يا» وندخله على «المُنادى» أي أنك تطلب إقباله. فهل نطلب إقباله لمجرد الإقبال أو لشيء آخر؟ مثال ذلك قول الحق: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151].
إذن النِّداء هنا لتلاوة التكليف عليهم. وحين يُنادي الحق سبحانه وتعالى أشرف من ناداهم وهم رُسُله، ونجد أنه نادى كل الرُّسل بمُشخَّصاتِهم العَلَمِيّة. «يا آدم»، والمُشَخّص العَلمَي هو الاسم، وهو لا يعطي وصفًا إلا تشخيص الذات بدون صفاتها.
وكذلك نادى الحق إبراهيم عليه السلام: {ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} [الصافات: 104-105].
وكذلك نادى الحق نوحًا: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ} [هود: 48].
وكذلك نادى الحق موسى عليه السلام: {ياموسى إني أَنَا الله} [القصص: 30].
وكذلك نادى الحق عيسى ابن مريم عليه السلام: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116].
كُل الرُّسُل ناداهم الحق بالمُشَخِّص العَلَمي الذي لا يعطي إلا التشخيص، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتم الرُّسُل ما ناداه الله باسمه أبدًا، إنما ناداه الله بالوصف الزائد عن مُشَخَّصات الذات فيقول: {يا أيها الرسول}، ويقول: {يا أيها النبي}.
حقًّا إنّ الجميع رُسُل، ولكنه سبحانه يريد أن يبلغنا أن محمدًا صلّى الله عليه وسلم هو الرسول الذي جاء ناسخًا ومؤمنًا بالكُلّ، هو الذي يستحق النّداء بالوصف الزائد عن مُشَخّصات الذات: {يا أيها الرسول}. وهو الرسول الذي تقوم عليه الساعة. ولذلك نجد خطاب الحق لرسوله دائما: {يا أيها الرسول} أو: {يا أيها النبي}، وهذا نوع من التكريم.
والحق يقول هنا: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر}. أي لا تحزن يا رسول الله من الذين يسارعون في الكفر. وحين يخاطب الحق رسوله في ألا يحزن، علينا أن نعرف على ماذا يكون الحزن؟ سبحانه يوضح لرسوله: إياك أن تحزن لأني معك فلن ينالك شر خصومك ولا يمكن أن أختارك رسولًا وأخْذُلَك، إنهم لن ينالوا منك شيئًا.
وقد يكون حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا من لون آخر، اسمه الحزن المُتَسَامِي الذي قال فيه الحق: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6].
لأن الحق لو شاء أن يجعلهم مؤمنين لما جعل لديهم القدرة على الكفر. {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4].
وهل الله يريد أعناقا؟ لا. بل يريد قلوبًا؛ لأن سيطرة القُدرة بإمكانها أن تفعل ما تريد، بدليل أن السماء والأرض والجبال وكل الكائنات أتت للخالق طائعة. فلا يمكن أن يتأبّى الكون على خالقه. والقدرة أفادت القهر وأفادت السيطرة والعزة والغلبة في سائر الكون، ولكن الله أحَب أن يأتي عبده- وهو السيد- للإيمان مختارًا؛ لأن الإيمان الأول هو إيمان القهر والقدرة، ولكن الإيمان الثاني هو إيمان المحبة.
وقد ضربنا من قبل المثل على ذلك ولنوضحه: هب أن عندك خادمين ربطت أحدهما في سلسلة لأنك إن تركته قليلًا يهرب، وعندما تريده تجذب السلسلة فيأتي، إنه يأتي لسيطرة قُدرتك عليه والقهر منك، أما الخادم الآخر فأنت تتركه حُرًّا ويأتيك من فور النداء. فأيهما أحب إليك؟ لا شك أنك تحب الذي يجيء عن حُب لا عن قهر. وكل أجناس الكون مُسخَّرة بالقدرة، وشاء الحق أن يجعل الإنسان مُختارًا لذلك قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72].
إذن فقد رفضت كل الأجناس حمل الأمانة. خوفا وإشفاقا من أنها قد لا تستطيع القيام بذلك. والحق يقول لرسوله: {لاَ يَحْزُنكَ} فأمّا إذا كان الحزن بسبب الخوف على المنهج منهم، فالحق ينصره ولن يمكنهم منه. وأما إن كان الخوف عليهم فلا؛ لأنه سبحانه خلق الإنسان مختارًا غير مقهور على القيام بتعاليم المنهج، وسبحانه يُحب أن يعرف من يأتيه حُبًا وكرامة.
ويقول الحق لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم: {لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر}.
وهذه رُبوبية التعبير، فنحن نعلم أن السرعة تكون إلى الشيء، لا في الشيء كما قال الحق: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133].
ولكن هنا نجده يقول: {يُسَارِعُونَ فِي الكفر}. ولو قال الحق: «يسارعون إلى الكفر» لكان قد ثبت لهم إيمان وبعد ذلك يذهبون إلى الكُفر، لا. الحق يريد أن يوضح لنا: أنهم يسارعون في دائرة الكفر. ويعلمنا أنهم في البداية في الكفر، ويسارعون إلى كفر أشد. ونعرف أن «في» في القرآن نستطيع أن نضع من أجلها المجلدات. فقد قلنا من قبل قال الله تعالى: {سِيرُواْ فِي الأرض}.
ولم يقل سبحانه سيروا على الأرض.
والحق سبحانه: وتعالى يقول: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].
وهي ليست أموال المخاطبين، ولكنها في الأصل أموال السفهاء. ولكن سبحانه يبلغنا أن السُّفهاء غير مأمونين على المال، ولذلك يأتي الحق بالوصَيَّ والقيّن على المال ويأمره أن يعتبر المال ماله حتى يحافظ عليه. ويأمره بألا يخزن المال ليأكل منه السَّفيه؛ لأن المال إن أكل منه السَّفيه ودفع له الزكاة، قد ينضب وَينْفذ. لذلك قال الحق: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].
ومن بعد ذلك يقول الحق: {وارزقوهم فِيهَا} [النساء: 5].
لم يقل ارزقوهم منها، ذلك أنه سبحانه شاء أن يعلمنا أن الرزق مطمور في رأس المال ويجب أن يتحرك رأس المال في الحياة حتى لا ينقص بالنفقة، وحتى لا تستهلكه الزكاة، وحتى يبلغ السَّفيه رُشده ويجد المال قد نما. هذه بعض من معطيات «في». وهنا آية الصَّلب: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71].
بعض المفسرين يقولون في هذه الآية: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} ونقول: إن الذين قالوا ذلك لم يُفسّروا هذه الآية وكان يجب أن يقولوا في تفسير ذلك:
لأصلبنكم على جذوع النخل تصليبًا قويًا يدخل المصلوب في المصلوب فيه.
ومثال ذلك لو جئنا بعدو ثقاب وربطناه على الأصبع بخيط رفيع وأوثقنا الربط، فعود الثقاب يغوص في الأصبع حتى يصير وكأنه داخل الأصبع. وعندما يقول الحق: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} فيجب ألا نفهم هذا القول إلا على أساس أنه تصليب على جذوع النخل تصليبًا قويًا يُدْخِلُ المصلوب في المصلوب فيه. وتلك هي العِلّة في وجود «في» وعدم وجود «على».
والحق يقول هنا: {لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} فكأن المسارعة إما أن تكون ب «إلى» وإما أن تكون ب «في». فإن كانت ب «إلى» فهي انتقال إلى شيء لم يكن فيه ساعة بدْء السرعة، وإن كانت ب «في» فهي انتقال إلى عمق الشيء الذي كان فيه قبل أن يبدأ المسارعة.
{لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} فالإيمان محلّه القلب، والإسلام محلّه الجوارح؛ ولذلك قال سبحانه: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].
إنهم يسارعون إلى الصف الأول في الصلاة وهذا إسلام، أما الإيمان فمحلّه القلب. إذن فالذين قالوا بأفواههم آمنا، لهم أن يعرفوا أن منطقة الإيمان ليست الأفواه ولكنها القلوب. وهم قالوها بأفواههم وما مرّت على قلوبهم. وماداموا قد قالوا بأفواههم آمنا وما مرّت على قلوبهم فهؤلاء هم المنافقون، ومعنى ذلك أنهم في كل يوم ستظهر منهم أشياء تُدخِلهم في الكفر؛ لأنهم من البداية قد أبطنوا الكفر، وبعد ذلك يسارعون في مجال الكفر.
{مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هَادُواْ} هم إذن صنفان اثنان يسارعان في الكفر؛ المنافقون الذين قالوا بأفواههم آمنا، والذين هادوا. ويصفهم الحق بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} وساعة تسمع مادة «السين والميم والعين» فهذا يعني أن الأذن قد استقبلت صوتًا من مُصَوِّت، هذا المُصوِّت إما أن يكون مُتكلمًا بالكلام الحقّ فيجذ من الأذن الإيمانية استماعًا بإنصات؛ ثم يتعدى الاستماع إلى القبول؛ فيقول المؤمن: أنا استمعت إلى فلان، لا يقصد أنه سمع منه فقط ولكن يقصد أنه سمع وقبل منه ما قال.
إننا نعلم أن كثيرًا من الورعين يسمعون كذبًا، لكن الفيصل هو قبول الكذب أو رفضه. وليس المهم أن يكون الإنسان سامعًا فقط، ولكن أن يصدق ما يسمع. ونرى في الحياة اليومية إنسانًا يريد أن يصلح شيئًا من أثاث منزله فيأتي بالأدوات اللازمة لذلك، ويقال هنا عن هذا الرجل: «نجر فهو ناجر» ولا يقال له: «نجّار»؛ لأن النجار هو من تكون حرفته النّجارة.
إذن كلمة: سامع للكذب لا تؤدي المعنى، ولكن «سمّاع» تؤدي المعنى، أي أن صناعته هي التسمّع، وعندما يقول الحق: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي ألِفُوا أن يقبلوا الكذب. وكيف يكون مزاج من يقبل الكذب؟. لابد أن يكون مزاجًا مريضًا بالفطرة.
وما معنى الكذب هنا ومن هم السمّاعون؟ إما أن يكون المقصود بهم الأحبار والرهبان الذين قالوا لأتباعهم كلامًا غير ذي سندٍ من واقع من أجل الحفاظ على مراكزهم. وإما أن يكونوا سماعين للكذب لا لصالحهم هم، ولكن لصالح قوم آخرين. كأنهم يقومون بالتجسس. والتجسس- كما نعلم- يكون بالعين أو بالأذن. وتقدمت هذه الوسائل في زماننا حتى صار التجسس بالصوت والصورة. وكأن الحق يريد أن يبلغنا أنهم سماعون للكذب، أي أنهم يسمعون لحساب قوم آخرين. والقوم الآخرون الذي يسمعون لهم هم القوم الذين أصابهم الكبر والغرور واستكبروا أن يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم في الوقت نفسه لا يطيقون الانتظار ويريدون معرفة ماذا يقول رسول الله، لذلك يرسلون الجواسيس إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لينقلوا لهم.
أولئك السماعون للكذب هم سماعون لحساب قوم آخرين لم يأتوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبُّرًا. وهؤلاء المتكبرون هم كبار اليهود، وهم لا يذهبون إلى مجلس رسول الله حتى لا يضعف مركزهم أمام أتباعهم. وعندما يُنقَل إليهم الكلام يحاولون تصويره على الغرض الذي يريدون، ولذلك يقول عنهم الحق: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}. أي أنهم يُحرِّفون الكلام بعد أن استقر في مَواضعه ويستخرجونه منها فيهملونه ويزيلونه عن مواضعه بعد ان وضعه الله فيها وذلك بتغيير أحكام الله، وقال الحق فيها أيضًا من قبل ذلك: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} [المائدة: 13].
أي أنهم حَرَّفُوا الكلام قبل أن يستقر. {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} وهم الذين يقولون لأتباعهم من جواسيس الاستماع إلى مجلس رسول الله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا}. فكأنهم أقبلوا على النبي بهذا، فإن أخذوا من رسول الله معنى يستطيعون تحريفه فعلوا. وإن لم يجدوا ما يحرفونه فعليهم الحذر.
ومن دراسة تاريخ القوانين الوضعية نعرف معنى السلطة الزمنية. فالقوانين التي تواضع عليها بشر ليحكموا بها نظام الحياة تأخرت في الظهور إلى الواقع عن نظام الكهنة، فقد كان الكهنة يَدَّعُون أن لهم صلة بالسماء ولذلك كان الحكم لهم، أي أن التقنين في الأصل هو حكم السماء والذي جعل الناس تتجه إلى وضع قوانين خاصة بهم أنهم جربوا الكهنة فوجدوهم يحكمون في قضية ما حُكْمًا. وفي القضية المشابهة يحكمون حُكْمًا آخر.
لقد كان كلام الكهنة مقبولا عندما ادعوا لأنفسهم الانتساب إلى أحكام السماء. لكن عندما تضاربت أحكامهم خرج الناس على أحكام الكهنة ورفضوها لأنفسهم قوانين أخرى.
والحكاية التاريخية توضح لنا ذلك: فقد زَنَى أحد أتباع ملك في العصر القديم وحاولوا أن يقيموا عليه الحد الموجود بالتوراة. لكن الملك قال للكهنة لا أريد أن يُرجَم هذا الرجل وابحثوا عن حكم آخر.