فصل: مَطْلَبٌ فِي وُجُوهِ الرِّشْوَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَثَمَنُ الْمَيْتَةِ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَالِاسْتِجْعَالِ فِي الْقَضِيَّةِ».
فَكَأَنَّهُ جَعَلَ السُّحْتَ اسْمًا لِأَخْذِ مَا لَا يَطِيبُ أَخْذُهُ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: «السُّحْتُ الرُّشَا».
وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: «إنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ، وَإِذَا أَكَلَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ».
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: «بَابَانِ مِنْ السُّحْتِ يَأْكُلُهُمَا النَّاسُ: الرُّشَا وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ».
وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ مِنْ السُّحْتِ».
وَرَوَى أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا».
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ».
وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ جَمِيعُ الْمُتَأَوِّلِينَ لِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ قَبُولَ الرُّشَا مُحَرَّمٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

.مَطْلَبٌ فِي وُجُوهِ الرِّشْوَةِ:

وَالرِّشْوَةُ تَنْقَسِمُ إلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي جَمِيعًا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» وَالرَّائِشُ وَهُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَرْشُوَهُ لِيَقْضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ أَوْ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، فَإِنْ رَشَاهُ لِيَقْضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ فَقَدْ فَسَقَ الْحَاكِمُ بِقَبُولِ الرِّشْوَةِ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَاسْتَحَقَّ الرَّاشِي الذَّمَّ حِينَ حَاكَمَ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِحَاكِمٍ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْعَزَلَ عَنْ الْحُكْمِ بِأَخْذِهِ الرِّشْوَةَ، كَمَنْ أَخَذَ الْأُجْرَةَ عَلَى أَدَاءِ الْفُرُوضِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ.
وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ وَأَنَّهَا مِنْ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَفْعُولًا عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، كَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ؛ وَلَوْ كَانَ أَخْذُ الْأَبْدَالِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ جَائِزًا لَجَازَ أَخْذُ الرُّشَا عَلَى إمْضَاءِ الْأَحْكَامِ، فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَخْذَ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأَبْدَالِ عَلَى الْفُرُوضِ وَالْقُرَبِ.
وَإِنْ أَعْطَاهُ الرِّشْوَةَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِبَاطِلٍ فَقَدْ فَسَقَ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَخْذُ الرِّشْوَةِ، وَالْآخَرُ: الْحُكْمُ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ وَكَذَلِكَ الرَّاشِي.
وَقَدْ تَأَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ السُّحْتَ عَلَى الْهَدِيَّةِ فِي الشَّفَاعَةِ إلَى السُّلْطَانِ، وَقَالَ: «إنْ أَخْذَ الرُّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ كُفْرٌ».
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ: «الرُّشَا مِنْ السُّحْتِ».
وَأَمَّا الرِّشْوَةُ فِي غَيْرِ الْحُكْمِ، فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ فِي الْهَدِيَّةِ إلَى الرِّجْلِ لِيُعِينَهُ بِجَاهِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا لِأَنَّ عَلَيْهِ مَعُونَتَهُ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ اللَّهُ فِي عَوْنِ الْمَرْءِ مَا دَامَ الْمَرْءُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الرِّشْوَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْشُو السُّلْطَانَ لِدَفْعِ ظُلْمِهِ عَنْهُ، فَهَذِهِ الرِّشْوَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى آخِذِهَا غَيْرُ مَحْظُورَةٍ عَلَى مُعْطِيهَا.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: «لَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إذَا خَافَ الظُّلْمَ» وَعَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ مِثْلُهُ.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» قَالَ الْحَسَنُ: «لِيُحِقَّ بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلَ حَقًّا، فَأَمَّا أَنْ تَدْفَعَ عَنْ مَالِك فَلَا بَأْسَ».
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ: «لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ مَا يَصُونُ بِهِ عِرْضَهُ».
وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «اجْعَلْ مَالَك جُنَّةً دُونَ دِينِك وَلَا تَجْعَلْ دِينَك جُنَّةً دُونَ مَالِك».
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: «لَمْ نَجِدْ زَمَنَ زِيَادٍ شَيْئًا أَنْفَعَ لَنَا مِنْ الرُّشَا».
فَهَذَا الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ السَّلَفُ إنَّمَا هُوَ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يُرِيدُ ظُلْمَهُ أَوْ انْتِهَاكَ عِرْضِهِ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ وَأَعْطَى تِلْكَ الْعَطَايَا الْجَزِيلَةَ، أَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ شَيْئًا، فَسَخِطَهُ فَقَالَ شِعْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ: اقْطَعُوا عَنَّا لِسَانَهُ فَزَادُوهُ حَتَّى رَضِيَ».
وَأَمَّا الْهَدَايَا لِلْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ كَرِهَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُهْدِي خَصْمٌ وَلَا حُكُومَةٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ «فِي قِصَّةِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ نَسْتَعْمِلُهُمْ عَلَى مَا وَلَّانَا اللَّهُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ فَنَظَرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا».
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ وَهَدَايَا الْأُمَرَاءِ سُحْتٌ».
وَكَرِهَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ، فَقِيلَ لَهُ: «إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا»، فَقَالَ: كَانَتْ حِينَئِذٍ هَدِيَّةً وَهِيَ الْيَوْمَ سُحْتٌ.
وَلَمْ يَكْرَهْ مُحَمَّدٌ لِلْقَاضِي قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ مِنْهَا مَا أُهْدِيَ لَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَاضٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُهْدَ لَهُ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا» فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا أُهْدِيَ لَهُ لِأَنَّهُ عَامِلٌ، وَلَوْلَا أَنَّهُ عَامِلٌ لَمْ يُهْدَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ؛ وَأَمَّا مَنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُهْدِهِ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ، فَجَائِزٌ لَهُ قَبُولُهُ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَقْبَلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بِنْتَ مَلِكِ الرُّومِ أَهْدَتْ لِأُمِّ كُلْثُومَ بِنْتِ عَلِيٍّ امْرَأَةِ عُمَرَ، فَرَدَّهَا عُمَرُ وَمَنَعَ قَبُولَهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ظَاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْلِيَتُهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمْ، وَالثَّانِي: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْإِعْرَاضِ إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْنَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَقَاءِ هَذَا الْحُكْمِ، فَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: «إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْنَا فَإِنْ شَاءَ الْحَاكِمُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَرَدَّهُمْ إلَى دِينِهِمْ».
وَقَالَ آخَرُونَ: «التَّخْيِيرُ مَنْسُوخٌ، فَمَتَى ارْتَفَعُوا إلَيْنَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ».
فَمِمَّنْ أَخَذَ بِالتَّخْيِيرِ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ إلَيْنَا الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ رِوَايَةً؛ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: «خَلُّوا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ حَاكِمِهِمْ، وَإِذَا ارْتَفَعُوا إلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا عَلَيْهِمْ مَا فِي كِتَابِكُمْ».
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: آيَةُ الْقَلَائِدِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا إنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ فَرَدَّهُمْ إلَى أَحْكَامِهِمْ، حَتَّى نَزَلَتْ: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ».
وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قَالَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قَالَ: نَسَخَتْهَا: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نَاسِخٌ لِلتَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِتَوَارِيخِ نُزُولِ الْآيِ لَا يُدْرَكُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ أَثْبَتَ التَّخْيِيرَ إنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَإِنَّ التَّخْيِيرَ نَسَخَهُ.
وَإِنَّمَا حُكِيَ عَنْهُمْ مَذَاهِبُهُمْ فِي التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ النَّسْخِ، فَثَبَتَ نَسْخُ التَّخْيِيرِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} كَرِوَايَةِ مَنْ ذَكَرَ نَسْخَ التَّخْيِيرِ.
وَيَدُلُّ عَلَى نَسْخِ التَّخْيِيرِ قَوْلُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} الْآيَاتِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَحْكُمْ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ الَّتِي اخْتَصَمُوا فِيهَا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ إنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} مَنْسُوخًا إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ رَوَاهُ مَنْصُورٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نَسَخَهَا مَا قَبْلَهَا: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قَبْلَ أَنْ تُعْقَدَ لَهُمْ الذِّمَّةُ يَدْخَلُوا تَحْتَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِالْجِزْيَةِ فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ أَمَرَ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَيَكُونُ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ثَابِتًا: التَّخْيِيرُ فِي أَهْلِ الْعَهْدِ الَّذِينَ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ إذَا هَادَنَّاهُمْ وَإِيجَابُ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الدِّيَةِ بَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ لَهُمْ شَرَفٌ يُدَوْنَ دِيَةً كَامِلَةً، وَأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ يُودَوْنَ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحَمَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ قَطُّ، وَقَدْ أَجْلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ ذِمَّةٌ لَمَا أَجْلَاهُمْ وَلَا قَتَلَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَهُدْنَةٌ فَنَقَضُوهَا.
فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ نَزَلَتْ فِيهِمْ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا بَاقِيًا فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَحُكْمُ الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَابِتًا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَسْخٌ.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَائِغٌ لَوْلَا مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ نَسْخِ التَّخْيِيرِ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَعَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ حِينَ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ، وَإِنَّمَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ طَلَبًا لِلرُّخْصَةِ وَزَوَالِ الرَّجْمِ، فَصَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ مِدْرَاسِهِمْ وَوَقَفَهُمْ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَعَلَى كَذِبِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا».
وَقَالَ أَصْحَابُنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ مَحْمُولُونَ فِي الْبُيُوعِ وَالْمَوَارِيثِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمِينَ، إلَّا فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ مُقَرُّونَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَالًا لَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ مُبَايَعَتُهُمْ وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا وَالِانْتِفَاعُ بِهَا لَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالًا لَهُمْ وَلَمَا وَجَبَ عَلَى مُسْتَهْلِكِهَا عَلَيْهِمْ ضَمَانٌ.