فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

في قوله: {سماعون لِلْكَذِبِ أكالون لِلسُّحْتِ} وجوه:
الأول: قال الحسن كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلًا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه، فكان يسمع الكذب ويأكل السحت.
الثاني: قال بعضهم: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالًا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم.
الثالث: سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة، أكالون للربا لقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الربا} [النساء: 161]. اهـ.
وقال الفخر:
قوله تعالى: {فإن جَاءوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}
إنه تعالى خيّره بين الحكم فيهم والاعراض عنهم، واختلفوا فيه على قولين:
الأول: أنه في أمر خاص، ثم اختلف هؤلاء، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري: أنه في زنا المحصن وأن حده هو الجلد والرجم.
الثاني: أنه في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير، وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم دية كاملة، وفي قريظة نصف دية، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء.
الثالث: أن هذا التخيير مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم، فإن شاء حكم فيهم وإن شاء أعرض عنهم.
القول الثاني: أن الآية عامة في كل من الكفار، ثم اختلفوا فمنهم من قال الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ، وهو قول النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم، ومنهم من قال: إنه منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 49] وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة.
ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارًا لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك، وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين. اهـ.

.قال الثعلبي:

واختلفوا في حكم هذه الآية هل هو ثابت وهل للحكّام اليوم من الخيار في الحكم من أهل الذّمة إذا اختلفوا إليهم، مثل ما جعل اللّه لنبيه صلى الله عليه وسلم أم هو منسوخ؟
فقال أكثر العلماء: هو حكم ثابت لم ينسخه شيء وحكام الإسلام بالخيار وذلك إن شاؤا بين أهل الكتاب وجميع أهل الذّمة، فإن شاؤا أعرضوا ولم يحكموا بينهم وإن حكموا يحكموا بحكم أهل الإسلام. هو قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] هو جريان حكمنا عليهم. وهذا قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة. وقال آخرون هو منسوخ نسخه قوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} وإليه ذهب الحسن ومجاهد وعكرمة والسدّي. وروى ذلك ابن عباس قال: لم ينسخ من المائدة إلاّ هاتان الآيتان وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} [المائدة: 2] نسختها {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها {أَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 49].
فأما إقامة الحدود عليهم فأهل العراق يرون إقامة الحدود عليهم إلاّ إنهم لا يرون الرجم وقالوا: لأنهم غير محصنين وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين أنه رجمهما بكتابهم التوراة لما اتفقوا على رضاهم بحكم التوراة ثم أنكروا الرجم، فكان في التوراة فأخفوا وأظهر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ذلك ما كتموه. وأهل الحجاز لا يرون إقامة الحدود عليهم ويظهرون إلى أنهم صولحوا على شركهم. وهو أعظم من الحدود التي يأتون وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين أن ذلك قبل أن يؤخذ عنهم الجزية إلاّ أن على الإمام أن يمنعهم من المظالم والفساد فأما إذا كان أحد الطرفين مسلمًا مثل أن يزني رجل من أهل الذّمة بمسلمة أو سرق من مسلم أقيم عليه الحد وحكم عليه بحكم الإسلام. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} هذا تخيير من الله تعالى؛ ذكره القشيري؛ وتقدّم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود.
ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا.
فأما أهل الذّمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟ قولان للشافعي؛ وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم.
قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي.
واختلفوا في الذميين؛ فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخيّر؛ روى ذلك عن النَّخَعي والشَّعْبي وغيرهما، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، سوى ما روى عن مالك في ترك إقامة الحدّ على أهل الكتاب في الزنى؛ فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حدّ ولا حدّ عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حدّ عليهما؛ وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما.
وقد روى عن أبي حنيفة أيضًا أنه قال: يجلدان ولا يرجمان.
وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحدّ أن أتيا راضيين بحكمنا.
قال ابن خُوَيْزِ مَندَاد: ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يُحضِر الخصمَ مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردّهم إلى حكامهم.
فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام.
وأما إجبارهم على حكم المسلمين فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم؛ لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم؛ ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا؛ ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارًا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات؛ لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين.
وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات؛ لأن فيها وجهًا من المظالم وقطع الفساد.
والله أعلم.
وفي الآية قول ثان: وهو ما روى عن عمر بن عبدالعزيز والنَّخَعي أيضًا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 49] وأن على الحاكم أن يحكم بينهم؛ وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم.
وروى عن عِكرمة أنه قال: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها آية أُخرى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله}.
وقال مجاهد: لم يُنسَخ من «المائدة» إلا آيتان؛ قوله: {فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله}؛ وقوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} [المائدة: 2] نسختها {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال الزُّهْري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله.
قال السَّمَرْقَنْدي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا.
وقال النحاس في «الناسخ والمنسوخ» له قوله تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردّوا إلى أحكامهم، فلما قوى الإسلام أنزل الله عز وجل: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله}.
وقاله ابن عباس ومجاهد وعِكرمة والزُّهري وعمر بن عبدالعزيز والسُّدي؛ وهو الصحيح من قول الشافعي؛ قال في كتاب الجزية: ولا خيار له إذا تحاكموا إليه؛ لقوله عز وجل: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أن تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردّوا إلى أحكامهم؛ فإذا وجب هذا فالآية منسوخة.
وهو أيضًا قول الكوفيين أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم.
وقال الباقون: يحكم؛ فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس؛ ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب أذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركًا فرضًا، فاعلًا ما لا يحل له ولا يسعه.
قال النحاس: ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر؛ منهم من يقول: على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدًا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ} يحتمل أمرين: أحدهما وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك.
والآخر وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك إذا علمت ذلك منهم قالوا: فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا؛ فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاءِ للَّهِ} [النساء: 135].
وأما ما في السنة فحديث البَرَاء بن عازب قال: مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جُلِد وحُمِّم فقال: «أهكذا حدّ الزاني عندكم» فقالوا: نعم.
فدعا رجلًا من علمائهم فقال: «سألتك بالله أهكذا حدّ الزاني فيكم فقال: لا» الحديث وقد تقدّم.
قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث.
فإن قال قائل: ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ قيل له: ليس في حديث مالك أيضًا أن الذين زنيا رضِيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمر بن عبدالبر: لو تدبر من احتج بحديث البَرَاء لم يحتج؛ لأن في دَرْج الحديث تفسير قوله عز وجل: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} يقول: إن أفتاكم بالجلد والتّحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حكّموه.
وذلك بيّن في حديث ابن عمر وغيره.
فإن قال قائل: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حَكَّما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه.
قيل له: حدّ الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته.
ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حَكَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد خيّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم والإعراض عنهم.
ووجه التخيير تعارض السببين؛ فسبب إقامة العدل يقتضي الحكمَ بينهم، وسبب معاملتهم بنقيض قصدهم من الاختبار أو محاولة مصادفة الحكم لهواهم يقتضي الإعراض عنهم لئلاّ يعرّض الحكم النبوي للاستخفاف.
وكان ابتداء التخيير في لفظ الآية بالشقّ المقتضي أنّه يحكم بينهم إشارة إلى أنّ الحكم بينهم أولى.
ويؤيّده قوله بعد {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ الله يحبّ المقسطين}. اهـ.