فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ...} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا تحاكم إليه أهل الكتاب مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهى قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...} الآية.
والجواب أن قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} ناسخ لقوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن اسلم وعطاء الخراساني وغير واحد قاله ابن كثير.
وقيل معنى {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي إذا حكمت بينهم فاحكم بما أنزل الله لا باتباع الهوى، وعليه فالأولى محكمة والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا}
المعنى: أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف، كالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له، فبيّن الله تعالى أنه لا تضره عداوتهم له. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {وإن تُعرض عنهم فلن يضرّوك شيئًا} فذلك تطمين للنّبيء صلى الله عليه وسلم لئلاّ يقول في نفسه: كيف أعرض عنهم، فيتّخذوا ذلك حجّة علينا.
يقولون: ركنّا إليكم ورضينا بحكمكم فأعرضتم عنّا فلا نسمع دعوتكم من بعد.
وهذا ممّا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه يؤول إلى تنفير رؤسائِهم دهماءَهم من دعوة الإسلام فطمّنه الله تعالى بأنّه إنْ فعل ذلك لا تنشأ عنه مضرّة.
ولعلّ في هذا التطمين إشعارًا بأنّهم لا طمع في إيمانهم في كلّ حال.
وليس المراد بالضرّ ضرّ العداوة أو الأذى لأنّ ذلك لا يهتمّ به النّبيء صلى الله عليه وسلم ولا يخشاه منهم، خلافًا لما فسّر به المفسّرون هنا.
وتنكير {شيئًا} للتحقير كما هو في أمثاله، مثل {فلَن تملك له من الله شيئًا} وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة لأنّه في نية الإضافة إلى مصدر، أي شيئًا من الضرّ، فهو نائب عن المصدر.
وقد تقدّم القول في موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: {ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع} في سورة البقرة (155).
والآية تقتضي تخيير حكّام المسلمين في الحكم بين أهل الكتاب إذا حكّموهم؛ لأنّ إباحة ذلك التخيير لغير الرسول من الحكّام مساو إباحته للرسول.
واختلف العلماء في هذه المسألة وفي مسألة حكم حكّام المسلمين في خصومات غير المسلمين.
وقد دلّ الاستقراء على أنّ الأصل في الحكم بين غير المسلمين إذا تنازع بعضهم مع بعض أن يحكم بينهم حكّام ملّتهم، فإذا تحاكموا إلى حكّام المسلمين فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكلّ ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنّه يجب الحكم بينهم «وعلى هذا فالتخيير الذي في الآية مخصوص بالإجماع».
وإن لم يكن كذلك كالنزاع في الطلاق والمعاملات.
فمن العلماء من قال: حكم هذا التخيير مُحْكم غير منسوخ، وقالوا: الآية نزلت في قصّة الرجم «الّتي رواها مالك في الموطأ والبخاري ومن بعده» وذلك أنّ يهوديًا زنى بامرأة يهوديّة، فقال جميعهم: لنسأل محمّدًا عن ذلك.
فتحاكموا إليه، فخيّره الله تعالى.
واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم: كان اليهود بالمدينة يومئذٍ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلًا تحت ذمّة الإسلام، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم.
وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فَدَك وهما يومئذٍ من دار الحرب في موادعة.
وقال الجمهور: هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضًا.
وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي.
قال مالك: الأعراض أولى.
وقيل: لا يحكم بينهم في الحدود، وهذا أحد قولي الشافعي.
وقيل: التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]، وهو قول أبي حنيفة، وقاله ابن عبّاس، ومجاهد، وعكرمة، والسديّ، وعمر بن عبد العزيز، والنخَعي، وعطاء، الخراساني، ويبعده أنّ سياق الآيات يقتضي أنّها نزلت في نسق واحد فيبعد أن يكون آخرها نسخًا لأوّلها. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي فاحكم بينهم بالعدل والاحتياط كما حكمت بالرجم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} روى النسائي عن ابن عباس قال كان قُرَيْظة والنَّضير، وكان النَّضير أشرف من قُرَيظة وكان إذا قتل رجل من قُرَيظة رجلًا من النَّضير قُتِل به، وإذا قَتل رجل من النِّضير رجلًا من قُرَيظة ودي مائة وسقٍ من تَمر؛ فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتَل رجل من النَّضير رجلًا من قُرَيظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله؛ فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} النفس بالنفس، ونزلت {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50]. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط} أي بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال: لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم إن صح يراد منه لازم المعنى {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وإنْ حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط} أي بالعدل.
والعدل: الحكم الموافق لشريعة الإسلام.
وهذا يحتمل أنّ الله نهى رسوله عن أن يحكم بينهم بما في التّوراة لأنّها شريعة منسوخة بالإسلام.
وهذا الّذي رواه مالك.
وعلى هذا فالقصّة الّتي حكّموا فيها رسول الله لم يحكم فيها الرسول على الزانيين ولكنّه قَصَر حكمه على أن بيّن لليهود حقيقة شرعهم في التّوراة، فاتّضح بطلان ما كانوا يحكمون به لعدم موافقته شرعهم ولا شرْع الإسلام؛ فهو حُكم على اليهود بأنّهم كتموا.
ويكون مَا وقع في حديث «الموطأ» والبخاري: أنّ الرجل والمرأة رُجما، إنّما هو بحكم أحبارهم.
ويحتمل أنّ الله أمره أن يحكُم بينهم بما في التّوراة لأنّه يوافق حكم الإسلام؛ فقد حكم فيه بالرجم قبل حدوث هذه الحادثة أو بعدها.
ويحتمل أنّ الله رخّص له أن يحكم بينهم بشرعهم حين حكَّموه.
وبهذا قال بعض العلماء فيما حكاه القرطبي.
وقائل هذا يقول: هذا نُسخ بقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]، وهو قول جماعة من التّابعين.
ولا داعي إلى دعوى النسخ، ولعلّهم أرادوا به ما يشمل البيان، كما سنذكره عند قوله: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 48].
والّذي يستخلص من الفقه في مسألة الحكم بين غير المسلمين دون تحكيم: أنّ الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم.
ولذلك فالأمور الّتي يأتونها تنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأوّل: ما هو خاصّ بذات الذمّيّ من عبادته كصلاته وذبحه وغيرها ممّا هو من الحلال والحرام.
وهذا لا اختلاف بين العلماء في أنّ أئمّة المسلمين لا يتعرّضون لهم بتعطيله إلاّ إذا كان فيه فساد عامّ كقتل النّفس.
القسم الثّاني: ما يجري بينهم من المعاملات الراجعة إلى الحلال والحرام في الإسلام، كأنواع من الأنكحة والطلاق وشرب الخمر والأعمال الّتي يستحلّونها ويحرّمها الإسلام.
وهذه أيضًا يقرّون عليها، قال مالك: لا يقام حَدّ الزنا على الذميّين، فإن زنى مسلم بكتابية يحدّ المسلم ولا تحدّ الكتابية.
قال ابن خُويز منداد: ولا يُرسل الإمام إليهم رسولًا ولا يُحضِر الخصمَ مجلسه.
القسم الثّالث: ما يتجاوزهم إلى غيرهم من المفاسد كالسرقة والاعتداء على النفوس والأعراض.
وقد أجمع علماء الأمّة على أنّ هذا القسم يجري على أحكام الإسلام، لأنّا لم نعاهدهم على الفسادِ، وقد قال تعالى: {والله لا يحبّ الفساد} [البقرة: 205]، ولذلك نمنعهم من بيع الخمر للمسلمين ومن التظاهر بالمحرّمات.
القسم الرّابع: ما يجري بينهم من المعاملات الّتي فيها اعتداء بعضهم على بعض: كالجنايات، والديون، وتخاصم الزوجين.
فهذا القسم إذا تراضوا فيه بينهم لا نتعرّض لهم، فإن استعدى أحدهم على الآخر بحاكم المسلمين.
فقال مالك: يقضي الحاكم المسلم بينهم فيه وجوبًا، لأنّ في الاعتداء ضربًا من الظلم والفساد، وكذلك قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمّد، وزفر.
وقال أبو حنيفة: لا يَحكم بينهم حتّى يتراضى الخصمان معًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} أي: وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين.
والقسط: هو المبين في قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالقسط، فهو أمر معناه الخبر أي: فحكمك لا يقع إلا بالعدل، لأنك معصوم من اتباع الهوى.
{إن الله يحب المقسطين} وأنت سيدهم، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم.
وفيه حث على توخي القسط وإيثاره، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به. اهـ.