فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر. وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. قال القشيري: ومذهب الخوارج أن من ارتشى، وحكم بحكم غير الله فهو كافر، وعزا هذا إلى الحسن والسدي، وقال الحسن أيضًا: أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنًا قليلًا، انتهى كلام القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية {هُمُ الكافرون} نازلة في المسلمين، لأنه تعالى قال قبلها مخاطبًا لمسلمي. هذه الأُمة {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: 44]، ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلًا له، أو قاصدًا به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.
أما من حكم بغير حكم الله، وهو عالم أنه مرتكب ذنبًا فاعل قبيحًا، وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين، وسياق القرآن ظاهر أيضًا في أن آية {فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45] في اليهود لأنه قال قبلها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45].
فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضًا في أن آية {فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47].
واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مرادًا به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله} معارضةً للرُّسل وإبطالًا لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله} معتقدًا أنه مرتكب حرامًا فاعل قبيحًا فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة، وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

قالت الخوارج: كل من عصى الله فهو كافر.
وقال جمهور الأئمة: ليس الأمر كذلك، أما الخوارج فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله، فوجب أن يكون كافرًا.
وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة: الأول: أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم، وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال: المراد ومن لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهذا أيضًا ضعيف لأن قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} كلام أدخل فيه كلمة {مِنْ} في معرض الشرط، فيكون للعموم.
وقول من يقول: المراد ومن لم يحكم بما أنزل الله من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز.
الثاني: قال عطاء: هو كفر دون كفر.
وقال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر، فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين، وهو أيضًا ضعيف، لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين.
والثالث: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلًا يضاهي أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين، وهذا ضعيف أيضًا لأنه عدول عن الظاهر.
والرابع: قال عبد العزيز بن يحيى الكناني: قوله: {بِمَا أنزَلَ الله} صيغة عموم، فقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله، أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم الله إلاّ في القليل، وهو العمل، أما في الاعتقاد والاقرار فهو موافق، وهذا أيضًا ضعيف لأنه لو كانت هذه الآية وعيدًا مخصوصًا بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم، وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم، فيدل على سقوط هذا الجواب، والخامس: قال عكرمة: قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} لفظ من من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة، بل بكل من ولي الحكم؛ وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب؛ وقيل بالكفار مطلقًا لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبير؛ وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله، وقع استخفافًا، أو استحلالًا، أو جحدًا، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله: {هُمُ الكافرون}. اهـ.

.قال السعدي:

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزلَ اللَّهُ} من الحق المبين، وحكم بالباطل الذي يعلمه، لغرض من أغراضه الفاسدة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه. وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله: {فلا تخشوا النّاس واخشون}، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تُخالَف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس، ويجوز أن يكون كلامًا مستأنفًا عقّبت به تلك العظات الجليلة.
وعلى الوجهين فالمقصود اليهودُ وتحذير المسلمين من مثل صنعهم.
ومن الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله: {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا}، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومَة عندهم.
والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق.
ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر.
وقد اقتضى هذا قضيتين:
إحداهما: كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافرًا، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافرًا؛ والثّانية: قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله.
فأمَّا القضيةُ الأولى: فالّذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا.
لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم.
وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة.
وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مُجملة، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب، ومساق الآية يبيّن إجمالها.
ولذلك قال جمهور العلماء: المراد بمن لم يحكم هنا خصوصَ اليهود، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجَه مسلم في صحيحه.
فعلى هذا تكون من موصولة، وهي بمعنى لام العهد.
والمعنى عليه: ومن ترك الحكم بما أنزل الله تَركا مثل هذا التّرك، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته.
وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى؛ فيكون القَصر إدّعائيًا وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلًا لها؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلًا للخبر.
وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إنْ سألتَ عن الكافرين فهم هُم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع.
وقال جماعة: المراد من لم يحكم بما أنزل الله مَن ترك الحكم به جحدًا له، أو استخفافًا به، أو طعنًا في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله، سمِعه المكلّف بنفسه.
وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عبّاس، ومجاهد، والحسن، ف {من} شرطية وتركُ الحكم مُجمَل بيانُه في أدلّة أخر.
وتحت هذا حالة أخرى، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تُقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخلُ تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات، ولاسيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية.
وأعظمُ منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمورِ، وهو مراتب متفاوتة، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله.
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكُفر؛ فقيل عُبّر بالكفر عن المعصيّة، كما قالت زوجة ثابت بن قيس: أكره الكُفر في الإسلام. أي الزّنى، أي قد فعل فعلًا يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين، وروى هذا عن ابن عبّاس.
وقال طاوس: هو كفر دونَ كفر وليس كفرًا ينقل عن الإيمان.
وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصيّة، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعًا في دلالته على الحكم، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير.
وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين.
وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّمون فيما شجر بينهم} [النساء: 65] الآية وبيّنّا وجوهه، وسيأتي في قوله تعالى: {وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} إلى قوله: {بل أولئك هم الظّالمون} في سورة النّور (48 50).
وأمّا القضيّة الثّانية: فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم المعبّر عنه مجازًا بالكفر، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام.
واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله.
وهذا تأويل ثالث في الآية، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره، بأنّ ترك الحكم بين النّاس، أو دَعا إلى الصلح، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم، وإلاّ للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم، وكفرُ كلّ من ليس بحاكم.
فالمعنى: ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله. اهـ.