فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالُوا: إنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَنْفِ إذَا قَطَعَ الْمَارِنَ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ وَنَزَلَ عَنْ قَصَبَةِ الْأَنْفِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي الْأَنْفِ إذَا اُسْتُوْعِبَ الْقِصَاصَ، وَكَذَلِكَ الذَّكَرُ وَاللِّسَانُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: «لَا قِصَاصَ فِي الْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ إذَا اُسْتُوْعِبَ».
وقَوْله تَعَالَى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهَا إذَا اُسْتُوْعِبَتْ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ، وَإِذَا قَطَعَ بَعْضَهَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: «فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ يُسْتَطَاعُ وَيُعْرَفُ قَدْرُهُ».
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا السِّنِّ، فَإِنْ قُلِعَتْ أَوْ كُسِرَ بَعْضُهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ، لِإِمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ، إنْ كَانَ الْجَمِيعَ فَبِالْقَلْعِ كَمَا يُقْتَصُّ مِنْ الْيَدِ مِنْ الْمَفْصِلِ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْضَ فَإِنَّهُ يُبْرَدُ بِمِقْدَارِهِ بِالْمِبْرَدِ، فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْعِظَامِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ؛ وَقَدْ اقْتَضَى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَنْ يُؤْخَذَ الْكَبِيرُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِصَغِيرِهَا، وَالصَّغِيرُ بِالْكَبِيرِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ مُقَابِلًا لِمَا جُنِيَ عَلَيْهِ لَا غَيْرِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يَعْنِي إيجَابَ الْقِصَاصِ فِي سَائِرِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا.
وَدَلَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ فِيمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يَقْتَضِي أَخْذَ الْمِثْلِ سَوَاءً، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ فَلَيْسَ بِقِصَاصٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ، مِنْهَا الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: «لَا تُؤْخَذُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى لَا فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي الْيَدِ، وَلَا تُؤْخَذُ السِّنُّ إلَّا بِمِثْلِهَا مِنْ الْجَانِي».
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ «تُفْقَأُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى وَالْيُسْرَى بِالْيُمْنَى وَكَذَلِكَ الْيَدَانِ، وَتُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ بِالضِّرْسِ وَالضِّرْسُ بِالثَّنِيَّةِ».
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: «إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ كَفٍّ فَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاطِعِ مِنْ تِلْكَ الْكَفِّ أُصْبُعٌ مِثْلُهَا قُطِعَ مِمَّا يَلِي تِلْكَ الْأُصْبُعَ، وَلَا يُقْطَعُ أُصْبُعُ كَفٍّ بِأُصْبُعِ كَفٍّ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ تُقْلَعُ السِّنُّ الَّتِي تَلِيهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلْقَاطِعِ سِنٌّ مِثْلُهَا وَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ الْأَضْرَاسَ، وَتُفْقَأُ الْعَيْنُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ يُمْنَى، وَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى وَلَا الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعُضْوُ مِنْ الْجَانِي بَاقِيًا، لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَعْدُو مَا قَابَلَهُ مِنْ عُضْوِ الْجَانِي إلَى غَيْرِهِ مِمَّا بِإِزَائِهِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلَى آخَرِ الْآيَةِ اسْتِيفَاءُ مِثْلِهِ مِمَّا يُقَابِلُهُ مِنْ الْجَانِي، فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِثْلُهُ مَوْجُودًا مِنْ الْجَانِي أَوْ مَعْدُومًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْدُوَ الْيَدَ إلَى الرِّجْلِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ أَنْ تَكُونَ يَدُ الْجَانِي مَوْجُودَةً أَوْ مَعْدُومَةً فِي امْتِنَاعِ تَعَدِّيهِ إلَى الرِّجْلِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِصَاصَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مُمَاثَلَةً، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَوْعِبَهَا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْيَدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ وَأَنَّ الشَّلَّاءَ تُؤْخَذُ بِالصَّحِيحَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَفِي أَخْذِ الصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ اسْتِيفَاءٌ أَكْثَرُ مِمَّا قَطَعَ؛ وَأَمَّا أَخْذُ الشَّلَّاءِ بِالصَّحِيحَةِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْقِصَاصِ فِي الْعَظْمِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: «لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ مَا خَلَا السِّنَّ».
وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِيَا السِّنَّ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: عِظَامُ الْجَسَدِ كُلُّهَا فِيهَا الْقَوَدُ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا مُجَوَّفًا مِثْلَ الْفَخِذِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْهَاشِمَةِ قَوَدٌ وَكَذَلِكَ الْمُنَقِّلَةُ، وَفِي الذِّرَاعَيْنِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ وَالْأَصَابِعِ إذَا كُسِرَتْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: «لَيْسَ فِي الْمَأْمُومَةِ قِصَاصٌ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ فِي عَظْمِ الرَّأْسِ كَذَلِكَ سَائِرُ الْعِظَامِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْعِظَامِ.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ اقْتَصَّ مِنْ مَأْمُومَةٍ، فَأُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُنْكِرِينَ كَانُوا الصَّحَابَةَ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ أُذُنَهُ فَيَبِسَتْ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ أُذُنَهُ حَتَّى تَيْبَسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ؛ فَكَذَلِكَ الْعِظَامُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ رِوَايَةً وَالشَّعْبِيِّ رِوَايَةً: «أَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ وَلِلْمَجْرُوحِ إذَا عَفَوَا».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ رِوَايَةً وَالشَّعْبِيُّ رِوَايَةً: «هُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَانِي» كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَوْفِي لِحَقِّهِ، وَيَكُونُ الْجَانِي كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ تَابَ مِنْ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ فَعُقُوبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فِيمَا ارْتَكَبَ مِنْ نَهْيِهِ قَائِمَةٌ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى رَاجِعٌ إلَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} فَالْكَفَّارَةُ وَاقِعَةٌ لِمَنْ تَصَدَّقَ، وَمَعْنَاهُ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}.
فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ النُّزُولِ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ، قَالُوا: يَا مُحَمَّد: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إخْوَاننَا بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ دَمٌ، وَكَانَتْ النَّضِيرُ تَتَعَزَّزُ عَلَى قُرَيْظَةَ فِي دِمَائِهَا وَدِيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالُوا: لَا نُطِيعُك فِي الرَّجْمِ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِحُدُودِنَا الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا، فَنَزَلَتْ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وَنَزَلَتْ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى: فَمَا بَالُهُمْ يُخَالِفُونَ فَيَقْتُلُونَ النَّفْسَيْنِ بِالنَّفْسِ وَيَفْقَئُونَ الْعَيْنَيْنِ بِالْعَيْنِ؛ وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ الْقِصَاصُ خَاصَّةً، فَشَرَّفَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَةَ بِالدِّيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ.
قَالَتْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.
وَقُلْنَا نَحْنُ لَهُ: هَذِهِ الْآيَةُ، إنَّمَا جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ، وَنَفْسًا بِنَفْسٍ، وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ أَحْوَالِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فَلَيْسَ لَهُ تَعَرُّضٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا سِيقَتْ الْآيَةُ لَهُ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ الْأَلْفَاظُ عَلَى الْمَقَاصِدِ.
جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا عُمُومٌ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَبُ مِنْ بَعْضٍ؛ «عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: لَا، إلَّا مَا فِي هَذَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ، وَإِذَا فِيهِ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ».
جَوَابٌ ثَالِثٌ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}.
وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فَاقْتَضَى لَفْظُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِر؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ مَوْجُودٌ بِهِ، فَلَا تَسْتَوِي نَفْسٌ مُبِيحُهَا مَعَهَا مَعَ نَفْسٍ قَدْ تَطَهَّرَتْ عَنْ الْمُبِيحَاتِ، وَاعْتَصَمَتْ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِصَمِ.
وَقَدْ ذَكَر بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نُكْتَةً حَسَنَةً، قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ تَعَادُلُ نَفْسًا؛ فَإِذَا الْتَزَمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي مِلَّتِنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنَّا تُقَابِلُ نَفْسًا، فَأَمَّا مُقَابَلَةُ كُلِّ نَفْسٍ مِنَّا بِنَفْسٍ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ، وَلَا مِنْ مَوَارِدِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ خَاصَّةً.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يُوجِبُ ذَلِكَ أَخْذَ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَخْذَ أَطْرَافِهِ بِأَطْرَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا.
وَنَخُصُّ هَذَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ السَّلَامَةِ فِي الْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرَيْنِ: إنَّ نَقْصَ الرِّقِّ الْبَاقِيَ فِي الْعَبْدِ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنْ السِّلَعِ يَصْرِفُهُ الْحُرُّ كَمَا يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يُوجِبُ قَتْلَ الرَّجُلِ الْحُرِّ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ مُطْلَقًا؛ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاجُعِ، فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ خُيِّرَ وَلِيُّهَا، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَتَهَا، وَإِنْ شَاءَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْعَقْلِ.
وَقَتَلَ الرَّجُلَ.
وَعُمُومُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ».
وَالْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ فَقَدْ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ فِي الدَّمِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ زِيَادَةٌ كَالرَّجُلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تُقْتَل الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}.
قُلْنَا: هَذَا عُمُومٌ تَخُصُّهُ حِكْمَتُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ صِيَانَةً لِلْأَنْفُسِ عَنْ الْقَتْلِ، فَلَوْ عَلِمَ الْأَعْدَاءُ أَنَّهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ لَقَتَلُوا عَدُوَّهُمْ فِي جَمَاعَتِهِمْ، فَحَكَمْنَا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ رَدْعًا لِلْأَعْدَاءِ، وَحَسْمًا لِهَذَا الدَّاءِ، وَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَى هَذَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: إذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ أَوْ الْأُذُنَ ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ بِهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الْآيَةَ؛ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ قَصْدَ بِذَلِكَ الْمُثْلَةَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ لَمْ يُمَثَّلْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّشَفِّيَ، وَإِمَّا إبْطَالَ الْعُضْوِ.
وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَالْقَتْلُ يَأْتِي عَلَيْهِ.
وَهَذَا لَيْسَ بِقِصَاصٍ وَلَا انْتِصَافٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ تَأَلَّمَ بِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا وَبِالْقَتْلِ، فَلابد فِي تَحْقِيقِ الْقِصَاصِ مِنْ أَنْ يَأْلَمَ كَمَا آلَمَ، وَبِهِ أَقُولُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَالْأَنْفَ وَالْأُذُنَ وَالسِّنَّ وَتَرَكَ الْيَدَ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بِهَا يُفْعَلُ كُلُّ ذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ حَالِ الْيَدَيْنِ، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ، فَإِنَّ الْيُسْرَى لَا تُسَاوِي الْيُمْنَى؛ فَتَرَكَ الْقَوْلَ فِيهَا لِتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.
ثُمَّ يَقَعُ النَّظَرُ فِيهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ.