فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

{وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم} شروع في بيان أحكام الإنجيل كما قيل إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على {أَنزَلْنَا التوراة} [المائدة: 44] وضمير الجمع المجرور للنبيين الذين أسلموا كما قاله أكثر المفسرين، واختاره علي بن عيسى والبلخي، وقيل: للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره، وحكي ذلك عن الجبائي وليس بالمختار والتقفية الاتباع، ويقال: قفا فلان إثر فلان إذا تبعه، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه، والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم {بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ} فالفعل كما قيل: متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء، والمفعول الأول محذوف، و{على ءاثارهم} كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديًا إلى واحد، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل، وقد جاء منه ألفاظ قالوا: صك الحجر الحجر، وصككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمرًا ودفعت زيدًا بعمرو أن جعلته دافعًا له.
وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية، وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا بعيسى ابن مريم على آثارهم قافيًا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء، وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه السلام عقيبهم {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ} حال من عيسى مؤكدة فإن ذلك من لازم الرسول عليه الصلاة والسلام.
{وءاتيناه} عطف على {ثُمَّ قَفَّيْنَا}، وقرأ الحسن بفتح الهمزة، ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان العرب، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح، وإما إفعيل بالكسر فله نظائر كإبزيم وإحليل وغير ذلك {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} كما في التوراة، والجملة في موضع النصب على أنها حال من الإنجيل، وقوله تعالى: {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ} عطف على الحال وهو حال أيضًا، وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا لزيادة التقرير، وقوله عز وجل: {لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية، وجعل كله هدى بعد ما جعل مشتملًا عليه مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلى الله عليه وسلم أظهر، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه، وجوز نصب {هُدًى وَمَوْعِظَةً} على المفعول لها عطفًا على مفعول له آخر مقدر أي إثباتًا لنبوته وهدى الخ، ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي: وهدى وموعظة للمتقين آتيناه ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}.
عطف على جملة {إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور} [المائدة: 44] انتقالًا إلى أحوال النّصارى لقوله: {وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولشك هم الفاسقون}، ولبيان نوع آخر من أنواع إعراض اليهود عن الأحكام الّتي كتبها الله عليهم، فبعد أن ذكر نوعين راجعين إلى تحريفهم أحكام التّوراة: أحدهما: ما حرّفوه وتردّدوا فيه بعد أن حرّفوه فشكّوا في آخر الأمر والتجأوا إلى تحكيم الرّسول؛ وثانيهما: ما حرّفوه وأعرضوا عن حكمه ولم يتحرّجوا منه وهو إبطال أحكام القصاص.
وهذا نوع ثالث: وهو إعراضهم عن حكم الله بالكليّة، وذلك بتكذيبهم لما جاء به عيسى عليه السلام.
والتقفية مصدر قفّاه إذا جعله يَقفوه، أي يأتي بعده.
وفعلُه المجرّد قَفا بتخفيف الفاء ومعنى قَفاه سار نحو قفاه، والقفا الظهر، أي سار وراءه.
فالتقفية الإتْباع متشقّة من القفا، ونظيره: تَوجَّه مشتقًّا من الوجه، وتعقّب من العقب.
وفعل قفّى المشدّد مضاعف قفا المخفّف، والأصل في التضعيف أن يفيد تعديّة الفعل إلى مفعول لم يكن متعدّيًا إليه، فإذا جعل تضعيف {قفّينا} هنا معدّيًا للفعل اقتضى مفعولين: أوّلهما: الّذي كان مفعولًا قبل التّضعيف، وثانيهما: الّذي عدّي إليه الفعل، وذلك على طريقة باب كَسَا؛ فيكون حقّ التّركيب: وقفَّيناهم عيسى ابن مريم، ويكون إدخال الباء في {بعيسى} للتّأكيد، مثل {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6]، وإذا جعل التّضعيف لغير التّعديّة بل لمجرّد تكرير وقوع الفعل، مثل جَوّلت وطوّفت كان حقّ التّركيب: وقفّيناهم بعيسى ابن مريم.
وعلى الوجه الثّاني جرى كلام الكشاف فجعل باء {بعيسى} للتعدية.
وعلى كلا الوجهين يكون مفعول {قفّينا} محذوفًا يدلّ عليه قوله: {على آثارهم} لأنّ فيه ضمير المفعول المحذوف، هذا تحقيق كلامه وسلّمه أصحاب حواشيه.
وقوله: {على آثارهم} تأكيد لمدلول فعل {قفّينا} وإفادة سرعة التقفية.
وضمير {آثارهم} للنّبيئين والرّبانيين والأحبار.
وقد أرسل عيسى على عقب زكرياء كافِل أمّه مريم ووالدِ يحيى.
ويجوز أن يكون معنى {على آثارهم} على طريقتهم وهديهم.
والمصدّق: المخبر بتصديق مخبر، وأريد به هنا المؤيّدُ المقرّر للتّوراة.
وجَعَلها {بين يديه} لأنّها تقدّمتْه، والمتقدّم يقال: هو بين يدي من تقدّم.
و{من التّوراة} بيان {لمَا}.
وتقدّم الكلام على معنى التّوراة والإنجيل في أوّل سورة آل عمران.
وجملة {فيه هدى ونور} حال.
وتقدّم معنى الهُدى والنّور.
و{مصدّقًا} حال أيضًا من الإنجيل فلا تكرير بينها وبين قوله: {بعيسى ابن مريم مصدّقًا} لاختلاف صاحب الحال ولاختلاف كيفية التّصديق؛ فتصديق عيسى التّوراةَ أمره بإحياء أحكامها، وهو تصديق حقيقي؛ وتصديق الإنجيل التّوراة اشتماله على ما وافق أحكامَها فهو تصديق مجازي.
وهذا التّصديق لا ينافي أنّه نَسخَ بعض أحكام التّوراة كما حكى الله عنه {ولأحِلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم} [آل عمران: 50]، لأنّ الفعل المثبَت لا عموم له.
والموعظة: الكلام الّذي يلِين القلب ويَزجر عن فعل المنهيات. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم بِعَيسَى ابن مَرْيَم} هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة، أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم، أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل، يقال قفيته مثل عقبته إذا اتبعته؛ ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء، والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف، وهو على آثارهم؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، وانتصاب {مُصَدّقًا} على الحال من عيسى {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} عطف على قفينا، ومحل الجملة أعني: {فِيهِ هُدًى} النصب على الحال من الإنجيل و{نُورٌ} عطف على هدى.
وقوله: {وَمُصَدّقًا} معطوف على محل {فِيهِ هُدًى} أي: أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه مشتملًا على الهدى والنور ومصدقًا لما بين يديه من التوراة؛ وقيل إن مصدّقًا معطوف على مصدّقًا الأوّل، فيكون حالا من عيسى مؤكدًا للحال الأول ومقرّرًا له.
والأوّل أولى؛ لأن التأسيس خير من التأكيد.
قوله: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} عطف على مصدّقًا داخل تحت حكمه منضمًا إليه: أي مصدقًا وهاديًا وواعظًا للمتقين. اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

وقد وصف الله سبحانه الإنجيل بأوصاف ثلاثة، وبين أنه مشتمل على أمرين، وجملة ما ذكر القرآن الكريم- تعالت كلمات الله- أن فيه خواص خمسا؟ وهى أن فيه هدى، وأن فيه نورا، وأنه مصددتى للتوراة، وأنه هو ذاته هدى، وأنه موعظة للمثقين.
ولنتكلم بكلمات موجزات في معانى كل خاصة من هذه الخواص، لتتبين المغايرة بينها، ولتتميز كل خاصة عن أخواتها وإن كانت متقاربة في معانيها، ومتلاقية في غايتها:
والخاصة الأولى- أن فيه هدى، أى أنه اشتمل على الهدى، وهو الدلالة الحق على تنزيه الله تعالى ووحدانيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأن عيسى هو ابن مريم وحدها، ونسبه إليها، وليس له لله تعالى نسبة إلا أنه خلقه بكلمة كن فيكون، فهو بهذا المعنى كلمة الله تعالى، وقد ألقاها إلى مريم، وروح القدس وهو جبريل الذي بلغها، وفيه بيان أن عيسى عليه السلام رسول الله تعالى وقد خلت من قبله الرسل.
وهذه الهداية تقرير للحقيقة الثابتة من مبدأ الوجود؟ لأنها تدل على صفات منشى هذا الوجود.
أما الخاصة الثانية- فهى أنه مشتمل على نور مرشد موجه هاد، فإذا كانت الخاصة الأولى مقررة لأمر ثابت قد وقع، فالخاصة الثانية مثبتة لأمر اخر يتعلق بالمستقبل، وهو أنه يضىء وينير لتمييز الحق من الباطل، وبين ما جاءت به رسالة المسيح من دعوة البشر إلى الخير وإلى صراط مستقيم فالإنجيل بإضافة هذه الخاصة إلى سابقتها يكون مشتملا على أمرين: أولهما- تقرير للحقيقة الثابتة الخالدة، وهى وحدانية الله تعالى في الإنشاء والتكوين، والذات والعبادة. وثانيهما- أنه مرشد إلى مكارم الأخلاق ومنير العقول لإدراك المستقبل، ويدخل في ذلك بشارته بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو «البارقليط» كما جاء في نسخة متى، وكما قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد...} الصف.
والخاصة الثالثة- وهى وصف لذات الإنجيل، وقد ذكرها سبحانه بقوله تعالى: {مصدقا لما بين يديه من التوراة}. أى أن الإنجيل قد كان بذاته مصدقا للتوراة من حيث صدق نسبتها إلى الله تعالى قبل تحريفها، وقبل أن ينسوا حظا منها. ولا تكرار في وصف التصديق، لأن ما ذكر أولا كان وصفا لعيسى عليه السلام إذ قال سبحانه: {وقفينا على اتارهم بعيسى ابن مريم مصدقا}. وأما ما ذكر هنا فهو وصف للإنجيل نفسه، وكأن التصديق من جانب عيسى عليه السلام للتوراة جاء من ناحيتين، من عيسى، ومن الإنجيل ذاته، وتلاقى التصديقين يفيد إقرار أكثر أحكام التوراة الاجتماعية والقانونية، ويفيد أن رسالة الرسل متصلة موصولة، حتى يختمها محمد رسول الله، فهو خاتم النبيين، وآخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
والخاصة الرابعة- وهى من صفاته الذاتية أنه هو ذاته هدى، وسبب وصفه بهذا الوصف بعد ذكر أنه قد اشتمل على هدى ونور هو استمرار الهدى له، وللإشارة إلى أنه منزل من عند الله تعالى، وهو بهذا الوصف يكون فيه دلالة ذاتية على الحق، ولأنه بشارة بنبى يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد، وكان الهدى في هذا المقام وصفا ذاتيا؟ لأنه مأخوذ من اسمه؟ إذ إن الإنجيل معناه البشارة، ولعله سمى إنجيلا، لأنه الكتاب المنزل الذي كان فيه البشارة المباشرة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبعبارات إن لم تكن صريحة فهى واضحة كالصريحة.
والخاصة الخامسة- أنه {موعظة للمتقين} والموعظة هي التذكير بما يرق له القلب، وتصفو به النفس ويستقيم به العمل، فقد قال الخليل بن أحمد في تفسير الوعظ: «هو التذكير بما يرق له القلب» والإنجيل كان كذلك، لأنه توجيه بنى إسرائيل ومن كان على شاكلتهم من الماديين الذين أركستهم المادة واستولت على قلوبهم- إلى الحياة الروحية، والتهذيب النفسى، وجعل الروح هي المسيطرة من غير ترك لحظوظ الدنيا المباحة التي لا تستغرق النفس.
ومن أجل ذلك وصف بأنه موعظة، ولكن لا يستفيد منه إلا الذين امتلأت نفوسهم بالخوف ورجاء ما عند الله، وهم طالبو الحق المهتدون، لأنهم هم الذين يستفيدون من العلم الذي يلقى، فالنفوس أقسام ثلاثة: قسم يطلب الحق، ويثمر فيه بيانه، وقسم يجمد على ما عنده، ويكون صلدا لا ينفذ العلم إلى قلبه، إذ تحول بينه وبينه غشاوة من الباطل فهو أغلف، وقسم متردد حائر، تسيره الأجواء التي تحكمه وتسيطر عليه، ولا شك أن الذي يستفيد من المواعظ هو طالبها المتقبل لها، الذي تتشبع نفسه منها، وأولئك هم المتقون، وأما القسم الثالث، فإنه ترجى له الهداية رجاء غير محقق، وإن مثل العلم النافع لمثل الغيث لا ينتفع منه إلا الأرض الطيبة التي تخرج نباتها بإذن ربها، والعلم لا ينتفع به إلا القلوب الطاهرة التي لم ترنقها أغراض الدنيا وأهواؤها. اهـ.