فصل: قال محمد أبو زهرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال محمد أبو زهرة:

ومن الفروق الدقيقة أن الله تعالى عبر عن مجىء عيسى بالإنجيل بقوله تعالت كلماته: {وقفينا على آثارهم}.
وعندما أخبر عن مجىء محمد صلى الله عليه وسلم بالقران قال تعالت كلماته: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه...- المائدة،. فهو ليس منفذا، ولكن هو مسيطر وحاكم على ما سبق من كتب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُور}.
يعني أتبعناهم بعيسى ابن مريم، وخصصناه بالإنجيل، وفي الإنجيل تصديق لما تقدَّمه، وتحقيقِ لِمَا أوجب الله وألزمه، فلا الدِّينَ قضوا حقه، ولا الإنجيلَ عرفوا فرضه، ولا الرسولَ حفظوا أمره؛ ففسقوا وضلوا، وظلموا وزلُّوا. اهـ.

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم} وفى سورة الحديد: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم} للسائل أن يسأل عن وجه ما اختلف في هاتين السورتين من التفصيل فيمن قفى بهم؟
ووجه ما زيد في آية الحديد من المقفى بهم قبل عيسى عليه السلام، ولم يقع ذلك في سورة المائدة مع اتحاد ما قصد في الموضعين من تواتر الرسل وتقفية بعضهم ببعض؟
والجواب والله أعلم: أن آية المائدة ورد الكلام فيما تقدمها في بنى إسرائيل من لدن قوله تعالى: {ولقد أخذنا الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا} إلى الآية التي نحن فيها ثم استمرت الآيات بعد فيهم إلى قوله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة...} الآيات فأكثر آيات هذه السورة إنما نزلت فيهم تعريفا بمرتكباتهم وتحريفهم ونقضهم الميثاق وحكمهم بغير ما أنزل الله وفى أثناء ذلك تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم عنهم كقوله تعالى: {يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر..} الآية.
وقوله تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا}، وقوله تعالى: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} وقوله بعد الآية المتكلم فيها: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} وقوله: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} وفيما قبل هذا: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا...} الآيات، ولم يقع في هذه الآى ذكر لغير بنى إسرائيل ومن كان فيهم من الأنبياء من بعد موسى عليه السلام إلى قوله تعالى: {ثم قفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم} ولا توقف في تعقيب الرسل والأنبياء بعيسى عليه السلام فلهذا لم يقع هنا ذكر واسطة.
وأما آية الحديد فمقصدها غير هذا إذ هي وما اتصل بها قبلها وبعدها خطاب للؤمنين وعظات وترغيب وتمثيل وتحذير أن يكونوا كمن عرفوا به ممن طال عليه الأمد وقسا قلبه فلهذا وما يتلوه إلى أول قوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} إلى آخر السورة خطاب للمؤمنين فيما لهم وعليهم وما وعدوا به وحذروا منه وكذا سورة الحديد بجملتها وهم المعرفون بقوله: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات}، فالمراد عامة الرسل عليهم السلام ممن كان من بنى إسرائيل وقبلهم تعريفا بما أنعم سبحانه على العباد من رحمتهم بإرسال الرسل ونص من جميعهم على نوح وابراهيم إعلاما بحالهما في الرسل كما قيل: {وجبريل وميكائيل} بعد دخولهم تحت قوله: {وملائكته} وشمول لفظ الملائكة لهم ولغيرهم.
ثم قال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم} وذكر ما جعل في ذريتهما من النبوة والكتاب، اتبع تعالى بتوالى الإنعام بمن بعدهم فقال: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا} إشارة إلى من كان بعد نوح وابراهيم وبينهم وبين عيسى وذلك كثير ثم قال: {وقفينا بعيسى} وهذا مقصد مباين ما قصد بآية المائدة فاختلف ما ورد في الموضعين لاختلاف المقصد فيهما ولم يكن عكس الوارد ليناسب والله أعلم بما أراد. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ}.
وقفينا أي اتبعنا، فعيسى جاء من بعد موسى، فعندما يمشي رجل خلف رجل نجد أن قفا الأول يكون في وجه الثاني. وعندما يقول الحق: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقًا لموسى الذي جاء بالتوراة. {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ}. وعرفنا أن «الهدى والنور» يناسبان البيئة التي نزلت إليها تلك الهداية وذلك النور.
إن هناك مقولات اسمها «المقولات الإضافية»، كأن يقول إنسان في قرية لابنه: أشعل الضوء. ويشعل الولد المصباح الكيروسيني؛ أما إذا قال إنسان في مدينة لابنه: أضيء النور، فالابن يضغط على الزر ليضيء المصباح الكهربائي. وهذه الإضافات قد تجعل اللفظ يحمل معنيين. ومثال آخر أكثر وضوحًا: يسكن الإنسان في منزل ما، ويعرف أن السقف عال بالنسبة له، ولكنه أرض بالنسبة لأصحاب الدور الثاني، إنه علو وسفل وهذا هو المعنى الإضافي. وكذلك عندما نقول: فلان ابن فلانن فهذا لا يمنع أن هذا الابن يكون أبًا بالنسبة لابنه.
إذن {هُدًى وَنُورٌ} هي معان إضافية. وكل {هدى ونور} يناسب البيئة التي نزل يفيها. فالبيئة المادية الأولى كانت في حاجة إلى تقنين؛ لذلك جاءت التوراة، ومن بعد ذلك صارت هذه البيئة المادية في حاجة إلى طاقة روحية؛ لذلك جاء الإنجيل بكل الروحانيات، وعندما سئل عيسى ابن مريم عليه السلام في قضية الميراث قال: أنا لم أرسل مورثًا، فهو يعلم أنه جاء بشحنة روحية فيها مواجيد ومواعظ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)}.
أخرج أبو الشيخ في قوله: {وقفينا على آثارهم} يقول: بعثنا من بعدهم عيسى ابن مريم.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله: {وقفينا على آثارهم} قال: اتبعنا آثار الأنبياء، أي بعثنا على آثارهم، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عدي بن زيد وهو يقول:
يوم قفت عيرهم من عيرنا ** واحتمال الحي في الصبح فلق

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} قال: من أهل الإنجيل {فأولئك هم الفاسقون} قال: الكاذبون. قال ابن زيد: كل شيء في القرآن فاسق فهو كاذب إلا قليلا، وقرأ قول الله: {إن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات: 6] فهو كاذب. قال: الفاسق هاهنا كاذب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم} الآية، قد تقدم معنى {قفينا} وأنه من قَفَا يَقْفُو أي: تبع قفاه في البقرة [الآية 87] وقوله تعالى: {على آثَارِهِم بِعَيسَى} كِلاَ الجارَّيْنِ متعلق به على تضمينه معنى «جئنا به على آثارهم قافيًا لهم».
وقد تقدم أيضًا أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذُكِرَتْ هناك، وإيضاحها أنَّ «قَفَا» متعدٍّ لواحد قبل التضعيف، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ف «ما» موصولة بمعنى «الذي» هي مفعول، وتقول العرب: «قفا فلان أثر فلان» أي: تبعه، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين، فكان التركيب يكون: «ثم قفيناهم عيسى ابن مريم» ف «هم» مفعول ثانٍ، و«عيسى» أول، ولكنه ضُمِّن كما تقدم، فلذلك تعدى بالباء، و«على» قال الزمخشري «قَفَّيْتُهُ» مثل: عَقَّبْتُهُ إذا أتبعته، ثم يقال: «قَفَّيتُهُ بفلان» مثل: عَقَّبْتُه به: فتعديه إلى الثاني بزيادة «الباء».
فإن قلت: فأين المفعول الأول؟
قلت: هو محذوف، والظرف الذي هو {على آثارهم} كالسَّادِّ مسدَّه؛ لأنه إذا قَفَّى به على أثره، فقد قَفَّى به إياه، فكلامه هنا ينحو إلى أنَّ «قفَّيته» مضعفًا كـ «قفوته» ثلاثيًا ثم عدَّاهُ بالباء، وهذا وإن كان صحيحًا من حيث إنَّ «فعَّل» قد جاء بمعنى «فعل» المجرد كـ «قدَّرَ وقَدَرَ»، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلى ثانٍ بالباء، لا تقول في «طعم زيد اللحم»: «أطعمت زيدًا باللحم» ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع، جاءت منه ألفاظ قالوا: «صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ» ثم يقولون: صككت الحَجَر بالحجر، و«دَفَعَ زيدٌ عَمْرًا» ثم: دَفَعْتُ زيدًا بعمرو: أي: جعلته دافعًا له، فكلامه إما ممتنع، أو محمول على القليل، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادِّعاء حذف المفعول من نحو {قَفَّيْنَا} في البقرة [الآية 87].
وناقشه أبو حيان في قوله: «فقد قَفَّى به إياه» من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول: «قفيته به».
قال: «ولو قلت: «زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه» لم يَجُزْ إلا في ضرورة شعر، بل ضربته بسوط»، وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممحنة: 1] {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وقد تقدَّم تحقيقه.
والضمير في {آثارهم}: إمَّا للنبيين؛ لقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} [المائدة: 44] وإمَّا لِمَنْ كُتِبَتْ عليهم تلك الأحْكَامُ، والأول أظهر؛ لقوله في موضع آخر: {برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم}.
و{مصدقًا} حال من {عيسى}.
قال ابن عطية: وهي حال مؤكّدة، وكذلك قال في {مصدقًا} الثانية، وهو ظاهرٌ فإن مَنْ لازم الرَّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن.
و{لما} متعلّق به.
وقوله: {من التوراة} حال: إما من الموصول، وهو «ما» المجرورة باللام، وإما من الضمير المستكنّ في الظرف لوقوعه صِلَةً، ويجوز أن تكُون لبيان جِنْسِ الموصول.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون عطفًا على قوله: {وَقَفَّيْنَا} فلا يكون لها مَحَلٌّ، كما أن المعطوف عليه لا مَحَلَّ له، ويجوز أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال عَطْفًا على {مصدقًا} الأوَّل إذا جعل {مصدقًا} الثاني حالًا من {عيسى} أيضًا كما سيأتي، ويجوز أن تكون الجملة حالًا وإن لم يكن {مصدقًا} الثاني حالًا من {عيسى}.