فصل: من فوائد ابن كثير في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو البقاء: عما جاءك في موضع الحال أي: عادلًا عما جاءك، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن، وهذا ليس بجيد.
لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالًا من الجنة، كما لا يصلح أن يكون خبرًا، وإذا كان ناقصًا فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه.
{لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو: أمة أي: لكل أمّة.
والخطاب في منكم للناس أي: أيها الناس لليهود شرعة ومنهاج، وللنصارى كذلك، قاله: عليّ، وقتادة والجمهور، ويعنون في الأحكام.
وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد، وإيمان بالرسل، وكتبها وما تضمنته من المعاد، والجزاء الأخروي.
وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} والمعنى في المعتقدات.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء، لاسيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيهًا لمحمد صلى الله عليه وسلم أي: فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه انتهى.
فيكون المحذوف المضاف إليه لكلّ نبي، أي: لكل نبيّ منكم أيها الأنبياء.
والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي: طريقًا، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر:
وهند أتى من دونها النأي والبعد

وقال ابن عباس والحسن وغيرهما: سبيلًا وسنة.
وقال مجاهد: الشرعة والمنهاج دين محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه، والمراد بذلك إنّا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها.
وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر.
وقال ابن الأنباري: الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحًا وغير واضح، والمنهاج لا يكون إلا واضحًا.
وقيل: الشرعة الدين، والمنهاج الدليل.
وقيل: الشرعة النبي، والمنهاج الكتاب.
قال ابن عطية: والمنهاج بناء مبالغة من النهج، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى.
قيل: وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا.
وقرأ النخعي وابن وثاب: شَرعة بفتح الشين، والظاهر أنّ جعلنا بمعنى صيرنا، ومفعولها الثاني هو لكل، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره: أعني منكم.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل، لأنَّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام، ويوجب أيضًا أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى.
فيكون في التركيب كقولك: من كل ضربت تميمي رجلًا، وهو لا يجوز.
{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال.
وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق.
{ولكن ليبلوكم فيما آتاكم} أي: ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب.
وقال الزمخشري: من الشرائع المختلفة، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل انتهى؟ وقال ابن جريج وغيره: ولكنه لم يشأ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر.
{فاستبقوا الخيرات} أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله: مقاتل.
وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء.
وقال ابن عباس والضحاك: الخيرات الإيمان بالرسول.
{إلى الله مرجعكم جميعًا} هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات، كأنه يقول: يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته.
{فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} أي فيخبركم بأعمالكم، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب، وهو أخبار إيقاع.
قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج، وغدًا يبينه بالمجازاة انتهى.
وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل، والمسبق والمقصر في العمل.
ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة. اهـ.

.من فوائد ابن كثير في الآية:

قال رحمه الله:
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه عليه السلام ومدحها وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم، الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي: من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكْرَه ومَدْحَه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} [الإسراء: 107، 108] أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد، عليه السلام، {لَمَفْعُولا} أي: لكائنًا لا محالة ولا بد.
وقوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، أي: مؤتمنًا عليه. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: المهيمن: الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله.
وروي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وابن زيد، نحو ذلك.
وقال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل.
وعن الوالبي، عن ابن عباس: {وَمُهَيْمِنًا} أي: شهيدًا. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.
وقال العَوْفِي عن ابن عباس: {وَمُهَيْمِنًا} أي: حاكمًا على ما قبله من الكتب.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم «المهيمن» يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
فأما ما حكاه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، وابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ أنهم قالوا في قوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر. وبالجملة فالصحيح الأول، قال أبو جعفر بن جرير، بعد حكايته له عن مجاهد: وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن «المهيمن» عطف على «المصدق»، فلا يكون إلا من صفة ما كان «المصدق» صفة له. قال: ولو كان كما قال مجاهد لقال: {وأنزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}. يعني من غير عطف.
وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ} أي: فاحكم يا محمد بين الناس: عَرَبهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم {بِمَا أَنزلَ اللَّهُ} إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك. هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي: لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء.
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} قال: سبيلا.
وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: {وَمِنْهَاجًا} قال: وسنة. وكذا روى العَوْفِيّ، عن ابن عباس: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} سبيلا وسنة.
وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي، وأبي إسحاق السبيعي؛ أنهم قالوا في قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي: سبيلا وسنة.
وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي: سنة وسبيلا والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا، هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال: «شرع في كذا» أي: ابتدأ فيه. وكذا الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء. أما «المنهاج»: فهو الطريق الواضح السهل، والسنن: الطرائق، فتفسير قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.
ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد» يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية [النحل: 36]، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: سبيلا وسنة، والسنن مختلفة: هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل.