فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} عطف على {الكتاب} [المائدة: 48]، كأنه قيل: وأنزلنا إليك الكتاب وقولنا احكم أي الأمر بالحكم لا الحكم لأن المنزل الأمر بالحكم لا الحكم، ولئلا يلزم إبطال الطلب بالكلية، ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار القول كما حققه في «الكشف»، وجوز أن يكون عطفًا على {الحق} [المائدة: 48]، وفي المحل وجهان: الجر والنصب على الخلاف المشهور، وقيل: يجوز أن يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ أي وأمرنا أن احكم، وزعم بعضهم أن {إن} هذه تفسيرية، ووجه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك، ثم فسر هذا الأمر باحكم، ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر، وقال الطيبي: ولو جعل هذا الكلام عطفًا على {فاحكم} [المائدة: 42] من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} كان أحسن، ورد بأن {إن} هي المانعة من ذلك العطف، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال، وقال بعضهم: إنما كرر الأمر بالحكم لأن الاحتكام إليه صلى الله عليه وسلم كان مرتين: مرة في زنا المحصن ومرة في قتيل كان بينهم، فجاء كل أمر في أمر، وحكي ذلك عن الجبائي والقاضي أبي يعلى، ونون {إن} فيها الضم والكسر، والمنسبك من {أَن يَفْتِنُوكَ} بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، أي: واحذر فتنتهم لك وأن يصرفوك عن بعض ما أنزل الله تعالى إليك ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق؛ وقال ابن زيد: بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها، وجوز أن يكون مفعولًا من أجله، أي احذرهم مخافة أن يفتنوك وإعادة {أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} لتأكيد التحذير بتهويل الخطب، ولعل هذا لقطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى، أخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم.
وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. اهـ.

.قال ابن عاشور:

يجوز أن يكون قوله: {وأن احكم} معطوفًا عطفَ جملة على جملة، بأن يجعل معطوفًا على جملة {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم} [المائدة: 48]، فيكون رجوعًا إلى ذلك الأمر لتأكيده، وليبنى عليه قوله: {واحْذَرْهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} كما بُني على نظيره قوله: {لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} [المائدة: 48] وتكُون «أن» تفسيرية.
و«أن» التفسيريّة تفيد تقويّة ارتباط التّفسير بالمفسَّر، لأنّها يمكن الاستغناء عنها، لصحّة أن تقول: أرسلتُ إليه افْعَل كذا، كما تقول: أرسلت إليه أنْ افعَلْ كذا.
فلمّا ذكر الله تعالى أنّه أنزل الكتاب إلى رسوله رتّب عليه الأمر بالحكم بما أنزل به بواسطة الفاء فقال: {فاحكم بينهم} [المائدة: 48]، فدلّ على أنّ الحكم بما فيه هو من آثار تنزيله.
وعطَف عليه ما يدلّ على أنّ الكتاب يأمر بالحكم بما فيه بما دلّت عليه «أن» التفسيرية في قوله: {وأنْ احكم بينهم بما أنزل الله}، فتأكَّد الغرض بذِكْره مرّتين مع تفنّن الأسلوب وبداعته، فصار التّقدير: وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ أنْ احكم بينهم بما أنزل الله فاحكم بينهم به.
وممّا حسَّن عطفَ التّفسير هنا طولُ الكلام الفاصِل بين الفعل المفسَّر وبين تفسيره.
وجعله صاحب الكشاف من عطف المفردات.
فقال: عُطف {أن احكم} على {الكِتاب} في قوله: {وأنزلنا إليك الكتاب} [المائدة: 48] كأنّه قيل: وأنزلنا إليك أنْ احْكُم.
فجعل «أن» مصدريّة داخلة على فعل الأمر، أي فيكون المعنى: وأنزلنا إليك الأمر بالحكم بما أنزل الله كما قال في قوله: {إنّا أرسلنا نُوحًا إلى قومه أن أنذر قومك} [نوح: 1]، أي أرسلناه بالأمر بالإنذار، وبيّن في سورة يونس (105) عند قوله تعالى: {وأن أقم وجهك للدّين حنيفًا} أنّ هذا قول سيبويه إذ سوّغ أن توصل «أن» المصدريّة بفعل الأمر والنّهي لأنّ الغرض وصلها بما يكون معه معنى المصدر، والأمرُ والنّهي يدلاّن على معنى المصدر، وعلّله هنا بقوله: لأنّ الأمر فعل كسائر الأفعال.
والحملُ على التفسيرية أوْلَى وأَعرب، وتكون «أن» مقحمة بين الجملتين مفسّرة لفعل {أنْزَل} من قوله: {فاحكم بينهم بما أنزل الله}؛ فإنّ {أنزل} يتضمّن معنى القول فكان لحرف التّفسير موقع.
وقوله: {ولا تتّبع أهواءهم} هو كقوله قبلَه {ولا تتّبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ} [المائدة: 44]. اهـ.

.قال الفخر:

قالوا: هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله: {فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ}
قال ابن عباس: يريد به يردوك إلى أهوائهم، فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن، ومنه قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] والفتنة هاهنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بك من فتنة المحيا» قال هو أن يعدل عن الطريق.
قال أهل العلم: هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول، لأن الله تعالى قال: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول، فلم يبق إلا الخطأ والنسيان. اهـ.

.قال القرطبي:

{واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} {أَنْ} بدل من الهاء والميم في {وَاحْذَرْهُمْ} وهو بدل اشتمال، أو مفعول من أجله؛ أي من أجل أن يفتنوك.
وعن ابن إسحاق قال ابن عباس: اجتمع قوم من الأحبار منهم ابن صُوريا وكعب بن أسد وابن صَلُوبَا وشَأس بن عديّ وقالوا: اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتِنه عن دينه فإنما هو بشر؛ فأتوه فقالوا: قد عرفت يا محمد أنّا أحبار اليهود، وإن اتبعناك لم يخالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك، فاقض لنا عليهم حتى نؤمِن بك؛ فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
وأصل الفتنة الاختبار حسبما تقدّم، ثم يختلف معناها؛ فقوله تعالى هنا: {يَفْتِنُوكَ} معناه يصدّوك ويردّوك؛ وتكون الفتنة بمعنى الشِّرْك؛ ومنه قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} [البقرة: 217] وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].
وتكون الفتنة بمعنى العِبرة؛ كقوله: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [الممتحنة: 5] و{لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [يونس: 85] وتكون الفتنة الصدّ عن السبيل كما في هذه الآية.
وتكرير {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} للتأكيد، أو هي أحوال وأحكام أمره أن يحكم في كل واحد بما أنزل الله.
وفي الآية دليل على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: {أَنْ يَفْتِنُوكَ} وإنما يكون ذلك عن نسيان لا عن تعمد.
وقيل: الخطاب له والمراد غيره.
وسيأتي بيان هذا في «الأنعام» إن شاء الله تعالى.
ومعنى {عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} عن كل ما أنزل الله إليك.
والبعض يستعمل بمعنى الكل؛ قال الشاعر:
أو يَعْتَبِطْ بعضَ النّفوسِ حِمامُها

ويُروى «أو يَرتَبِطْ».
أراد كل النفوس؛ وعليه حملوا قوله تعالى: {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63] قال ابن العربي: والصحيح أن «بعض» على حالها في هذه الآية، وأن المراد به الرجم أو الحكم الذي كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتِنوه عن الكل. والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك وأرادوا غيره {فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} وهو ذنب التولي والإعراض، فهو بعض مخصوص والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبًا كثيرة، وهذا مع كمال عظمه واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في قوله:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ** أو يرتبط بعض النفوس حمامها

يريد بالبعض نفسه أي نفسًا كبيرة ونفسًا أي نفس، وقال الجبائي: ذكر البعض وأريد الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص، وقيل: المراد بعض مبهم تغليظًا للعقاب كأنه أشير إلى أنه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك، وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل لأن المراد بهذه الإصابة عقوبة الدنيا وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض، والذي يعم إنما هو عذاب الآخرة وهذه الإصابة على ما روي عن الحسن إجلاء بني النضير، وقيل: قتل بني قريظة، وقيل: هي أعم من ذلك، وما عرى بني قينقاع وأهل خيبر وفدك، ولعله الأولى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقولُه: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} المقصود منه افتضاح مكرهم وتأييسهم ممّا أمَّلوه، لأنّ حذر النّبيء صلى الله عليه وسلم من ذلك لا يحتاج فيه إلى الأمر لعصمته من أن يخالف حكم الله.
ويجوز أن يكون المقصود منه دحض ما يتراءى من المصلحة في الحكم بين المتحاكمين إليه من اليهود بعوائدهم إن صحّ ما روي من أنّ بعض أحبارهم وعدوا النّبيء بأنّه إن حكم لهم بذلك آمنوا به واتّبعتهم اليهود اقتداء بهم، فأراه الله أنّ مصلحة حرمة أحكام الدين ولو بينَ غير أتباعه مقدّمة على مصلحة إيمان فريق من اليهود، لأجل ذلك فإنّ شأن الإيمان أن لا يقاوِل النّاس على اتّباعه كما قدّمناه آنفًا.
والمقصود مع ذلك تحذير المسلمين من توهّم ذلك.
ولذلك فرّع عليه قوله: {فإن تولّوا}. اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

وهنا يتكلم العلماء في بعض الذنوب التي سببت ما أصابهم الله تعالى، وما هي هذه الإصابة التي يصيبهم الله تعالى، وقد ذكروا وجهين، وأرى وجها ثالثا.
الوجه الأول- ما ذكره الزمخشرى: أن هذه الذنوب التي هي بعض ذنوبهم، إهمالهم لحكم الله تعالى، واختيارهم حكما جاهليا يخضع للهوى، لا للعدل، والإصابة التي يصيبهم بها هي هذا الذنب الذي ارتكبوه، وما يترتب عليه من ظلم يقع، وشر لا يدفع، لتنفيذ حكم الله مع أنه طاعة وهو العدل، والعدل إذا ساد عاشت الجماعة كلها في أمن وسلام، ورحمة واطمئنان، وعدم تنفيذ حكم الله هو الظلم والاضطراب والفساد.
الوجه الثانى- هو ما ردده أكثر المفسرين من أن الذنوب التي ارتكبوا بعضها يعاقبهم الله تعالى عليها بالشدائد تنزل بهم، ومن أعظم هذه البلايا أن يعم الفساد، وتصير أمورهم فوضى، لا ميزان يضبطها ولا قسط يقيمها، وتكون الجماعة متدابرة متنازعة.
الوجه الثالث الذي أختاره، أن عدم تنفيذ العدل أو عدم الخضوع لأحكام الشرع هو في الواقع ثمرة لمفاسق تسبقه، فالنفس تتردى في مهاوى الرذائل، وتحيط بها الخطايا، ويتحكم فيها الهوى، وتصير أمة للذات والشهوات فتتمرد عن حكم الله تعالى، ويكون ذلك نتيجة لإصابتهم بذلك الذنب الكبير الخطير، وهو الإعراض عن حكم الله، وهو ذاته إصابة وكارثة، لأنه العدل والقسطاس، وأى جماعة تعرض عن العدل والقسطاس مآلها الخراب والدمار، وذهاب القوة، وإصابتها بالذلة، فلا عزة إلا عزة الحق، ولا ذلة إلا في الظلم.
وإننا رأينا هذه الحقيقة ثابتة، فأولئك الذين يتمردون على حكم القرآن والسنة قد مست نفوسهم معاص جعلتهم يستبيحون المحرمات من زنى وشرب للخمر، وإدمان في الربا، أو بناء الاقتصاد عليه، وهذه الذنوب هي التي منعتهم من إطاعة حكم الله، وإن الله يصيبهم بنتائج ذلك وهو الخراب الناشى من الظلم، والفساد الذي يعم وأولئك كثيرون، ولذلك قال سبحانه: {وإن كثيرا من الناس لفاسقون}. اهـ.