فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ...} الآية (49).
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس، اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك، وأنزل الله عز وجل فيهم {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} إلى قوله: {لقوم يوقنون}.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} قال: أمر الله نبيه أن يحكم بينهم بعدما كان رخص له أن يعرض عنهم إن شاء، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: نسخت من هذه السورة {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] قال: فكان مخيرًا حتى أنزل الله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتاب الله.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم قال: نسخت ما قبلها {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42].
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن مسروق. أنه كان يحلف أهل الكتاب بالله، وكان يقول: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}. اهـ.

.سؤال وجوابه:

فإن قيل: قوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ} معطوف على ماذا؟
قلنا: على {الكتاب} في قوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} [المائدة: 48] كأنه قيل: وأنزلنا إليك أن أحكم و{أن} وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال، ويجوز أن يكون معطوفًا على قوله: {بالحق} [المائدة: 48] أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم، وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} قد ذكرنا أن اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله تعالى عن ذلك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَأَنِ احكم}: فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنَّ محلَّها النَّصب عَطْفًا على {الكِتَاب}، أي: «وأنزلنا إليكم الحكم».
والثاني: أنَّها في محلِّ جرٍّ عَطْفًا على {بالحقِّ}، أي: «أنزلناه بالحق وبالحكم» وعلى هذا الوجْهِ فيَجُوزُ في محلِّ «أنْ» النَّصْب والجرّ على الخلافِ المَشْهُور.
والثالث: أنَّها في محلِّ رفع على الابتداء، وفي تقدير خَبَرهِ احتمالان:
أحدهما: أن تقدِّره مُتَأخِّرًا، أي: حكمك بما أنْزَل اللَّه أمْرُنا أو قولنا.
والآخر: أن تقدِّره متقدِّمًا أي: ومِن الواجِبِ أن احكُم أي: حُكْمُك.
والرابع: أنَّهَا تَفْسِيريَّة.
قال أبُو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ «الواو» تَمْنَع من ذلك، والمعنى يفسد ذلِك؛ لأنَّ «أن» التَّفْسِيريَّة يَنْبَغِي أن يَسْبِقَها قولٌ يُفسَّر بِهَا»، أما ما ذَكَرَهُ من مَنْع «الواو» أن تكُون «أنْ» تَفسيريَّة فَوَاضِحٌ.
وأمَّا قوله: «يَسْبِقُها قوْل» إصلاحُهُ أن يقول: «مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه»، ثم قال: ويمكن تَصْحِيحُ هذا القول بأن يكون التَّقدير: وأمَرْنَاك، ثم فسَّر هذا الأمْر بـ {احْكُمْ}، ومنع الشَّيْخ من تصحيح هذا القَوْل بما ذكرهُ أبو البقاء، قال: لأنَّه لم يُحْفَظ من لِسَانهم حذف الجُمْلَة المُفسَّرَة بـ {أن} وما بعدها، وهو كما قال.
وقراءتَا ضمِّ نُونِ {أن} وكَسْرِهَا واضحتَان ممَّا تقدَّم في البَقَرَة: الضمَّة للإتبَاع، والكَسْر على أصْل التِقَاء السَّاكِنَيْن.
والضَّمِير في {بَيْنَهُم}: إمَّا لليهُود خَاصَّة، وإمَّا لِجَمِيع المُتَحَاكِمين.
قوله تعالى: {أن يفْتِنُوكَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ مفعول من أجلِهِ، أي: احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك.
والثاني: أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال، كأنَّه قال: واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ، كقولك: «أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه».
وقوله تعالى: {فإن تَوَلَّوْا}.
قال ابنُ عطيَّة: قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر، تقديره: «لا تَتَّبعْ واحْذَر، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ».
ويحسُنُ أن يقدَّر هذا المحذُوف المعادل بعد قوله: {لَفَاسِقُون}، والذي يَنْبَغِي ألاَّ يُقَال: في هذا النَّوْع ثَمَّ حذف؛ لأنَّ ذلك من بَابِ فَحْوَى الخِطَابِ، والأمْر فيه واضِحٌ. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (50):

قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من المعلوم أن من أعرض عن حكم الله أقبل ولابد على حكم الشيطان الذي هو عين الهوى الذي هو دين أهل الجهل الذين لا كتاب لهم هاد ولا شرع ضابط، سبب عَن إعراضهم الإنكار عليهم بقوله: {أفحكم الجاهلية} أي خاصة مع أن أحكامها لا يرضى بها عاقل، لكونها لم يدع إليها كتاب، بل إنما هي مجرد أهواء وهم أهل كتاب {يبغون} أي يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك، وشهد به كتابك بالعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق، وقراءة ابن عامر بالالتفات إلى الخطاب أدل على الغضب.
ولما كان حسن الحكم تابعًا لإتقانه، وكان إتقانه دائرًا على صفات الكمال من تمام العلم وشمول القدرة وغير ذلك، قال- معلمًا أن حكمه أحسن الحكم عاطفًا على ما تقديره: فمن أضل منهم: {ومن} ويجوز أن تكون الجملة حالًا من واو يبغون، أي يريدون ذلك والحال أنه يقال: من {أحسن من الله} أي المستجمع لصفات الكمال {حكمًا} ثم زاد في تقريعهم بكثافة الطباع وجمود الأذهان ووقوف الأفهام بقوله معبرًا بلام البيان إشارة إلى المعنى بهذا الخطاب: {لقوم} أي فيهم نهضة وقوة محاولة لما يريدونه {يوقنون} أي يوجد منهم اليقين يومًا ما وأما غيرهم فليس بأهل الخطاب فكيف بالعتاب! إنما عتابه شديد العقاب، وفي ذلك أيضًا غاية التبكيت لهم والتقبيح عليهم من حيث إنهم لم يزالوا يصفون أهل الجاهلية بالضلال، وأن دينهم لم ينزل الله به من سلطان، وقد عدلوا في هذه الأحكام إليه تاركين جميع ما أنزل الله من كتابهم والكتاب الناسخ له، فقد ارتكبوا الضلال بلا شبهة على علم، وتركوا الحق المجمع عليه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قرأ ابن عامر {تبغون} بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على المغايبة، وقرأ المسلمي {لفاسقون أَفَحُكْمَ الجاهلية} برفع الحكم على الابتداء، وإيقاع {يَبْغُونَ} خبرًا وإسقاط الراجع عنه لظهوره، وقرأ قتادة {أبحكم الجاهلية} والمراد أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام بالجاهلية، فأرادوا بشهيتهم أن يكون محمد خاتم النبيّيين حكمًا كأولئك الحكام. اهـ.
قال الفخر:
في الآية وجهان:
الأول: قال مقاتل: كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدًا عليه الصلاة والسلام، فلما بعث تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة: بنو النضير إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، وكتابنا واحد، فإن قتل بنو النضير منا قتيلًا أعطونا سبعين وسقًا من تمر، وإن قتلنا منهم واحدًا أخذوا منا مائة وأربعين وسقًا من تمر، وأروش جراحاتنا على النصف من أروش جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، فقال عليه السلام: «فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري، ودم النضري وفاء من دم القرظي، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل، ولا جراحة»، فغضب بنو النضير وقالوا: لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} يعني حكمهم الأول.
وقيل: إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به، فمنعهم الله تعالى منه بهذه الآية، الثاني: أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييرًا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} اللام في قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} للبيان كاللام في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكمًا، ولا أحسن منه بيانًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} {أَفَحُكْمَ} نصب ب {يَبْغُونَ} والمعنى: أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع؛ كما تقدم في غير موضع، وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء؛ فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل.
الثانية روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} فكان طاوس يقول: ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ وفِسخ؛ وبه قال أهل الظاهر.
وروي عن أحمد بن حنبل مثله، وكرهه الثوري وابن المبارك وإسحاق؛ فإن فعل ذلك أحد نفذ ولم يردّ، وأجاز ذلك مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي؛ واستدلوا بفعل الصدّيق في نحله عائشة دون سائر ولده، وبقوله عليه السلام: «فارجعه» وقوله: «فأشهِد على هذا غيري» واحتج الأولون بقوله عليه السلام لبشِير: «ألك ولد سوى هذا» قال نعم، فقال: «أَكلّهم وهبتَ له مثل هذا» فقال لا، قال: «فلا تُشهدني إذًا فإني لا أشهد على جَوْر» في رواية «وإني لا أشهد إلا على حق» قالوا: وما كان جَوْرًا وغير حق فهو باطل لا يجوز.
وقوله: «أشهِد على هذا غيري» ليس إذنًا في الشهادة وإنما هو زجر عنها؛ لأنه عليه السلام قد سماه جَوْرًا وامتنع من الشهادة فيه؛ فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين في ذلك بوجه.
وأما فعل أبي بكر فلا يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله قد كان نَحَل أولاده نُحلًا يعادل ذلك.
فإن قيل: الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقًا، قيل له: الأصل الكلي والواقعة المعينة المخالفة لذلك الأصل لا تَعَارض بينهما كالعموم والخصوص.
وفي الأصول أن الصحيح بناء العام على الخاص؛ ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محرّم، وما يؤدي إلى المحرّم فهو ممنوع؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» قال النعمان.
فرجع أبي فرد تلك الصدقة، والصدقة لا يعتصرها الأب بالإنفاق وقوله: «فارجعه» محمول على معنى فاردده، والرد ظاهر في الفسخ؛ كما قال عليه السلام: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» أي مردود مفسوخ.
وهذا كله ظاهر قوي، وترجيح جلي في المنع.
الثالثة قرأ ابن وثَاب والنَخَعي {أَفَحُكْمُ} بالرفع على معنى يبغونه؛ فحذف الهاء كما حذفها أبو النجم في قوله:
قد أصبحت أُم الخِيار تَدَّعي ** علي ذنبًا كلّه لم أصْنِع

فيمن روى «كلّه» بالرفع.
ويجوز أن يكون التقدير: أفحكمُ الجاهلية حكمٌ يبغونه، فحذف الموصوف.
وقرأ الحسن وقَتَادة والأعرج والأعمش {أفَحَكَمَ} بنصب الحاء والكاف وفتح الميم؛ وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة إذ ليس المراد نفس الحَكَم، وإنما المراد الحُكمْ؛ فكأنه قال: أفحُكمْ حَكَم الجاهلية يبغون.
وقد يكون الحَكَم والحاكم في اللغة واحدًا وكأنهم يريدون الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية؛ فيكون المراد بالحكم الشيوع والجنس، إذ لا يراد به حاكم بعينه؛ وجاز وقوع المضاف جنسًا كما جاز في قولهم: منعت مِصر إردبها، وشبهه.
وقرأ ابن عامر {تبغون} بالتاء الباقون بالياء.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} هذا استفهام على جهة الإنكار بمعنى: لا أحد أحسن؛ فهذا ابتداء وخبر.
و{حكما} نصب على البيان.
لقوله: {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي عند قوم يوقنون. اهـ.