فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

وقوله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية؟ وقيل: محل الهمزة بعد الفاء، وقدمت أن لها الصدارة، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، أو الأمة الجاهلية، وحكمهم: ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أهل الجاهلية، وحكمهم: ما ذكر، فقد روي أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة طلب بعضهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال عليه الصلاة والسلام: «القتلى بواء فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك» فنزلت، وقرأ ابن عامر تبغون بالتاء، وهي إما على الالتفات لتشديد التوبيخ، وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ، وقرأ ابن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم {أَفَحُكْمَ} بالرفع على أنه مبتدأ، و{يَبْغُونَ} خبره، والعائد محذوف، وقيل: الخبر محذوف، والمذكور صفته أي حكم يبغون، واستضعف حذف العائد من الخبر، وذكر ابن جني أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة والصفة كقوله:
قد أصبحت أم الخيار تدّعي ** عليّ ذنبًا كله لم أصنع

وقال أبو حيان وحسن الحذف في الآية شبه {يَبْغُونَ} برأس الفاصلة فصار كالمشاكلة، وزعم أن القراءة المذكورة خطأ خطأ كما لا يخفى، وقرأ قتادة {أَفَحُكْمَ} بفتح الفاء والحاء والكاف، أي أفحاكما كحكام الجاهلية يبغون وكانت الجاهلية تسمى من قبل كما أخرج ابن أبي حاتم عن عروة عالمية حتى جاءت امرأة فقالت يا رسول الله كان في الجاهلية كذا وكذا فأنزل الله تعالى ذكر الجاهلية وحكم عليهم بهذا العنوان.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا} إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى، أو مساو له كما يدل عليه الاستعمال وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي عند قوم، فاللام بمعنى عند، وإليه ذهب الجبائي، وضعفه في «الدر المصون»، وصحح أنها للبيان متعلقة بمحذوف كما في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] وسقيًا لك، أي تبين وظهر مضمون هذا الاستفهام الإنكاري لقوم يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم وأما غيرهم فلا يعلمون أنه لا أحسن حكمًا من الله تعالى، ولعل من فسر بعند أراد بيان محصل المعنى، وقيل: إن اللام على أصلها، وأنها صلة أي حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام وأعدلها، وهذه الجملة حالية مقررة لمعنى الإنكار السابق. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}.
فَرّعت الفاء على مضمون قوله: {فإن تولّوا فاعلم} [المائدة: 49] الخ استفهامًا عن مرادهم من ذلك التولّي، والاستفهام إنكاري، لأنّهم طلبوا حكم الجاهليّة.
وحكم الجاهليّة هو ما تقرّر بين اليهود من تكايُل الدّماء الّذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب، وهم أهلُ جاهلية، فإنّ بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدّم؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية، وهو العدول عن الرجم الّذي هو حكم التّوراة.
وقرأ الجمهور {يَبغون} بياء الغائب، والضمير عائد ل {مَن} من قوله: {ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله} [المائدة: 47].
وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنّه خطاب لليهود على طريقة الالتفات.
والواو في قوله: {ومن أحسن من الله حكمًا} واو الحال، وهو اعتراض، والاستفهام إنكاري في معنى النفي، أي لا أحسن منه حكمًا.
وهو خطاب للمسلمين، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا.
وقوله: {لقوم يوقنون} اللام فيه ليست متعلّقة بـ {حكمًا} إذ ليس المراد بمدخولها المحكومَ لهم، ولا هي لام التّقوية لأنّ {لقوم يوقنون} ليس مفعولًا ل {حُكمًا} في المعنى.
فهذه اللامُ تُسمّى لام البيان ولام التبيين، وهي الّتي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبرًا أم إنشاء، وهي الواقعة في نحو قولهم: سَقْيًا لك، وَجَدْعًا له، وفي الحديث «تبًّا وسُحقًا لمن بَدّل بَعْدي»، وقوله تعالى: {هيهات هيهات لِما توعدون} [المؤمنون: 36] {حاش لله} [يوسف: 51].
وذلك أنّ المقصود التّنبيه على المراد من الكلام.
ومنه قول تعالى عن زليخا {وقالت هيتَ لك} [يوسف: 23] لأنّ تهيّؤَها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له {هيت لك} [يوسف: 23]، إذا كان {هيت} اسمَ فِعْللِ مُضي بمعنى تهيّأتُ، ومثل قوله تعالى هنا: {ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون}.
وقد يكون المقصود معلومًا فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو {حاشَ لله} [يوسف: 51]، وهي حينئذٍ جديرة باسم لام التبيين، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم: سَقيًا لك ورعيًا، ونحوهما، وفي قوله: {هِيتَ} [يوسف: 23] اسمَ فعل أمر بمعنى تَعالَ.
وإنّما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية، لأنّ لام التّقوية يصحّ الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها، وَفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلاّ معها. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ومن أحسن من الله حكمًا} قال ابن عباس: ومن أعدل؟!
وفي قوله: {لقوم يوقنون} قولان:
أحدهما: يوقنون بالقرآن، قاله ابن عباس.
والثاني: يوقنون بالله، قاله مقاتل.
وقال الزجاج: من أيقن تبيّن عدلَ الله في حُكمه. اهـ.

.قال البيضاوي:

{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} الذي هو الميل والمداهنة في الحكم، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى. وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ، و{يَبْغُونَ} خبره، والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولًا} واستضعف ذلك في غير الشَعر وقرئ أفحكم الجاهلية أي يبغون حاكمًا كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم. وقرأ ابن عامر {تبغون} بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي عندهم، واللام للبيان كما في قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكمًا من الله سبحانه وتعالى. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أفحكم الجاهلية يبغون} هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل.
وقال الحسن: هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله.
والحكم حكمان: حكم بعلم، فهو حكم الله.
وحكم بجهل فهو حكم الشيطان.
وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية.
{ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون} أي لا أحد أحسن من الله حكمًا.
وتقدّم {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فجاءت هذه الآية مشيرة لهذا المعنى والمعنى: أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل.
وهو استفهام معناه التقرير، ويتضمن شيئًا من التكبر عليهم.
واللام في: لقوم يوقنون، للبيان فتتعلق بمحذوف أي: في هيت لك وسقيًا لك أي: هذا الخطاب.
وهذا الاستفهام لقوم يوقنون قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية: وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك، ويظهر لقوم يوقنون.
وقيل: اللام بمعنى عند أي عند قوم يوقنون، وهذا ضعيف.
وقيل: تتعلق بقوله: حكمًا، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر.
ومتعلق يوقنون محذوف تقديره: يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس.
وقيل: يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل.
وقال الزجاج: يوقنون يثبتون عهد الله تعالى في حكمه، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكمًا. اهـ. باختصار يسير.

.قال السعدي:

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله. فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز- بإيقانه- ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين- عقلا وشرعا- اتباعه. واليقين، هو العلم التام الموجب للعمل. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: إذا كثرت عليك الخصوم الوهمية أو الواردات القلبية، والتبس عليك أمرهم، ولم تدر أيهما تتبع؟ فاحكم بينهم بالكتاب والسنة، فمن وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإن من أمَّر الكتاب والسُّنة على نفسه نطق بالحكمة، وإن وافق أكثرُ من واحد الكتاب أو السنة، فانظر أثقلهم على النفس، فإنه لا يثقل عليها إلا ما هو حق، ولا تتبع أهواء النفوس والخواطر، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل على قلبك من العلوم والأسرار، فإن متابعة الهوى يُعمي القلب عن مطالعة الأسرار، إلا إن وافق السُّنة.
قيل لعمرَ بن عبد العزيز: ما ألذُ الأشياءِ عندك؟ قال: حق وافق هواي. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم «لاَ يُؤمِنُ أُحَدُكُم حَتَّى يكُون هواه تابعًا لما جئتُ به»، وفي الحِكَم: «يُخاف عليك أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخاف عليك من غَلِبَةِ الهوى عليك».
فمن تولى عن هذا المنهاج الواضح، وجعل يتبع الهوى ويسلك طريق الرخص، فليعلم أن الله أراد أن يعاقبه ببعض سواء أدبه، حتى يخرج عن منهاج السالكين، والعياذ بالله، أو يؤدبه في الدنيا إن كان متوجهًا إليه. اهـ.