فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} والحق هنا يتساءل: هل يرغبون في الاستمرار بالاعتقاد الخاطئ الجاهل؟ والأمر مع الأمي- كما عرفنا- يختلف عن الأمر مع الجاهل؛ لأنه يكفيك أن تقول للأمي العلم الذي تريد تعليمه إياه ويقبله منك، أما الجاهل فلابد للتعامل معه من عملين.. الأول أن تجعله يحذف ويستبعد من باله القضية الخاطئة، والثاني أن تجعله يقتنع بالقضية الصحيحة. والذي يرهق الدعاة إلى الدين هم الجهلة هؤلاء الذين يعتقدون اعتقادًا خاطئًا يتضمن قضايا باطلة.
لكن ماذا إن كانت النسبة مجالًا للنفي ومجالأً للإثبات؟ إن كان النفي مساويًا للإثبات فهي نسبة شك. وإن غلب الإثبات فهذا ظن. وإن كان النفي راجحًا فذلك هو الوهم. وهكذا يتضح لنا أن قضية الجهل قضية صعبة، والذي يسبب التعب في هذه الدنيا هم الجهلة؛ لأنهم يعتقدون في قضايا خاطئة. فإذا كان هناك حكم من الله. فلماذا لا يرتضون إذن؟ أيريدون حكم الجاهلية؟ وكان أهل الكتاب أنفسهم يسفهون حكم الجاهلية.
ولنلحظ أن هذا التسفيه كان في زمن المواجهة بين الجاهلية وبين أهل الكتاب. وكانوا يستفتحون عن أهل المدينة ومكة. وكثيرًا ما قالوا: لقد أظلّنا عهد نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. ولكن ما إن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالوا العكس، ماذا قالوا للجاهلين؟ هاهوذا الحق يخبرنا بما قالوا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلًا} [النساء: 51].
وقد ذهب بعض من أحبار اليهود إلى قريش، وسألهم بعض من سادة قريش: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم فأخبرونا عنا وعن محمد. فقال الأحبار: ما أنتم وما محمد؟ فقال سادة قريش: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العاني ونصل الأرحام ونسقي الحجيج وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال الأحبار: أنتم خير منه وأهدى سبيلا. وبذلك زوروا القول.
وينقل الرواة قصة أخرى في هذا الموضع، أن واحدًا من أحبار اليهود قال لأبي سفيان: أنتم والله أهدى سبيلًا مما هو عليه. وقال الأحبار ذلك حسدًا لرسول الله.
إذن فهل يرتضي أهل الكتاب حكم الجاهلية؟ لا. ولكنه التناقض والتضارب. وماداموا قد تناقضوا مع أنفسهم صار من السهل أن يتناقضوا مع الكتاب الذي نزل إليهم. ولذلك يتساءل الحق:
{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} ثم يأتي من بعد ذلك بالمقابل وهو قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا}. وسبحانه لم يقل: إن الأحسن في الحكم هم المسلمون لجواز أن يكون من المسلمين من ينحرف، لذلك رد الأمر إلى ما لا يتغير أبدًا وهو حكم الله.
وحين يقرر سبحانه ذلك فإنه- اولا- يعلم أنه سيأتي قوم مسلمون وينحرفون عن المنهج.
ونحن نرى في بعض الأحيان سلوكًا منحرفًا من مسلم، فهل نلصق هذا السلوك بالإسلام؟ لا. بل ننظر إلى حكم الله في كتابه. وعندما نرى أن حكم الله يجرم فعلًا وله عقوبة، فالعقوبة تقع على المسلم المنحرف أيضًا. والمثال قوله الحق: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وهذا الحكم يطبق على المسلم وغير المسلم، إذن فلا نقول هذا حكم المسلمين وذلك حكم الجاهلية. ولكننا نقول: إنه حكم صاحب المنهج وهو الله.
ونلحظ أن هناك استفهامًا في قوله الحق: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا}. والاستفهام هو نقل صورة الشيء في الذهن، لا نقل حقيقة الشيء. وساعة يطلب المتكلم من المخاطب أن ينقل إليه الفهم، هنا نقول: هل كان المتكلم لا يعلم الحكم؟ قد يصح ذلك في الحياة العادية. وقد نراه حين يقول إنسان لآخر: من زارك أمس؟ فنكون أمام حالة استفهام عن الذي زاره، تلك هي حقيقة الاستفهام، لكن ما بالنا إذا كان الذي يتكلم ويستفسر لا تخفى عليه خافية، إنه سبحانه يطلب- منا أن نجيب على سؤاله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا}. وتلك عظمة الأداء.
وأضرب مثالًا آخر- ولله المثل الأعلى- عندما يأتيك إنسان ويدعي أنك لم تحسن إليه لأنه كان سجينًا مثلًا وأنت الذي أخرجته من السجن. فتقول له: من الذي ذهب ودفع عنك الكفالة وأخرجك من الحبس؟
إنك أنت الذي فعلت ولا تريد أن تقول له: لقد فعلت من أجلك كذا وكذا، ولكنك تريده هو أن ينطق بما فعلته له، ولا تقول ذلك إلا وأنت واثق أنه لن يجد جوابًا إلا الاعتراف بأنك أنت الذي صنعت له كذا وكذا، وبذلك تصبح المسألة إقرارًا وليس إخبارًا.
{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} فالحق عالم أنهم حين يديرون رءوسهم في الجواب، لن يجدوا إلا أن يقولوا: يارب أنت أحسن حكمًا. وهذا إقرار منهم وإخبار أيضًا. أما عند المؤمن فالأمر يختلف تمامًا؛ لأن المؤمن بعترف ويقر بفضل الله عليه.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالذي يفهم أن حكم الله هو الأفضل هم القوم الذين دخلوا إلى مرحلة اليقين. ونعلم أن مراحل اليقين تتفاوت فيما بينها، فعندما يخبرك إنسان صادق في قضية ما فأنت تعلم هذه القضية. كأن يقول لك: لقد ذهبت إلى نيويورك. وهذه المدينة تقع على عدد من الجزر وبها عمارات شاهقة والعنف منتشر فيها. والناس تبدو وكأنها ممسوسة من فرط الهوس على الثروة. وحين تسمع هذا الصادق فأنت تأخذه على محمل الجد وتعتبر كلامه يقينًا وهذا هو علم اليقين، أي أنه إخبار من إنسان تثق فيه لأنه صادق.
وبعد ذلك يأتي هذا الإنسان ليوجه لك الدعوة، فتركب معه الطائرة، وتطير الطائرة على ارتفاع يساوي أربعين ألف قدم، وبعد إحدى عشرة ساعة تهبط الطائرة قليلًا؛ لترى أضواء مدينة صاخبة، ويقول لك صاحبك: هذه هي نيويورك، وتلك هي ناطحات السحاب.
هكذا صار علم اليقين عين يقين.
وعندما تنزلان معًا إلى شوارع نيويورك فأنتما تسيران إلى جزيرة مانهاتن. وتصعد إلى برج التجارة أعلى ناطحات السحاب في نيويورك، وهذا هو حق اليقين.
إذن: فمراحل اليقين ثلاث: علم يقين: إذا أخبرك صادق بخبر ما، وعين يقين: إذا رأيت أنت هذا الخبر، وحق يقين: إذا دخلت وانغمست في مضمون وتفاصيل هذالخبر. وقديمًا قلت لتلاميذي مثالًا محددًا لأوضح الفارق بين ألوان اليقين، قلت لهم: لقد رأيت في أندونيسيا ثمرة من ثمار الموز يبلغ طول الثمرة الواحدة نصف المتر. وبالطبع صدقني التلاميذ؛ لأنهم يصدفون قولي. وقد نقلت لهم صورة علمية. وصار لديهم علم يقين. وبعد ذلك أدخل إلى غرفة وأفتح حقيبة وأخرج منها ثمرة الموز التي يبلغ طولها نصف المتر. وبذلك يصير علم اليقين عين يقين. وبعد ذلك أمسكت بسكين وقمت بتقشير ثمرة الموز ووزعت على كل واحد منهم قطعة. وهكذا صار لديهم حق يقين. وحين يطلق الحق «اليقين» فهو يشمل الذي علم والذي تحقق.
فأهل الأدلة، علموا علم اليقين، وأهل المرائي والمشاهدات علموا عين اليقين، وأهل الفيوضات والتجليات وصلوا إلى حق اليقين. والمؤمنون بالله يقول الواحد منهم: أنا بمجرد علم اليقين موقن تمامًا ولا انتظر حق اليقين لأني لا أجرؤ على التكذيب؛ لذلك نجد أن سيدنا الإمام عليا- كرم الله وجهه- يقول: لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينًا. {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 1-7].
والبداية تكون علم اليقين، ثم نرى الجحيم ونحن نسير على الصراط فتصير عين اليقين، ومن لطف الله أنه جعلنا- نحن المسلمين- لا نراها حق اليقين. وهو القائل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71].
هو يعطينا صورة الجحيم. لكن حينما أراد الحق أن يعطينا صورة حق اليقين، فقد جاء بها في قوله الحق: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين * أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75-82].
كل ذلك مقدمة ليقول الحق: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95].
وما يذكره الحق هنا عن منزلة المصدق المؤمن إن هذه المنزلة هي الجنة ويرى ذلك عين اليقين. أما منزلة المكذب الكافر، فله مكانه في النار؛ لذلك سيرى كل الناس النار كعين اليقين. أما من يدخله الحق النار- والعياذ بالله- فسيعاني منها حق اليقين، وسينعم المؤمنون بالجنة حق اليقين. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا وَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ أَلْزَمُوهُمْ إيَّاهُ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ لَمْ يَأْخُذُوهُمْ بِهِ؛ فَقِيلَ لَهُمْ: أَفَحُكْمُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ تَبْغُونَ وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقِيلَ: إنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ إلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ بِجَهَالَةٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا} إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِهِ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ؛ وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ حُكْمًا أَحْسَنُ مَنْ حُكْمٍ كَمَا لَوْ خُيِّرَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ نَصًّا وَعَرَفَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرِ كَانَ الْأَفْضَلُ أَحْسَنَ.
وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْكُمُهُ الْمُجْتَهِدُ بِمَا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ، لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي النَّظَرِ أَوْ لِتَقْلِيدِهِ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ. اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقًا لما بين يديه من التوراة. وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.
فقد آتى الله عيسى ابن مريم الإنجيل، ليكون منهج حياة، وشريعة حكم.. ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعًا إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة. وقد جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة، فاعتمد شريعتها- فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة.. وجعل الله فيه هدى ونورًا، وهدى وموعظة.. ولكن لمن؟ {للمتقين}. فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور.. أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة، فلا تبلغ إليها الموعظة؛ ولا تجد في الكلمات معانيها؛ ولا تجد في التوجيهات روحها؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب.. إن النور موجود، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة، وإن الهدى موجود، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة، وإن الموعظة موجودة، ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي.
وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونورًا وموعظة للمتقين، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل.. أي إنه خاص بهم، فليس رسالة عامة للبشر- شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول، قبل هذا الدين الأخير- ولكن ما طابق من شريعته- التي هي شريعة التوراة- حكم القرآن فهو من شريعة القرآن. كما مر بنا في شريعة القصاص.
وأهل الإنجيل كانوا إذن مطالبين أن يتحاكموا إلى الشريعة التي أقرها وصدقها الإنجيل من شريعة التوراة: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه}.
فالقاعدة هي الحكم بما أنزل الله دون سواه. وهم واليهود كذلك لن يكونوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل- قبل الإسلام- وما أنزل إليهم من ربهم- بعد الإسلام- فكله شريعة واحدة، هم ملزمون بها، وشريعة الله الأخيرة هي الشريعة المعتمدة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.
والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه.. وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل. وليست تعني قومًا جددًا ولا حالة جديدة منفصلة عن الحالة الأولى. إنما هي صفة زائدة على الصفتين قبلها، لاصقة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل، ومن أي قبيل.