فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}.
تهيّأت نفوس المؤمنين لقبول النّهي عن موالاة أهل الكتاب بعد ما سمعوا من اضطراب اليهود في دينهم ومحاولتهم تضليل المسلمين وتقليبَ الأمور للرسول صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم بالخطاب بقوله: {يأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى} الآية، لأنّ الولاية تنبنِي على الوفاق والوئام والصّلة وليس أولئك بأهل لولاية المسلمين لبُعد ما بين الأخلاق الدّينيّة، ولإضمارهم الكَيد للمسلمين.
وجرّد النّهي هنا عن التّعليل والتّوجيه اكتفاء بما تقدّم.
والجملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.
وسبب النّهي هو ما وقع من اليهود، ولكن لمّا أريد النّهي لم يُقتصر عليهم لكيلا يحسب المسلمون أنّهم مأذونون في موالاة النّصارى، فلدفع ذلك عطف النّصارى على اليهود هنا، لأنّ السبب الدّاعي لعدم الموالاة واحد في الفريقين، وهو اختلاف الدّين والنفرةُ الناشئة عن تكذيبهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم فالنّصارى وإن لم تجىء منهم يومئذٍ أذاة مثل اليهود فيوشك أن تجيء منهم إذا وُجد داعيها.
وفي هذا ما ينبّه على وجه الجمع بين النّهي هنا عن موالاة النّصارى وبين قوله فيما سيأتي {وليتجِدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى} [المائدة: 82].
ولا شكّ أنّ الآية نزلت بعد غزوة تبوك أو قُربَهَا، وقد أصبح المسلمون مجاورين تخوم بلاد نصارى العرب.
وعن السُدّي أنّ بعض المسلمين بعْد يوم أحُد عزم أن يوالي يهوديًا، وأنّ آخر عزم أن يوالي تصرانيًا كما سيأتي، فيكون ذكر النّصارى غير إدماج.
وعقّبه بقوله: {بعضهم أولياء بعض} أي أنّهم أجدر بولاية بعضهم بعضًا، أي بولاية كلّ فريق منهم بعض أهللِ فريقِه، لأنّ كلّ فريق منهم تتقارب أفراده في الأخلاق والأعمال فيسهل الوفاق بينهم، وليس المعنى أنّ اليهودَ أولياء النّصارى.
وتنوين {بعضٍ} تنوين عوض، أي أولياء بعضهم.
وهذا كناية عن نفي موالاتهم المؤمنين وعن نهي المؤمنين عن موالاة فريق منهما.
والولاية هنا ولاية المودّة والنصرة ولا علاقة لها بالميراث، ولذلك لم يقل مالك بتوريث اليهودي من النّصراني والعكس أخذًا بقول النّبيء صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملّتين».
وقال الشّافعي وأبو حنيفة بتوريث بعض أهل الملل من بعض ورأيا الكفر ملّة واحدة أخذًا بظاهر هذه الآية، وهو مذهب داوود.
وقوله: {ومن يتَولّهم منكم فإنّه منهم}، «من» شرطيّة تقتضي أنّ كلّ من يتولاّهم يصير واحدًا منهم.
جعل ولايتهم موجّبة كونَ المتولّي منهم، وهذا بظاهره يقتضي أنّ ولايتهم دخولٌ في ملّتهم، لأنّ معنى البعضية هنا لا يستقيم إلاّ بالكون في دينهم.
ولمّا كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتّبع الرسول ولم ينافق كان مسلمًا لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل، وقد تأوّلها المفسّرون بأحد تأويلين: إمّا بحمل الولاية في قوله: {ومن يتولّهُم} على الولاية الكاملة الّتي هي الرّضى بدينهم والطعنُ في دين الإسلام، ولذلك قال ابن عطيّة: ومن تولاّهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النّار.
وأمّا بتأويل قوله: {فإنّه منهم} على التشبيه البليغ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب.
قال ابن عطيّة: من تولاّهم بأفعاله من العَضْد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة الواقعة عليهم اهـ.
وقال ابن عاشور:
وهذا الإجمال في قوله: {فإنّه منهم} مبالغة في التّحذير من موالاتهم في وقت نزول الآية، فالله لم يرض من المسلمين يومئذٍ بأن يتولّوا اليهود والنّصارى، لأنّ ذلك يلبسهم بالمنافقين، وقد كان أمر المسلمين يومئذٍ ي حيرة إذ كان حولهم المنافقُون وضعفاء المسلمين واليهود والمشركون فكان من المتعيّن لحفظ الجامعة التّجرّد عن كلّ ما تتطرّق مِنه الرّبية إليهم.
وقد اتّفق عُلماء السنّة على أنّ ما دون الرّضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية لا يُوجب الخروج من الربقة الإسلاميّة ولكنّه ضلال عظيم، وهو مراتب في القُوّة بحسب قوّة الموالاة وباختلاف أحوال المسلمين.
وأعظم هذه المراتب القضية الّتي حدثت في بعض المسلمين من أهل غرناطة الّتي سئل عنها فقهاء غرناطة: محمد الموّاق، ومحمد بن الأزرق، وعليّ بن داوود، ومحمد الجعدالة، ومحمد الفخار، وعليّ القلصادي، وأبو حامد بن الحسن، ومحمد بن سرحونة، ومحمد المشذّالي، وعبد الله الزليجي، ومحمد الحذام، وأحمد بن عبد الجليل، ومحمد بن فتح، ومحمد بن عبد البرّ، وأحمد البقني، عن عصابة من قُواد الأندلس، وفرسانهم لَجَأُوا إلى صاحب قشتالة (بلاد النصارى) بعد كائنة (اللَّسانة) كذا واستنصروا به على المسلمين واعتصموا بحبْل جواره وسكنوا أرض النّصارى فهل يحلّ لأحد من المسلمين مساعدتهم ولأهل مدينة أو حصن أن يأوُوهم.
فأجابوا بأنّ رُكونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم قد دخلوا به في وعيد قوله تعالى: {ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم} فمن أعانهم فهو معين على معصية الله ورسوله، هذا ما داموا مصرّين على فعلهم فإن تابوا ورجعوا عمّا هم عليه من الشقاق والخلاف فالواجب على المسلمين قبولهم.
فاستِدلالهم في جوابهم بهذه الآية يدلّ على أنّهم تأوّلوها على معنى أنّه منهم في استحقاق المقت والمذمة، وهذا الّذي فعلوه، وأجاب عنه الفقهاء هو أعظمُ أنواع الموالاة بعد موالاة الكفر.
وأدنى درجات الموالاة المخالطة والملابسة في التّجارة ونحوها.
ودون ذلك ما ليس بموالاة أصلًا، وهو المعاملة.
وقد عامَل النّبيء صلى الله عليه وسلم يهود خيبر مساقاة على نخل خيبر، وقد بيّنّا شيئًا من تفصيل هذا عند قوله تعالى: {لا يَتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} في سورة آل عمران (28).
وجملة {إنّ الله لا يهدي القوم الظّالمين} تذييل للنّهي، وعموم القوم الظّالمين شمل اليهود والنّصارى، وموقع الجملة التذييلية يقتضي أنّ اليهودَ والنّصارى من القوم الظّالمين بطريق الكناية.
والمراد بالظّالمين الكافرون. اهـ.

.قال السمرقندي:

{إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} يعني: لا يرشدهم إلى الحجة.
ويقال لا يرشدهم ما لم يجتهدوا، ويقصدوا الإسلام. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} عموم فإما أن يراد به الخصوص فيمن سبق في علم الله أن لا يؤمن ولا يهتدي وإما أن يراد به تخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم فليس بمهديّ في ظلمه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}.
لا تجنحوا إلى الموالاة مع أعدائه سبحانه إيثارًا للسكون إلى الحظ، أو احتشامًا من القيام للحق، أو ركونًا إلى قرابة نَسَبٍ، أو استحقاقًا لمودة حميم، أو تهيبًا من استيحاش صديق. بل صمموا عقودكم على التبرِّي منهم بكل وجه فهم بعضهم أولياء بعض، والضدية بينكم وبينهم قائمة إلى الدين. {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ} التحق بهم، وانخرط في سِلكهم، وعُدَّ في جملتهم. اهـ.

.من فوائد الشنقيطي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ولكنه بين في مواضع اخر أن ولاية بعضهم لبعض زائفة ليست خالصة، لأنها لا تستند على أساس صحيح، هو دين الإسلام، فبين أن العداوة والبغضاء بين النصارى دائمة إلى يوم القيامة، بقوله: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة} [المائدة: 14]، وبين مثل ذلك في اليهود أيضًا، حيث قال فيهم: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة} [المائدة: 64]، والظاهر أنها في اليهود فميا بينهم، كما هو صريح السياق، خلافًا لمن قال: إنها بين اليهود، والنصارى.
وصرح تعالى بعدم اتفاق اليهود معللًا له بعدم عقولهم في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شتى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].
تنبيه:
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أن اليهودي، والنصراني، يتوارثان، ورده بعض العلماء، بأن المراد بالآية، ولاية اليهود لخصوص اليهود، والنصارى لخصوص النصارى، وعلى هذا المعنى فلا دليل في الآية لتوارث اليهود والنصارى.
قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
ذكر في هذه الآية الكريمة، أن من تولى اليهود، والنصارى، مِن المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم. وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متوليهم لو كان مؤمنًا ما تولاهم، وهو قوله تعالى: {ترى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولكن كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80-81].
ونهى في موضِع آخر عن تَوليهم مبينًا سبب التنفير منه. وهو قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور} [الممتحنة: 13].
وبين في موضع آخر: أن محل ذلك، فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف، وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة} [آل عمران: 28] فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا وإيضاح، لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة.
ومن يأتي الأمور على اضطرار ** فليس كمثل آتيها اختيارا

ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدًا اختيارًا، رغبة فيهم أنه كافر مثلهم. اهـ.