فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {فَتَرَى الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} بيان لكيفية توليهم، وإشعارٌ بسببه وبما يؤول إليه أمرُهم، والفاء للإيذان بترتُّبه على عدم الهداية، والخطابُ إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، وإما لكل أحدٍ ممن له أهليةٌ له، وفيه مزيدُ تشنيع للتشنيع، أي لا يهديهم بل يذرهم وشأنَهم فتراهم الخ، وإنما وُضع موضعَ الضمير الموصولُ ليُشارَ بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق ورَخاوة العَقْد في الدين، وقوله تعالى: {يسارعون فِيهِمْ} حال من الموصول والرؤية بصرية، وقيل: مفعولٌ ثانٍ والرؤية قلبية، والأول هو الأنسبُ بظهور نفاقهم، أي تراهم مسارعين في موالاتهم، وإنما قيل: فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها، وإيثارُ كلمة «في» على كلمة «إلى» للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يسارعون في الخيرات} لا أنهم خارجون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} وقرئ {فيَريَ} بياء الغَيْبة على أن الضمير لله سبحانه، وقيل: لمن تصِحُّ منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصولُ والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي ويرى القومُ الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم، فلما حُذفت أنْ انقلب الفعلُ مرفوعًا كما في قول من قال:
ألا أيُّهذا الزَّاجِريْ أحْضُرُ الوغى

والمراد بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأضرابُه الذين كانوا يسارعون في مُوادَّةِ اليهود ونَصارى نجرانَ، وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبَهم صروفُ الزمان وذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وهو حال من ضمير يسارعون، والدائرةُ من الصفات الغالبة التي لا يُذكر معها موصوفُها، أي تدور علينا دائرةٌ من دوائر الدهر ودَوْلةٌ من دُولِه بأن ينقلبَ الأمرُ وتكون الدولةُ للكفار، وقيل: نخشى أن يصيبنا مكروهٌ من مكاره الدهر كالجدْب والقَحْط فلا يعطونا المِيرةَ والقَرْض. روي «أن عبادة بنَ الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي مواليَ من اليهود كثيرًا عددُهم وإني أبرأ إلى الله ورسولِه من وَلايتهم، وأُوالي الله ورسوله. فقال عبد اللَّه بنُ أُبي: إني رجل أخاف الدوائرَ لا أبرأ من وِلاية مواليَّ» وهم يهودُ بني قَيْقُناع، ولعله يُظهرُ للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخيرَ ويُضمِرُ في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطعٌ لأطماعهم الفارغة وتبشيرٌ للمؤمنين بالظفر، فإن «عسى» منه سبحانه وعدٌ محتوم، لما أن الكريمَ إذا أطْمَعَ أطعم لا محالة فما ظنك بأكرمِ الأكرمين؟ و{أن يأتي} في محل النصب على أنه خبرُ عسى وهو رأي الأخفش، أو على أنه مفعول به وهو رأيُ سيبويه، لئلا يلزَمَ الإخبارُ عن الجُثَّة بالحدَث كما في قولك: عسى زيد أن يقوم، والمراد بالفتح فتحُ مكةَ، قاله الكلبي والسُّديّ، وقال الضحاك: فتحُ قُرى اليهودِ من خيبرَ وفَدَك، وقال قَتادة ومقاتِلٌ: هو القضاءُ الفصلُ بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزازِ الدين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} بقطع شأفةِ اليهود من القتل والإجلاء {فَيُصْبِحُواْ}.
أي أولئك المنافقون المتعلَّلون بما ذُكر وهو عطفٌ على ما يأتي داخلٌ معه في حيز خبرِ عسى، وإن لم يكن فيه ضميرٌ يعود إلى اسمها، فإن فاء السببية مغنيةٌ عن ذلك، فإنها تجعل الجملتين كجملة واحدة {على مَا أَسَرُّواْ في أَنفُسِهِمْ نادمين} وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره عليه الصلاة والسلام، وتعليقُ الندامة به لا بما كانوا يُظهرونه من موالاة الكفرة لِما أنه الذي كان يحمِلُهم على الموالاة ويُغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {فَتَرَى الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي نفاق كعبد الله بن أبيّ وأضرابه كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان لكيفية توليتهم وإشعار بسببه؛ وبما يؤول إليه أمرهم، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية وهي للسببية المحضة.
وجوز الكرخي كونها للعطف على {إِنَّ الله} [المائدة: 51] الخ من حيث المعنى، والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، وإما لكل من له أهلية، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما «كمن من المرض».
والرؤية إما بصرية.
وقوله تعالى: {يسارعون فِيهِمْ} حال من «المفعول» وهو الأنسب بظهور نفاقهم، وإما قلبية والجملة في موضع المفعول الثاني، والمراد على التقديرين مسارعين في موالاتهم إلا أنه قيل فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها، وإيثار كلمة {فِى} على كلمة إلى للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها.
وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفي، وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرًا بالأخفى.
واختير أن تعدّى المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول، وقرئ فيرى بياء الغيبة على أن الضمير كما قال أبو البقاء لله تعالى، وقيل: لمن يصح منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصول، والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن انقلب الفعل مرفوعًا كما في قوله:
ألا أي هذا الزاجري احضر الوغى

وقوله عز وجل: {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} حال من فاعل {يسارعون}، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها داورة لأنها من دار يدور، ومعناها لغة على ما في «القاموس» ما أحاط بالشيء، وفي «شرح الملخص» إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدًا في جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضًا انتهى، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة؟ فقيل: إنها حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقيل: بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة؛ فسمى ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازًا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى.
وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه، لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضًا مجاز لأنه من باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال: إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازًا بالوجه الذي كان به مجازًا في الاعتبار الأول، فإن وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط، وههنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا تكلف بعيد، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا فتدبر، وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها، وقولهم هذا كان اعتذارًا عن الموالاة أي نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دوله بأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم قاله مجاهد وقتادة والسدي.
وعن الكلبي أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه كالجدب والقحط فلا يميروننا ولا يقرضوننا، ولا يبعد من المنافقين أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي، ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة المنبىء عن الشك في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رد الله تعالى عليهم عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} فإن عسى منه عز وجل وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين، والمراد بالفتح فتح مكة كما روي عن السدي وقيل: فتح بلاد الكفار واختاره الجبائي، وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزاز الدين، وأن يأتي في تأويل المصدر، وهو خبر لعسى على رأي الأخفش، ومفعول به على رأي سيبويه لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة، والجلاء لبني النضير عند مقاتل، وقيل: إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم، وروي عن الحسن والزجاج، وقيل: موت رأس النفاق، وحكى ذلك عن الجبائي.
{فَيُصْبِحُواْ} أي أولئك المنافقون، وهو عطف على {يَأْتِىَ} داخل معه في حيز خبر عسى، وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم، والمراد فيصيروا {على مَا أَسَرُّواْ في أَنفُسِهِمْ} من الكفر والشك في أمر النبي صلى الله عليه وسلم {نادمين} خبر يصبح وبه يتعلق {على مَا أَسَرُّواْ} وتخصيص الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي بأصله وسببه.
وأخرج ابن منصور وابن أبي حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير يقرأ عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين قال عمرو: لا أدري أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فترى الّذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم} تفريع لحالة من موالاتهم أريد وصفها للنّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وقعت في حضرته.
والمرض هنا أطلق على النفاق كما تقدّم في قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} في سورة البقرة (10).
أطلق عليه مرض لأنّه كفر مفسد للإيمان.
والمسارعة تقدّم شرحها في قوله تعالى: {لا يحْزنك الّذين يسارعون في الكفر} [المائدة: 41].
وفي المجرور مضاف محذوف دلّت عليه القرينة، لأنّ المسارعة لا تكون في الذوات، فالمعنى: يسارعون في شأنهم من موالاتهم أو في نصرتهم.
والقولُ الواقع في {يقولون نَخشى} قولُ لسان لأنّ عبد الله بن أبيّ بنَ سلول قال ذلك، حسبما رُوي عن عطيّة الحوفي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة أنّ الآية نزلت بعد وقعة بدر أوبعد وقعة أحُد وأنّها نزلت حين عزم رسول الله على قتال بني قينقاع.
وكان بنو قينقاع أحلافًا لعبد الله بن أبي بن سلول ولعُبادة بن الصامت، فلمّا رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فقال: يا رسول الله إنّي أبرأ إلى الله من حِلف يهود وولائهم ولا أوالي إلاّ الله ورسولَه، وكان عبد الله بن أبيّ حاضرًا فقال: أمَّا أنا فلا أبرأ من حلفهم فإنّي لابد لي منهم إنّي رجل أخاف الدّوائر.
ويحتمل أن يكون قولهم: {نخشى أن تصيبنا دائرة}، قولًا نفسيًا، أي يقولون في أنفسهم.