فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ اللهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مُنَافِقِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ: {فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أَيْ فَالرَّجَاءُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَصِدْقِهِ مَا وَعَدَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يُعَادِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ؛ كَفَضِيحَتِهِمْ أَوِ الْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَيُصْبِحُوا نَادِمِينَ عَلَى مَا كَتَمُوهُ وَأَضْمَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَوَقُّعِ الدَّائِرَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْفَتْحُ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِفَتْحِ الْبِلَادِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} (7: 89) وَقَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} (32: 28) وَقِيلَ: الْمُرَادُ فَتْحُ مَكَّةَ، الَّذِي كَانَ بِهِ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَالثِّقَةُ بِقُوَّتِهِ، وَإِنْجَازُ اللهِ وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ أَوَائِلَ السُّورَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَيُمْكِنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فَتْحَ بِلَادِ الْيَهُودِ فِي الْحِجَازِ كَخَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمِ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِهِ بِالْجِزْيَةِ تُضْرَبُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَنْقَطِعُ أَمَلُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْ إِسْرَارِهِمْ بِالْوَلَاءِ لَهُمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِيقَاعِ بِالْيَهُودِ وَإِجْلَائِهِمْ عَنْ مَوْطِنِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ حُصُونِهِمْ وَصَيَاصِيهِمْ، إِمَّا بِالْقَهْرِ وَالْإِيجَافِ عَلَيْهِمْ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ كَبَنِي قُرَيْظَةَ وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى يُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ كَبَنِي النَّضِيرِ.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {وَيَقُولُ} بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطَفَ الْجُمَلِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: فَمَاذَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ؟ وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ، عَطَفَا عَلَى {يَأْتِي}؛ أَيْ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وَأَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مُتَعَجِّبِينَ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُنَافِقِينَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ أَغْلَظَ الْأَيْمَانِ، مُجْتَهِدِينَ فِي تَوْكِيدِهَا، إِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى دِينِكُمْ، وَمَعَكُمْ فِي حَرْبِكُمْ وَسِلْمِكُمْ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «بَرَاءَةٍ» الَّتِي فَضَحَتْهُمْ: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لِمَنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} (9: 56) أَيْ فَهُمْ لِفَرَقِهِمْ وَخَوْفِهِمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ تَقِيَّةً {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} (9: 57) أَيْ يُسْرِعُونَ إِسْرَاعَ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ؛ فِرَارًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَتَوَارِيًا عَنْهُمْ، وَاعْتِصَامًا مِنْهُمْ، أَوْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِمُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ وَمَوَدَّتِهِمُ السِّرِّيَّةِ لَهُمْ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِذَا نَقَضُوا عَهْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَارَبُوهُ؛ يَجِدُونَ مِنْهُمْ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ، أَوْ يُوقِعُونَ الْفَشَلَ وَالتَّخْذِيلَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} (59: 11، 12)... إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونَ مَعْنَاهُ: بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَتَكَلَّفُونَهَا نِفَاقًا؛ لِيُقْنِعُوكُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْكُمْ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْجِهَادِ مَعَكُمْ، فَخَسِرُوا مَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، لَوْ صَلَحَ حَالُهُمْ وَقَوِيَ إِيمَانُهُمْ بِهَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ! وَمَا أَخْسَرَهَا! وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْقِيبًا عَلَى قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ تَعَالَى بِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ إِذْ كَانَتْ تَقِيَّةً، لَا تَقْوَى فِيهَا وَلَا إِخْلَاصَ، وَبِخُسْرَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْفَضِيحَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْجَزَاءِ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ مَا هُوَ صَرِيحٌ، وَفِي «عَسَى» هُنَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الرَّجَاءَ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلتَّحْقِيقِ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصْرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَخَذَلَ اللهُ الْكَافِرِينَ، وَفَضَحَ الْمُنَافِقِينَ، وَظَهَرَ تَأْوِيلُ الْآيَتَيْنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَفْقًا لِقَوْلِهِ: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وَفِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا أَهْلُ الْكِتَابِ بِالنُّبُوَّاتِ، وَهِيَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ فِي صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُكَابِرُونَ فِي نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَيُمَارُونَ فِي نُبُوَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ الصَّرِيحَةِ الثَّابِتَةِ بِالسَّنَدِ وَالدَّلِيلِ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِنُبُوَّاتٍ رَمْزِيَّةٍ تَخْتَلِفُ فِيهَا وُجُوهُ التَّأْوِيلِ يَرُونَا السُّهَى فَنُرِيهِمُ الْقَمَرَ بَلْ نُرِيهِمْ مَا هُوَ أَضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ وَأَظْهَرُ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (24: 40). اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}.
هنا يرى المؤمنون رأي العين ندم هؤلاء. والندم انكسار القلب في الحاضر على تصرف سابق مثلما يرتكب إنسان حماقة وتظهر آثارها من بعد ذلك، فيقول: يا ليتني لم أكن قد فعلت ذلك. إنه انكسار نفس على تصرف سابق. وانكسار النفس يتضح على بشرة الوجه. وساعة يأتي الفتح تجد المنافقين وأهل الكتاب مكبوتين كبتًا قسريًا وهو الكبت الذي لا يجرؤ صاحبه عليه فيدعي أنه فرحان، إنه قسري بإلحاح بِنْيَة، وظهور أثر ذلك على وجوههم.
وهنا يفطن المؤمنون إلى ذلك فيقولون: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}. ولو كان هؤلاء المنافقون من الصادقين لفرحوا ولكانت أساريرهم متهللة، ولظهرت عليهم الغبطة. لكنهم صاروا عكس ذلك، صاروا نادمين مكبوتين.
{وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ} أي حبط عملهم وقولهم: {إنا معكم}. والحبط هو- كما قلنا- الانتفاخ الذي يصيب البهيمة التي تأكل طعامًا غير مناسب لها، فيظن الناس أنها قد سمنت ولكنهم ياتفتون فيجدون أنها مصابة بانتفاخ قاتل.
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} والخسارة في معناها الواضح أن يقل رأس المال. لقد فعل المنافقون ذلك ليستروا وراء المسلمين ولم يسلم لهم هذا الأمر وانكشفوا. اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
نصوص هذا الدرس كله تؤيد ما ذهبنا إليه في تقديم السورة، من أن هذه السورة لم تنزل كلها بعد سورة الفتح التي نزلت في الحديبية في العام السادس الهجري؛ وأن مقاطع كثيرة فيها يرجح أن تكون قد نزلت قبل ذلك؛ وقبل إجلاء بني قريظة في العام الرابع- عام الأحزاب- على الأقل، إن لم يكن قبل هذا التاريخ أيضًا.. قبل إجلاء بني النضير بعد أحد، وبني قينقاع بعد بدر..
فهذه النصوص تشير إلى أحداث، وإلى حالات واقعة في الجماعة المسلمة بالمدينة، وإلى ملابسات ومواقف لليهود وللمنافقين، لا تكون أبدًا بعد كسر شوكة اليهود؛ وآخرها كان في وقعة بني قريظة.
فهذا النص عن إتخاذ اليهود والنصارى أولياء. وهذا التحذير- بل التهديد- بأن من يتولهم فهو منهم. وهذه الإشارة إلى أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم، ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر. وتنفير المسلمين من الولاء لمن يتخذون دينهم هزوًا ولعبًا والإشارة إلى أن هؤلاء يتخذون صلاة المسلمين- إذا قام المسلمون إلى الصلاة- هزوًا ولعبًا... كل أولئك لا يكون إلا ولليهود في المدينة من القوة والنفوذ والتمكن، ما يجعل من الممكن أن تقوم هذه الملابسات، وأن تقع هذه الحوادث؛ وأن يحتاج الأمر إلى هذا التحذير المشدد، وإلى هذا التهديد المكرر؛ ثم إلى بيان حقيقة اليهود؛ والتشهير بهم والتنديد؛ وإلى كشف كيدهم ومناوراتهم ومداوراتهم على هذا النحو، المنوع الأساليب.
وقد ذكرت بعض الروايات أسبابًا لنزول آيات في هذا الدرس؛ يرجع بعضها إلى حادث بني قينقاع بعد غزورة بدر. وموقف عبدالله بن أبى بن سلول. وقوله في ولائه لليهود وولاء اليهود له: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي!
وحتى بدون هذه الروايات، فإن الدراسة الموضوعية لطبيعة النصوص وجّوها، ومراجعتها على أحداث السيرة ومراحلها وأطوارها في المدينة، تكفي لترجيح ما ذهبنا إليه في تقديم السورة عن الفترة التي نزلت فيها..
وتشير نصوص هذا الدرس إلى طريقة المنهج القرآني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها لدورها الذي قدره الله لها؛ كما تشير إلى مقّومات هذا المنهج والمبادىء التي يريد تقريرها في النفس المسلمة وفي الجماعة المسلمة في كل حين. وهي مقومات ومبادىء ثابته، ليست خاصة بجيل من هذه الأمة دون جيل. إنما هي أساس النشأة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة في كل جيل..
إن هذا القرآن يربي الفرد المسلم على أساس إخلاص ولائه لربه ورسوله وعقيدته وجماعته المسلمة، وعلى ضرورة المفاصلة الكاملة بين الصف الذي يقف فيه وكل صف آخر لا يرفع راية الله، ولا يتبع قيادة رسول الله؛ ولا ينضم إلى الجماعة التي تمثل حزب الله.
وإشعاره أنه موضع اختيار الله، ليكون ستارًا لقدرته، وأداة لتحقيق قدره في حياة البشر وفي وقائع التاريخ. وأن هذا الاختيار- بكل تكاليفه- فضل من الله يؤتيه من يشاء. وأن موالاة غير الجماعة المسلمة معناه الارتداد عن دين الله، والنكول عن هذا الاختيار العظيم، والتخلي عن هذا التفضل الجميل..
وهذا التوجه واضح في النصوص الكثيرة في هذا الدرس: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.. {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه. أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله واسع عليم}.. {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.
ثم يربي القرآن وعي المسلم بحقيقة أعدائه، وحقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه. إنها معركة العقيدة. فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وكل أعدائه.. وهم يعادونه لعقيدته ودينه، قبل أي شيء آخر، وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ لأنهم هم فاسقون عن دين الله، ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله: {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون} فهذه هي العقدة؛ وهذه هي الدوافع الأصيلة!
وقيمة هذا المنهج، وقيمة هذه التوجيهات الأساسية فيه، عظيمة. فإخلاص الولاء لله ورسوله ودينه وللجماعة المسلمة القائمة على هذا الأساس، ومعرفة طبيعة المعركة وطبيعة الأعداء فيها.. أمران مهمان سواء في تحقيق شرائط الإيمان أو في التربية الشخصية للمسلم، أو في التنظيم الحركي للجماعة المسلمة.. فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلًا، ولا يكونون في ذواتهم شيئًا، ولا يحققون في واقع الأرض أمرًا ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم، وما لم يتمحض ولاؤهم لله ورسوله ولقيادتهم الخاصة المؤمنة به، وما لم يعرفوا طبيعة أعدائهم وبواعثهم وطبيعة المعركة التي يخوضونها معهم، وما لم يستيقنوا أنهم جميعًا إلب عليهم، وأن بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة والعقيدة الإسلامية على السواء.
والنصوص في هذا الدرس لا تقف عند كشف بواعث المعركة في نفوس أعداء الجماعة المسلمة. بل تكشف كذلك طبيعة هؤلاء الأعداء ومدى فسقهم وانحرافهم، ليتبين المسلم حقيقة من يحاربه، وليطمئن ضميره إلى المعركة التي يخوضها، وليقتنع وجدانه بضرورة هذه المعركة، وأنه لا مفر منها: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض}.. {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء. واتقوا الله إن كنتم مؤمنين. وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}.
{وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون. وترى كثيرًا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون}.. {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا}.. ومن هذه صفاتهم، ومواقفهم من الجماعة المسلمة، وتألبهم عليها، واستهزاؤهم بدينها وصلاتها، لا مناص للمسلم من دفعهم وهو مطمئن الضمير..