فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {ويَقُولُ}: قرأ أبُو عمرو، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ «يَقُول» والباقُون بإسْقَاطِها، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد «الوَاوِ»، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر: الرَّفع كالكُوفِيِّين، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات: {يَقُولُ} من غير واو {ويقول} بالواوِ والنَّصْب، ويقول بالواو والرَّفع، فأمَّا قِرَاءة من قرأ {يَقُول} من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جوابًا لِسُؤالٍ مُقَدَّر، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} إلى قوله: {نَادِمِين}، سأل سَائِلٌ فقال: ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذْ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ} إلى آخره، وهو واضح، و«الواو» سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ «مَكَّةَ» و«المدينَةِ» و«الشَّام»، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ، ونافع المدنِي، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط، بل وافقت روايتهم مصاحفهم على ما تَبيَّن غير مَرَّة، وأما قِرَاءة «الواو» والرَّفع فواضحةٌ أيْضًا؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ بالإخْبَارِ بِهَا، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة، و«الواو» ثابِتَةٌ في مصاحِفَ «الكُوفَة» و«المشرق»، والقارئُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف، والكلام كما تقدَّم أيضًا.
قال الواحدي- رحمه الله-: وحَذْف «الواو» هاهنا كإثباتها، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكرًا من المَعْطُوف عليْهَا، فإن الموصُوفيه بِقَوْله تعالى: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله}، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو، ونَظِيرُه قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ.
وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر.
واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه:
أحدُهَا: أنه منصُوب عَطْفًا على {فَيُصْبِحُوا} على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب {فَيُصْبِحُوا}، وهو الوجهُ الثَّاني، أعْني: كَوْنَهُ مَنْصُوبًا بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد «الفَاء»، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة نَافِع {لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} [عبس: 3: 4] بِنَصبِ {تَنْفَعَهُ} وبقراءة عَاصِم في رواية حَفْصٍ: {لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ} [غافر: 36، 37] بنصب {فأطَّلِع}، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه.
وهذا الوجه- أعني: عَطْفَ {ويقُول} على {فَيُصْبِحوا}- قاله الفَارِسيُّ وجماعة، ونقله ابن عطيَّة، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب.
قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم: «وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب، ولم أره لِغَيْره، وذكروا وُجُوهًا كلها بعيدة مُتعسِّفة». انتهى.
قال شهاب الدِّين: وهذا- كما رأيت- مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين، وهو مرْجوحٌ كا تقرَّر في علم النَّحْو.
الثاني: أنه منصُوب عَطْفًا على المصدر قبْله، وهو الفَتْح كأنَّه قيل: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح}، وبأن يقول، أي: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ}، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر: [الوافر]
للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي ** أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

وقول الآخر: [الطويل]
لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ** تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ

وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه:
أحدها: أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل بـ «أن» والفعل تقديره: أن يَأتِي بأن يفتح، وبأنْ يقول، فيقعُ الفصلُ بقوله: {فَيُصبِحُوا} وهو أجنبي؛ لأنَّه مَعْطُوف على {يأتي}.
الثاني: أن هذا المصْدر- وهو الفَتْح- ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك، نحو: يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك.
الثالث: أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل، فلا يكون المعنى على: «فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا»، فإنه نابٍ عنه نُبُوًّا ظاهرًا.
الثالث- من أوجُه نَصْب {ويقول}-: أنه منصوبٌ عَطْفًا على قوله: {يَأتي} أي: فَعَسَى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء.
وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبرًا على ما هُوَ خَبَر، وذلك أن قوله: {أن يأتي} خبر {عَسَى} وهو صحيحٌ؛ لأن فيه رابطًا عائِدًا على اسم {عَسَى} وهو ضمير الباري تعالى، وقوله: {ويقول} ليس فيه ضمير يعود على اسم {عسى} فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبرًا؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه:
أحدها: أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى، والمعنى: فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح، وبقولِ الذين آمَنُوا، فتكون {عَسَى} تامَّة؛ لإسنادها إلى «أنْ» وما في حَيِّزهَا، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ، وهذا قرِيبٌ من قولهم: «العطْفُ على التَّوهُّم» نحو: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10].
الثاني: أنَّ {أنْ يَأتِيَ} بَدَلٌ من اسْمِ الله تعالى لا خبر، وتكون {عَسَى} حينئذٍ تامَّة، وكأنه قِيل: فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ؛ لأنهم نَصُّوا على أن {عَسَى} و«اخْلَوْلَق» و«أوْشَكَ» من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها: «أنْ يَفعل»، قالوا: ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه، كما قالوا ذَلِكَ في «ظَنّ» وأخواتها: إنَّ «أنْ» و«أنَّ» تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها.
والثالث: أن ثَمَّ ضميرًا مَحْذُوفًا هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع {وَيَقُول} خبرًا عن {عَسَى}، والتقدير: ويقول الذين آمَنُوا به، أي: بِاللَّه، ثم حذف للعلْم به، ذكر ذلك أبو البقاء.
وقال ابن عطيَّة بعد حكايته نَصْبَ {ويقُولَ} عَطْفًا على {يَأتيَ}: «وعندي في مَنْع» عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون «نظرٌ؛ إذ اللَّه تعالى يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه».
قال شهاب الدِّين: قول ابن عطيَّة في ذلك، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيرًا عائدًا على اسم {عَسَى} يَصِحُّ به الرَّبط، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة، وهو النَّصْب: إما عطفًا على {أنْ يَأتِي}، وإما على {فَيُصْبِحُوا}، وإمَّا على «بالفَتْح» وقد تقدم تَحقِيقُهَا.
قوله تعالى: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في انتصَابِه وجهان:
أظهرهما: أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ {أقْسَمُوا} فهو مِنْ مَعْناه، والمعنى: أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين.
والثاني:- أجازه أبو البقاء وغيره- أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم: «افعل ذلك جَهْدَك» أي: مُجْتَهِدًا، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظًا، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره، والمعنى هُنَا: «وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم».
قوله تعالى: {إنَّهُم لمَعَكُمْ} هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ: إنَّا مَعَكُم، وفيه نَظَرٌ؛ إذ يجُوز لك أن تقول: «حَلَفَ زيد لأفْعَلَن» أو «ليفْعَلَنَّ»، فكما جَازَ أنْ تقول: ليفعلن جاز أن يقال: {إنَّهُمْ لَمَعكُم} على الحِكَاية.
قوله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فيها أوجه:
حدها: أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي تعالى بذلك.
الثاني: أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك، وهو قولُ الله تعالى نحو: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17].
الثالث: أنها في محلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف، أعني: كونَهُ إخْبَارًا أو دُعَاءً.
الرابع: أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ، وهو «هؤلاء»، وعلى هذا فيحتمل قوله: {الَّذين أقْسَمُوا} وَجْهَيْن:
أحدهما: أنَّه صفة لاسْم الإشارة، والخبر: {حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ}.
والثاني: أن {الَّذِين} خَبَر أوَّل، و{حَبِطَتْ} خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك، وجعل الزمخْشَرِيّ {حَبِطَت أعمَالهم} مفهمة للتَّعجُّب.
قال: وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل: «ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ»، وأجاز مع كونه تعجُّبًا أن يكون من قولِ المؤمنين، فيكون في محلِّ نَصْب، وأن يكون من قَوْلِ الباري تعالى لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله تعالى بأنه تَعْجِيبٌ، قال: «أوْ مِنْ قول الله- عز وجلَّ- شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال، وتعْجِيبًا من سُوءِ حالِهِمْ» والمعنى: ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة، أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ، وأمَّا في الآخرة فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم، وقرأ أبُو واقد والجرَّاح {حَبَطت} بفتح «الباء»، وهما لُغَتَان، وقد تقدَّم ذلك.
وقوله تعالى: {فأصْبَحُوا} وجه التسبب في هذه الفاء ظاهر. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (54):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نهى عن موالاتهم وأخبر أن فاعلها منهم.
نفى المجاز مصرحًا بالمقصود فقال مظهرًا لنتيجة ما سبق: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان! من يوالهم منكم- هكذا كان الأصل، ولكنه صرح بأن ذلك ترك الدين فقال: {من يرتد} ولو على وجه خفي- بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر {منكم عن دينه} أي الذي معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه، فيبغضهم الله ويبغضونه، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، فالله غني عنهم {فسوف يأتي الله} اي الذي له الغنى المطلق والعظمة البالغة مكانهم وإن طال المدى بوعد صادق لا خلف فيه {بقوم} أي يكون حالهم ضد حالهم، يثبتون على دينهم، وهم أبو بكر والتابعون له بإحسان- رضي الله عنهم.
ولما كانت محبته أصل كل سعادة قدمها فقال: {يحبهم} فيثبتهم عليه ويثيبهم بكرمه أحسن الثواب {ويحبونه} فيثبتون عليه، ثم وصفهم بما يبين ذلك فقال: {أذلة} وهو جمع ذليل؛ ولما كان ذلهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهوان، كان في الحقيقة عزًا، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مضمنًا له معنى الشفقة، فقال مبينًا أن تواضعهم عن علو منصب وشرف: {على المؤمنين} أي لعلمهم أن الله يحبهم {أعزة على الكافرين} أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم لعلهم أن الله خاذلهم ومهلكهم وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم، فالآية من الاحتباك: حذف أولًا البغض وما يثمره لدلالة الحب عليه، وحذف ثانيًا الثبات لدلالة الردة عليه؛ ثم علل ذلك بقوله: {يجاهدون} أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف كالمنافقين، وحذف المفعول تعميمًا ودل عليه مؤذنًا بأن الطاعة محيطة بهم فقال: {في سبيل الله} أي طريق الملك الأعظم الواسع المستقيم الواضح، لا لشيء غير ذلك كالمنافقين.
ولما كان المنافقون يخرجون في الجهاد، فصلهم منهم بقوله: {ولا} أي والحال أنهم لا {يخافون لومة} أي واحدة من لوم {لائم} وإن كانت عظيمة وكان هو عظيمًا، فبسبب ذلك هم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين- أمر بالمعروف أو نهي عن منكر- كانوا كالمسامير المحماة، لا يروِّعهم قول قائل ولا اعتراض معترض، ويفعلون في الجهاد في ذلك جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم من اليهود فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئًا ينكيهم.
ولما كانت هذه الأوصاف من العلو في رتب المدح بمكان لا يلحق، قال مشيرًا إليها بأداة البعد واسم المذكر: {ذلك} أي الذي تقدم من أوصافهم العالية {فضل الله} أي الحاوي لكل كمال {يؤتيه} أي الله لأنه خالق لجميع أفعال العباد {من يشاء} أي فليبذل الإنسان كل الجهد في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {واسع} أي محيط بجميع أوصاف الكمال، فهو يعطي من سعة ليس لها حد ولا يلحقها أصلًا نقص {عليم} أي بالغ العلم بمن يستحق الخير ومن يستوجب غيره، وبكل ما يمكن علمه. اهـ.