فصل: قال في البحر المديد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال في البحر المديد:

وللمحبة علامات وثمرات، ذكر بعضَها الحق تعالى بقوله: {أذلة على المؤمنين} أي: متواضعين عاطفين عليهم، {أعزة على الكافرين}، أي: القواطع، غالبين عليهم، {يجاهدون في سبيل الله} أي: أنفسهم وأهواءهم، {ولا يخافون لومة لائم}؛ إذ لا يراقبون سوى المحبوب، وليس للمحبة طريق إلا محض الفضل والكرم. {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}؛ لكن صحبة المحبوبين عند الله من أسبابها العادية، وهم أولياء الله الذين هم حزب الله، فولايتهم والقرب منهم من أسباب القرب والمحبة، ومن موجبات النظر والغلبة؛ {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}. اهـ.

.قال الفخر:

{يجاهدون في سَبِيلِ الله} أي لنصرة دين الله: {وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} وفيه وجهان:
الأول: أن تكون هذه الواو للحال، فإن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن من كان قويًا في الدين فإنه لا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه لومة لائم.
الثاني: أن تكون هذه الواو للعطف، والمعنى أن من شأنهم أن يجاهدوا في سبيل الله لا لغرض آخر، ومن شأنهم أنهم صلاب في نصرة الدين لا يبالون بلومة اللائمين، واللومة المرة الواحدة من اللوم، والتنكير فيها وفي اللائم مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون شيئًا قط من لوم أحد من اللائمين. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} بخلاف المنافقين يخافون الدوائر؛ فدلّ بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛ لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي لله تعالى.
وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف القوم بالمحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة، فبيّن تعالى أن كل ذلك بفضله إحسانه، وذلك صريح في أن طاعات العباد مخلوقة لله تعالى، والمعتزلة يحملون اللفظ على فعل الالطاف، وهو بعيد لأن فعل الألطاف عام في حق الكل، فلابد في التخصيص من فائدة زائدة.
ثم قال تعالى: {والله واسع عَلِيمٌ} فالواسع إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، ولما أخبر الله تعالى أنه سيجيء بأقوام هذا شأنهم وصفتهم أكد ذلك بأنه كامل القدرة فلا يعجز عن هذا الموعود، كامل العلم فيمتنع دخول الخلف في أخباره ومواعيده. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها في الفضل {فَضَّلَ الله} أي لطفُه وإحسانُه لا أنهم مستقلون في الاتصاف بها {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} إيتاءً إياه ويوفقُه لكسبه وتحصيلِه حسبما تقتضيه الحِكْمةُ والمصلحة {والله واسع} كثيرُ الفواضل والألطاف {عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها مَنْ هو أهلٌ للفضل والتوفيق، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله، وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: محبة الحقّ تعالى لعبده سابقة على محبته له، كما أن توبته عليه سابقة لتوبته، قال تعالى: {يحبهم ويحبونه}، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} [التّوبَة: 118]، قال أبو يزيد رضي الله عنه: غلطت في ابتداء أمري في أربعة أشياء: توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه، فلما انتهيت، رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته تقدمت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي من قبل طلبي له. اهـ.
وقال ابن عجيبة:
وفي الحكم: «أنت الذاكر من قبل الذاكرين، وأنت البادىء بالإحسان من قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين».
ومحبة الله لعبده: حفظه ورعايته، وتقريبه واصطفاؤه لحضرته، وقال القطب بن مشيش رضي الله عنه: المحبة أخذة من الله قلبَ من أحب، بما يكشف له من نور جماله، وقدس كمال جلاله، وشراب المحبة: مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعت بالنعوت، والأفعال بالأفعال. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِيِنِهِ فَسَوفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحبُّونَهُ}.
جعل صفة من لا يرتدُّ عن الدين أن اللهَ يحبه ويحبُّ الله، وفي ذلك بشارة عظيمة للمؤمنين لأنه يجب أن يُعْلَمَ أن من كان غير مرتد فإنَّ الله يحبه. وفي إشارة دقيقة فإن من كان مؤمنًا يجب أن يكون لله محبًا، فإذا لم تكن له محبة فالخطر بصحة إيمانه. وفي الآية دليل على جواز محبة العبد لله وجواز محبة الله للعبد.
ومحبة الحق للعبد لا تخرج عن وجوه: إمَّا أن تكون بمعنى الرحمة عليه أو بمعنى اللطف والإحسان إليه، والمدح والثناء عليه.
أو يقال إنها بمعنى إرادته لتقريبه وتخصيص محله.
وكما أن رحمته إرادته لإنعامه فمحبته إرادته لإكرامه، والفرق بين المحبة والرحمة على هذا القول أن المحبة إرادة إنعامٍ مخصوصٍ، والرحمة إرادة كل نعمة فتكون المحبةُ أخصَّ من الرحمة، واللفظان يعودان إلى معنًى واحد فإن إرادة الله تعالى واحدة وبها يريد سائر مراداته، وتختلف أسماء الإرادة باختلاف أوصاف المتعلق.
وأمَّا محبة العبد لله سبحانه فهي حالة لطيفة يجدها في قلبه، وتحمله تلك الحالة على إيثارِ موافقة أمره، وتَرْكِ حظوظ نفسه، وإيثارِ حقوقه سبحانه بكل وجه.
وتحصل العبارة عن تلك الحالة على قدر ما تكون صفة العبد في الوقت الذي يعبَّر عنه؛ فيقال المحبة ارتياح القلب لوجود المحبوب، ويقال المحبة ذهاب المُحِبِّ بالكلية في ذكر المحبوب، ويقال المحبة خلوص المحب لمحبوبه بكل وجه، والمحبة بلاء كل كريم، والمحبة نتيجة الهمة فمن كانت همته أعلى فمحبته أصفى بل أوفى بل أعلى.
ويقال المحبة سُكْرٌ لا صحوَ فيه ودَهَشٌ في لقاء المحبوب يوجِب التعطُّلَ عن التمييز، ويقال المحبة بلاء لا يُرْجَى شفاؤه، وسقام لا يعرف دواؤه. ويقال المحبة غريمٌ يلازمك لا يبرح، ورقيبٌ من المحبوب يستوفي له منك دقائقَ الحقوق في دوام الأحوال، ويقال المحبة قضية توجب المحبة؛ فمحبة الحق أوجبت محبة العبد.
قوله جلّ ذكره: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
لولا أنه يحبهم لما أحبهم، ولولا أنه أخبر عن المحبة فأنَّى تكون للطينة ذِكْرُ المحبة؟ ثم بيَّن الله تعالى صفة المحبين فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ}. يبذلون المُهَجَ في المحبوب من غير كراهة، ويبذلون الأرواح في الذَبِّ عن المحبوب من غير ادخار شظية من الميسور.
ثم قال تعالى في صفتهم: {يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ} أي يجاهدون بنفوسهم من حيث استدامة الطاعة، ويجاهدون بقلوبهم بقطع المنى والمطالبات، ويجاهدون بأرواحهم بحذف العلاقات، ويجاهدون بأسرارهم بالاستقامة على الشهود في دوام الأوقات.
ثم قال: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ} أي لا يلاحظون نُصْحَ حميم، ولا يركنون إلى استقلال حكم، ولا يجنحون إلى حظ ونصيب، ولا يزيغون عن سَنَنِ الوفاء بحالٍ.
ثم بيَّن سبحانه أن جيمع ذلك إليه لا منهم فقال: و{ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} متفضِّلٌ عليم بِمَنْ يَخُصَّ بذلك من عبيده. اهـ.

.من فوائد ابن القيم:

قال عليه رحمة الله:
اعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلت القلوب على محبته وفطرت الخليقة على تألهه وبها قامت الأرض والسموات وعليها فطر المخلوقات وهي سر شهادة إن لا إله إلاّ الله فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع وتعبده والعبادة لا تصح إلاّ له وحده والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله والله سبحانه يحب لذاته من سائر الوجوه وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته.
وقد دل على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة ودعوة جميع رسله صلى الله عليه وسلم أجمعين وفطرته التي فطر على ها عباده وما ركب فيها من العقول وما أسبغ على هم من النعم فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم على ها وأحسن إليها فكيف بمن كل الإحسان منه وما بخلقه جميعهم من نعمه وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} الآية وما تعرف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العليا وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته.
والمحبة له داعيين: الجلال والجمال والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك فإنه جميل يحب الجمال بل الجمال كله له والإجلال كله منه فلا يستحق إن يحب لذاته من كل وجه سواه قال الله تعالى: {قُلْ إن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عليمٌ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فإن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} الآية.
والولاية أصلها الحب فلا موالاة إلاّ بحب كما إن العداوة أصلها البغض والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه فهم يوالونه بمحبتهم له وهو مواليهم بمحبته لهم فالله يوالي عبده المؤمن بحسب محبته له.
ولهذا أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه أولياء بخلاف من يبك أولياءه فإنه لم يتخذهم من دونه بل موالاته لهم من تمام موالاته.
وقد أنكر على من سوى بينه وبين غيره في المحبة وأخبر إن من فعل ذلك فقد اتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وأخبر عمن سوي بينه وبين الأنداد في المحبة أنهم يقولون في النار لمعبوديهم {تَاللَّهِ إن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وبهذا التوحيد في الحب أرسل الله سبحانه جميع رسله صلى الله عليه وسلم وأنزل جميع كتبه وأطبقت عليه دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم ولأجله خلقت السموات والأرض والجنة والنار فجعل الجنة لأهله والنار للمشركين به فيه.
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» فكيف بمحبة الرب جل جلاله؟ وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا حتى أكون أحب إليك من نفسك» أي لا تؤمن حتى تصل محبتك لي إلى هذه الغاية.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولي بنا من أنفسنا بالمحبة ولوازمها أفليس الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالي جده ولا إله غيره أولي بمحبته وعبادته من أنفسهم؟ وكل ما منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبة مما يحب العبد ويكرهه فعطاؤه ومنعه ومعافاته وابتلائه وقبضه وبسطه وعدله وفضله وأمانته وإحياؤه ولطفه وبره ورحمته وإحسانه وستره وعفوه وحلمه وصبره على عبده وإجابته لدعائه وكشف كربه وإغاثة لهفته وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه كل ذلك داع للقلوب إلى تألهه ومحبته بل تمكينه عبده من معصيته وإعانته عليه وستره حتى يقضي وطره منها وكلائته وحراسته له وهو يقضي وطره من معصيته وهو يعينه ويستعين عليها بنعمه من أقوى الدواعي إلى محبته فلو إن مخلوقا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع إساءته؟ فخيره إليك نازل وشرك إليه صاعد يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه والعبد يتبغض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته ولا معصية العبد ولومه يقطع إحسان ربه عنه.